“بالومانيا”.. استكشاف العالم السري لصناعة البالونات العملاقة المحرمة

يعيد الفيلم الدنماركي “بالومانيا” (Balomania) إلى الأذهان مفهوم الفيلم الوثائقي، بوصفه إبداعا بصريا لا حدود له، يقارب كل مناحي الحياة، ويصل إلى أبعد زاوية فيها، يكشف خبايا العالم المحيط بنا ويستقصي حقيقتها، ويجعل تشكيل تصور جديد عنها ممكنا.

هذا ما تؤكده مشاهدة وثائقي المخرجة الدنماركية “سيسيل موريل دارغيس” ومغامراتها للوصول إلى صنّاع البالونات والمناطيد العملاقة في البرازيل، الذين يجدون حريتهم في صنعها بمهارة لافتة في قوة إتقانها وجمالها.

في مجتمع تتقلص فيه الحريات ويسود مؤسساته الفساد، لا يجد هؤلاء بديلا عن الانشغال بهذا العالم الساحر، الذي تراه الشرطة نشاطا “خطرا”، أما هم فيسخرون من هذا الوصف، ويمضون في مغامراتهم السرية والتنافس فيما بينهم لصناعة أكبر بالون يطلق في سماء البرازيل، لينير ظلمتها ويفرح الناظر إليها.

مخرجة قادمة من عالم فن الغرافيتي

رغبة المخرجة “سيسيل” في الوصول إلى صناع البالونات وعالمهما، إنما هي متأتية من اهتمامها بفن الغرافيتي، فقد مارسته في شبابها، وتعرف حجم التحديات التي تواجه المنغمسين في هذا النشاط المعبر عن مواقف سياسية واجتماعية تخشاها السلطات.

تقارب “سيسيل” ذلك الشغف بعرضها وثائقيين (فيديو)؛ أما الأول فتظهر فيه وهي ترسم شعارات ورسومات غرافيتية على جدران مدينة دنماركية، بعيدا عن أنظار الشرطة، والثاني في العاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو، وتظهر فيه مجموعة من مطاردي البالونات الساقطة على الأرض، وهم يستعدون لمغامرة الحصول عليها.

الملصق الدعائي للفيلم

تعدّ هذه الممارسة جزءا من أصول لعبة إطلاق البالونات العملاقة في البرازيل، ولمطاردتها يركبون السيارات ويسرعون لالتقاط ما سقط منها، فإيجاد واحدة منها بعد مطاردة قد تدوم ساعات طويلة يعد فوزا عظيما لدى هواة صناعة البالونات ومطاردتها.

ولا يقتصر الأمر على مطاردتها في اليابسة، بل في البحر أيضا، ويتطلب ذلك مهارة وإعدادا كبيرين.

تعويض نفسي عن الحرمان والفقر

من خلال تعليقات المخرجة “سيسيل” وحماستها لخوض التجربة بنفسها، تتولد عند صناع البالونات ثقة بها، فيسهل ذلك دخولها لعالم شديد السرية، ثم إن تقربها منهم وملازمتهم سنوات تمكّنها من التعرف على أفكارهم وأسباب تشبثهم بهواية لا يجنون منها مالا، بل إنها تعرضهم للمساءلة القانونية وملاحقة الشرطة.

فكل هاوٍ لصناعة المناطيد والبالونات العملاقة يعد نفسه فنانا، لأنه حسب قناعته يصنع تحفا فنية من الورق الملون والقماش الناعم، ويجد في إطلاقها نوعا من التحدي لموانع يفرضها عليهم النظام الرأسمالي، الذي لا يقدم لهم سوى الفقر والبطالة.

مطاردة البالون الساقط في البر والبحر

يتوصل الوثائقي إلى حقيقة أن هذا النشاط السري مقتصر على الرجال، وأن التجمعات السكنية الفقيرة في المدن الكبيرة وبيوت الصفيح هي مركزه الأساسي، وتحمل رسوماتها الدقيقة -في الغالب الأعم- تعبيرات عن أحلام هؤلاء الفقراء.

فهم يجدونها مناسبة لعرض صور أبطالهم ومن يمثل تطلعاتهم نحو خلاص من بؤس يعيشونه، ويستغربون التهويل الإعلامي الذي يصورهم مجرمين وعصابات، فهكذا تصفهم الشرطة، وتتذرع لمطاردتهم ليل نهار، وكان أجدر بها -كما يقولون- أن تلاحق تجار المخدرات وعصابات الجريمة المنظمة المنتشرة في كل المدن البرازيلية، وتعجز عن إيقاف نشاطاتها.

وعن أصولها وجذورها التاريخية، يُرجعون هواية صنع البالونات الكبيرة وإطلاقها إلى تقليد ديني يعود لما يقارب 300 سنة، يوم كانت الكنيسة الكاثوليكية تشجع على إطلاقها في المناسبات الدينية.

إلهاء الرأي العام.. تواطؤ بين العصابات والإعلام الفاسد

يلمّح بعض المشاركين في الوثائقي إلى تواطؤ حاصل، بين وسائل إعلام متعاونة مع رجال الشرطة الفاسدين، وبين العصابات التي تغطي نشاطها الإجرامي بإشغال الرأي العام بالبالونات.

سماء ساو باولو البرازيلية تتزين بجمال منطاد عملاق

أما صناع البالونات فيرون أن انشغال الشباب بصناعتها يبعدهم عن الشوارع الخطرة، وهي وسيلة ناجحة لتجنب الشباب -ولا سيما الفقراء- ممارسة نشاطات خطيرة مثل تجارة المخدرات والسرقة وغيرها من أفعال مشينة.

ويقدم هؤلاء أرقاما مخيفة عن حجم انتشار الجريمة في المدن البرازيلية، فعدد ضحاياها في العام الواحد يبلغ أكثر من 60 ألف إنسان، لذا تبدو مطاردة الشرطة لهم غير مبررة، مع اعترافهم بأن إطلاق البالونات -لا سيما المرفقة بالفوانيس- يشكل خطرا وقد يتسبب في حرائق، لكنها في كل الأحوال تبقى قليلة، ولا تقارن بالنشاط الإجرامي للعصابات وتجار المخدرات.

لقاء “العراب” الحكيم

لا تكتفي المخرجة بالمعلومات المقتضبة التي يقدمها بعض المشاركين في مطاردة البالونات، فتطلب منهم معرفة الآلية التي يعمل بها صانعوها، ومن يدير نشاطاتهم، ومواقع صنع المناطيد والبالونات التي يبلغ طول إحداها أحيانا أكثر من 70 مترا.

كل بالون يحمل صورة هي رمز للبطل المنشود

تطرح “سيسيل” تلك الأسئلة على عدد قليل من صناعها قد تعرفت عليهم، وهم يتكتمون بشدة على الأمكنة التي ينجزون فيها تحفهم الملونة، خوفا من رجال الشرطة، لكنهم يبوحون لها ببعض المعلومات السرية، منها أنهم ليسوا مجموعة واحدة بل فرقا شتى، كل فريق يعمل بنفسه، لكن ثمة مرجعية لهم يمثلها أناس أدوا أدورا مهمة في انتشار الهواية، ومنهم “العراب”.

يقود بحث “سيسيل” عن العراب إلى “سيرجيو”، فيتوجس منها أول الأمر، مشككا في احتمال تعاونها مع رجال الشرطة، ولكن ملازمتها لعدد من صناع البالونات الذين اختارتهم ليكونوا ممثلين عن بقية الهواة، شجعه على مقابلتها له في الورشة التي يعمل فيها.

“صانع البالونات الجيد يلون السماء ولا يحرق الأرض”

يؤمن الرجل سيرجيو العراب بمقولة يرددها أمام زملائه باستمرار؛ ألا وهي “صانع البالونات الجيد هو من يلون السماء ولا يحرق الأرض”، ولهذا يتجنب صناعة بالونات قد تحمل معها خطرا يضر بالناس.

يرسمون صور البالونات التي يحبونها أوشاما على أجسادهم

وإلى بيت “العراب سيرجو” تذهب “سيسيل”، ثم تقابل زوجته، فتجدها تعيش معه حياة سعيدة، مع أنها تشكو طول غيابه عن المنزل، بسبب انشغاله في صنع البالونات.

تبيّن زيارة الورشة السرية دقة وبراعة ما ينجزه فريقه من خامات ورقية وأقمشة، ويتضح لها من خلالها الجهد الكبير المبذول لإتمام تلوين أجزائها، وإلصاق بعضها ببعض، ناهيك عن الزمن الطويل الذي يستغرقه إنجاز كل بالون، فقد يبلغ أحيانا عدة سنوات.

ملاذ من أثقال الحياة في مدينة الهواة

يتوقف الوثائقي طويلا عند تجربة “غابا”، وهو صانع بالونات شاب طموح من مدينة ساو باولو، يضحي بالكثير لتحقيق حلمه في إطلاق بالون يبلغ ارتفاعه 72 مترا، ويحمل صورة ولده الصغير.

فبعد انفصاله عن زوجته تباعدت لقاءاته بابنه، ولكنه يحرص على الاهتمام به والتعبير الدائم عن حبه له، وهو يعمل بسرية مطلقة، خشية رجال الشرطة، ومنافسيه الذين يشك أن بعضهم يتعاونون مع الشرطة، ويسربون لهم معلومات عن أمكنة صنع البالونات وأصحابها.

ملاحقة رجال الشرطة الدائمة للمناطيد وأصحابها

يرى “غابا” مدينته مثالا على اتساع شعبية الهواية، فعدد ممارسيها فيها أكثر من مليوني نسمة، ويحضر لحظة إطلاق كل بالون فيها مئات الآلاف من المتفرجين، ولذا يعد مطاردة الشرطة لهم عديمة الجدوى.

ومع ذلك ينبه إلى دور وسائل الإعلام السيئ، فبسببه بات كثير من الناس يرونهم خطرين، ويدعون إلى تجنب مخالطتهم والتقرب منهم. وهذا يولد حزنا في دواخله، لكنه يصر على ممارسة هوايته، فهو يراها ملاذا يهرب إليه من مشاكل الحياة التي يريد نسيانها، بدلا من اللجوء إلى أساليب غير شريفة للكسب السريع، مثل السرقة وتجارة المخدرات.

ويرسم محبو هذه الهواية على أجسادهم أوشاما تدل على مدى تعلقهم بها، فهي تشعرهم بأهميتهم وأنهم بشر أسوياء، يريدون تحقيق أحلامهم البسيطة، رغما عن الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.

فرحة نادرة لا يمكن وصفها

تحضر المخرجة “سيسيل” الإطلاق السري لبالون “غابا” العملاق في مكان مجهول من مدينة ساو باولو، وبعد نجاح إطلاقه تراقب فرحة صناع البالون والمشاركين في إنجازه.

 

لا أحد يتصور مدى فرحتهم بإنجازهم الذي لا يجنون منه ربحا، وهم يكرسون له كل أوقاتهم، فمنذ مرافقتها لهم وثمة سؤال يخطر في بالها عن مصادر تمويلهم، لا سيما وصناعة البالون الواحد تكلف مالا كثيرا.

 

في عتمة الليل وبسرية تامة تقع عملية الإطلاق

لا أحد يتصور مدى فرحتهم بإنجازهم الذي لا يجنون منه ربحا، وهم يكرسون له كل أوقاتهم، فمنذ مرافقتها لهم وثمة سؤال يخطر في بالها عن مصادر تمويلهم، لا سيما وصناعة البالون الواحد تكلف مالا كثيرا.

وللتوصل إلى الجواب تعود إلى “العراب”، فيسرب لها معلومة تفيد بأنهم ينالون مساعدات مالية محدودة، من داعمين يقدمونها لهم خلال المسابقات التي ينظمونها سنويا لاختيار أجمل بالون.

عقوبة السجن.. فرصة رجال الشرطة للابتزاز

لا تغطي المساعدات تكاليف صنع البالونات كلها، ولا توفر مصدرا ماليا لصناعها، لذا يلجأ “غابا” للعمل في مرأب لوقوف السيارات، براتب يسير يقبل به لكونه ليست له شهادة مدرسية تعينه على إيجاد عمل أفضل.

الحديث عن العمل يقوده إلى الحديث عن الفقر المستشري في البرازيل، وإلى الفوارق الطبقية الكبيرة بين الفقراء من عامة الشعب، وبين النخب الغنية المقربة من السلطة.

فرحة لا يمكن وصفها بعد نجاح إطلاق بالون عملاق

وبعد وقت وجيز من حديثها معه، تصدر الحكومة قرارا جديدا يرفع مدة العقوبة على المدان بصناعة البالونات، إلى ما بين 5-8 سنوات، وقد دفع ذلك كثيرا منهم لترك هوايتهم، خوفا من العقوبة التي تلازمها عادة تبعات أخرى سيئة تتحملها عوائلهم.

يدفع رفع مدة العقاب صانعة الوثائقي للبحث عن أسبابه الخفية، وبعد التحري وجدت أن المستفيد الأكبر منه هم الفاسدون من رجال الشرطة، فهم يجنون مالا بإجبار من يعتقلونهم على دفع رشوة مالية كبيرة، بدلا من تسليمهم إلى مراكز الشرطة وتلقي العقوبة.

إشاعات كاذبة وتهديدات من مجهولين

كانت الحملة المنظمة ضد هواة البالونات ضخمة، حتى أنها طالت المخرجة “سيسيل” أيضا، فقد جاءتها اتصالات هاتفية غامضة من جهات مجهولة، تنذرها من مغبة مواصلة مشروعها، وأن من الأفضل لها ترك التصوير والمغادرة إلى بلدها.

من الورق والأقمشة الرقيقة تتشكل تحف تبلغ عنان السماء

قررت “سيسيل” العودة إلى كوبنهاغن، لإكمال مشروعها من هناك، فقد أشيعت أخبار كاذبة عن تعاونها مع رجال الشرطة، وخشيت ردود فعل عنيفة ضدها من قبل صناع البالونات.

وفي بلدها يصلها خبر وفاة “العراب” إثر نوبة قلبية، ولم تحضر جنازته، لكنها بعد سنوات عادت لإنجاز ما كان ينقص فيلمها، فقابلت من تعرفت عليهم من قبل، فوجدت بعضهم منشغلا بشؤون حياته، لكن كثيرا منهم ما زال مصرا على صناعة البالونات ومطاردتها، ما دامت تولد لديه لحظة من الفرح، وتمنحه إحساسا رائعا بالحرية، تقارب حرية البالونات وهي تجوب السماء، بكل بهاء وجمال من دون عوائق.


إعلان