الابتهالات الدينية.. أصوات القلوب الخاشعة في متاهة التكنولوجيا

يقترب آذان الفجر، وتبدأ الشوارع تتخفف من أعباء وارديها، وتغلق المحلات التجارية أبوابها، لتبدأ أنوار السماء تظهر، ويسير السائرون إلى المساجد استعدادا لصلاة الفجر في رمضان من كل عام، في حين يطرق مسامعهم ذلك الصوت وتلك النداءات التي تمس شغاف القلب، وتؤنس الروح، فيرددون معها:
مولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
أقُومُ بالليّل والأسحارُ سَاهيةٌ
أدعُو وهَمسُ دعائي.. بالدُموع نَدي
إنها الابتهالات أو التواشيح التي تبرز في ليالي رمضان، وقد أصبحت بمرور الزمن جزءا أساسا من الوجدان الشعبي، وهي فن شعري مستحدث ظهر في الدولة الأندلسية، وأصبح من ثوابت الاحتفالات الدينية في الدولة الفاطمية بمصر، وهو يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي، بالتزامه قواعد معينة، وباستعماله اللغة الدارجة أو الأعجمية أحيانا، ثم باتصاله القوي بالغناء، وهو شكل يمزج الدعاء والغناء، ويصنع حالة من الجلال والشجن والمحبة.

وبتاريخ من التجلي، شهدت الأناشيد والابتهالات ما شهدته المجتمعات الإسلامية من تحوّلات كبيرة بفعل التكنولوجيا، وانتقلت من الأداء الصوتي التقليدي -المعتمد على الحفظ والمقامات الشرقية- إلى أشكال أكثر حداثة، تعتمد على التوزيع الموسيقي، والمؤثرات الصوتية.
وبدلا من الأداء في مواجهة الجمهور أو البث الإذاعي فقط، انتقلت إلى البث الرقمي عبر المنصات، وتأثرت الحالة الروحانية الصافية بشكل ما بالنسبة لجيل يشعر بغربة تجاه التغييرات الحداثية، في حين شعر جيل جديد بالألفة مع التغييرات نفسها، ومع كل تلك التحولات تبقى الأناشيد والابتهالات حالة فنية روحية، تمزج بين الحب الخالص واليقين التام والسمو.
علي محمود.. مؤسس التيار الإنشادي في مصر
كانت الابتهالات تُقدَّم مباشرة أو تُسجل بتقنيات بدائية عبر الإذاعة، مثل تسجيلات الشيخ طه الفشني وسيد النقشبندي، واعتمدت على الصوت النقي بلا مؤثرات، مما منحها طابعا روحانيا مميزا، فكان التركيز على الأداء الصوتي والمقامات الموسيقية.
يُعد الشيخ علي محمود المؤسس الحقيقي للإنشاد الحديث، وقد ولد عام 1887، وتوفي عام 1946. ومع أنه ذو مسيرة فنية طويلة، فإن أغلب أعماله مفقودة، ولم يبقَ إلا قليل مما قدمه في السنوات العشر الأخيرة من حياته، لكنه علّم جيلا حمل راية الإنشاد بعده.

اشتهر الشيخ علي محمود بأذانه في جامع الحسين، وكان يؤذن كل مرة من المئذنة الخضراء، ولا يكرر الأذان إلا في العام التالي من مقام مختلف. وخلفه الشيخ طه الفشني، ومحمد الفيومي، وكامل يوسف البهتيمي، وكما كان معلما للإنشاد، فقد علّم التلحين لكثيرين، منهم محمد عبد أحمد، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وأسمهان.
ويذكر أن ملك مصر فؤاد الأول عقد عام 1930 مؤتمرا عربيا لتوحيد المقامات الموسيقية، وكان معظم حضوره من المشايخ المصريين، وعلى رأسهم الشيخ علي محمود.
وعرف الشيخ طه الفشني المعروف بصوته الحسن، وقد كان صاحب مدرسة متفردة في التلاوة والإنشاد، وكان قارئ مسجد السيدة سكينة منذ عام 1940م إلى وفاته، وكان الملك فاروق يداوم على حضور حلقاته.
وقد ولد الشيخ الفيومي كفيفا عام 1905، وأوتي حنجرة قوية وأذنا موسيقية، وتعلم القرآن ودرس في الأزهر، فنشأ متقنا لعلم المقامات والإنشاد الديني، وعمل مؤذنا لجامع الحسين، خلفا للشيخ علي محمود. وقد ظهر في فيلم “عزيزة” (1954) وفيلم “رصيف نمرة خمسة” (1956).
نصر الدين طوبار.. نجاح بعد طرق متكرر لأبواب الإذاعة
وُلد الشيخ نصر الدين طوبار عام 1920، وتوفي عام 1986، وقد بدأ حياته في الكتاتيب، كمعظم المنشدين والمقرئين المصريين، فتميز صوته بالدفء والإحساس المرهف، ومع ذلك فقد فشل في الالتحاق بالإذاعة 6 مرات متتالية، وفي المرة السادسة قال راثيا نفسه:

بكَ أستجيرُ فمن يجيرُ سواكَا .. فأجر ضعيفا يحتمي بحِماكا
إني ضعيفٌ أستعينُ على قُوى .. ذَنبي ومَعصِيَتي ببعضِ قُواكا
أذنبتُ يا ربي وآذتنـي ذُنو .. بي، ما لَهـا مـن غافر إلّاكَا
لكنه عاد ونجح في المرة السابعة، وأصبح من كبار المنشدين في مصر والعالم الإسلامي. وله عشرات الابتهالات الرائعة، أبرزها “أشرق الحق”.
وكانت له أعمال مع كبار الشعراء، منهم أديب القارة الهندية وشاعرها محمد إقبال الباكستاني، الذي أنشد له طوبار قصيدة في مدح السيدة فاطمة الزهراء، ناهيك عن أكثر من 200 ابتهال وموشح ديني.
كما يعد النقشبندي من أبرز المنشدين المصريين، وارتبط اسمه بليالي رمضان ولحظات الإفطار، وله أعمال عظيمة مع كبار الملحنين في مصر، ومنهم سيد مكاوي، وزكريا أحمد، وغيرهما، إضافة إلى أعمال مع المنشد السوري توفيق المنجد.
ثورة الأشرطة
كان ظهور شرائط الكاسيت في النصف الثاني من القرن العشرين نقطة تحول في تاريخ الابتهالات والتواشيح الدينية، فقد حسّن جودة الأداء، ووسع نطاق التسويق، وعزز التجربة الوجدانية، ووسع دائرة الانتشار العالمي. ومع أن بعض الناس رأوا أن الشريط أقل روحية من البث الحي، فإنه بلا شك خلّد أعمال كبار المنشدين، وحفظها للأجيال القادمة.
كان الأداء المباشر قبل ظهور شرائط الكاسيت هو الوسيلة الأساسية لتقديم الابتهالات والتواشيح، سواء في المساجد أو الإذاعات الرسمية، فأصبح المنشدون يعتمدون على التفاعل المباشر مع الجمهور.
ومع انتشار الأشرطة، تغير أسلوب الأداء فأصبح أكثر دقة وتحريرا، وأُتيح للمنشدين إعادة التسجيل حتى الوصول إلى الأداء المثالي بلا أخطاء، فتحسنت الجودة الصوتية، كما سُمح للشريط بإدخال المؤثرات الصوتية البسيطة، مثل الصدى والتوازن الصوتي، مما أضفى طابعا جديدا على بعض التسجيلات.

وقد اتجه الشيخ سيد النقشبندي في بعض تسجيلاته إلى تطوير أدائه، ليتناسب مع التسجيلات الحديثة، كما يظهر في ابتهاله “مولاي.. إني ببابك”، التي سجلها في إستوديوهات الإذاعة، وأعيد إنتاجها بشكل يتناسب مع تقنيات الصوت الجديدة.
أسهم الشريط في جعل الابتهالات منتجا تجاريا يباع في الأسواق، فبدأت شركات الإنتاج تسجل أعمال المنشدين وتوزعها على نطاق واسع، وظهر منشدون مستقلون لم يكونوا مرتبطين بالإذاعة الرسمية، منهم الشيخ طه الفشني، الذي شقت تسجيلاته غير الرسمية طريقها إلى الجمهور عبر الشريط.
وقد أصبح ممكنا إعادة إنتاج الابتهالات وبيعها في عدة أشكال، منها إصدارات متنوعة من نفس الابتهال بموسيقى خلفية أو بدونها، كما فعلت بعض شركات الإنتاج مع تسجيلات الشيخ نصر الدين طوبار.
تسجيلات تفقد جانبها العفوي وتخلد أصحابها
أدى انتشار الشريط إلى تغيير طريقة تفاعل الجمهور مع الابتهالات والتواشيح، فلم تعد تجربة الاستماع مقصورة على الأماكن الدينية والمناسبات الخاصة، بل أصبح بإمكان المستمع أن يعيش التجربة الروحية في أي وقت وأي مكان.
ورأى بعض المستمعين رأوا أن التسجيلات الحديثة أفقدت الابتهالات جانبها العفوي والوجداني، فقد كان للأداء الحي طابع مميز يرتبط بالموقف الذي يُؤدى فيه، لكن شرائط الكاسيت أتاحت الفرصة للإنصات المتأمل والمتكرر، فتعمّق الارتباط الروحي لدى المستمعين، لا سيما مع الابتهالات التي تحمل معاني وجدانية قوية، مثل “يا مالك الملك” للشيخ سيد النقشبندي.
وساعدت شرائط الكاسيت في انتشار الابتهالات والتواشيح الدينية خارج حدود الدول العربية، فوصلت تسجيلات كبار المنشدين للجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا وآسيا، وأصبح ممكنا أن يسمع المسلمون في ماليزيا أو إندونيسيا وحتى في المهاجر الأوروبية ابتهالات الشيخ محمد عمران، والشيخ نصر الدين طوبار، وهو أمر لم يكن ممكنا قبل ظهور الشريط.
كما وثقت شركات الإنتاج عددا من التواشيح القديمة وأعادت توزيعها، فحفظت التراث الصوتي من الاندثار، وانتشرت تسجيلات الشيخ سيد النقشبندي في دول منها باكستان وتركيا، فاستخدمت بعض مقاطع ابتهالاته في المهرجانات الدينية هناك.
الابتهالات الرقمية.. جسر تفاعلي مع الجمهور
شهدت الابتهالات تطورات كبيرة مع ظهور الملفات الصوتية الرقمية “إم بي 3″، والأقراص (CD)، ومنصات الفيديو مثل يوتيوب، فأضافت أبعادا جديدة في الأداء والتسويق والتفاعل الجماهيري والانتشار العالمي.
وأتاحت تقنية “إم بي 3” تسجيل الابتهالات والتواشيح بجودة عالية بلا حاجة إلى إستوديوهات متخصصة، فمنحت الفرصة لمواهب جديدة لم كن لها قدرة على تسجيل أعمالها في السابق، وسمح هذا بتسجيل الابتهالات بأداء أكثر نقاء مع تقنيات مزج الصوت، مثل إضافة صدى صوتي أو إعادة تعديل الطبقات الصوتية.
ويظهر ذلك واضحا في الابتهالات القديمة، ومنها “مولاي إني ببابك” لسيد النقشبندي، وقد أعيدت معالجتها بجودة رقمية، وأتيحت في صيغة ملفات “إم بي 3″، مما ساعد في استمرار انتشارها بعد مرور عدة عقود.
ومكّنت الملفات الصوتية الرقمية المستمعين من تحميل الابتهالات بسهولة على أجهزتهم المحمولة، ومشاركتها عبر تطبيقات المراسلة.
ولم يعد سماع الابتهالات مرتبطا بشراء شريط كاسيت أو أسطوانة، بل أصبح متاحا في أي وقت عبر منصات الموسيقى، مثل “ساوند كلاود” و”آي تيونز”.
ولم يكن تأثير ظهور الأقراص أقل من الملفات الرقمية، فقد ازدادت جودة التسجيل، وقدمت نقاء صوتيا أعلى مقارنة بالأشرطة، وبدأت شركات الإنتاج تقدم ألبومات كاملة، تضم مجموعة متنوعة من الابتهالات والتواشيح، مما منح المستمع تجربة أكثر تنوعا، ومنها ألبومات الشيخ طه الفشني، التي أُعيد إنتاجها على أسطوانات مدمجة، وحُسّنت جودتها وأعيد توزيعها في الأسواق الحديثة.
وبدأت بعض شركات الإنتاج تعامل الابتهالات على أنها محتوى تجاري، فأُعيد تسجيل بعض التواشيح بأسلوب يناسب طبيعة السوق، وأضيفت لها خلفيات موسيقية، أبرزها ألبوم “إلى الله” للمنشد عبد الرحمن محمد، الذي أعاد تقديم الابتهالات العتيقة بتوزيع موسيقي عصري، يناسب جمهور الشباب.
لكن الأثر الأهم والأكبر هو توثيق الابتهالات والتواشيح القديمة وإعادة إحيائها للأجيال الجديدة، ولا سيما تواشيح الشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد عمران على أسطوانات رقمية مدمجة للحفاظ عليها من التلف الذي كان يصيب أشرطة الكاسيت القديمة.
وساعد يوتيوب في دفع الابتهالات والتواشيح إلى الجمهور العالمي في أي وقت ومن أي مكان، بلا حاجة إلى شراء تسجيلات مادية، وأصبح المنشدون قادرين على بلوغ جمهور أوسع، من خلال نشر مقاطع فيديو من أدائهم، والتفاعل أكثر مع الجمهور عبر التعليقات.
وقد منح يوتيوب فرصة لمنشدين جدد بالظهور بلا حاجة إلى شركات إنتاج، فأصبح ممكنا تسجيل الابتهالات ونشرها بشكل مستقل، مما أدى لظهور مواهب جديدة.
الموسيقى والإنشاد.. تأثيرات تفسد الطابع الروحاني
يؤثر التوزيع الموسيقي تأثيرا كبيرا على روح الإنشاد، فيمكن أن يضيف لمسات جمالية تزيد التأثير الروحاني، لكنه قد يُفقد الإنشاد أصالته إذا لم يُستخدم بحذر. فالتوازن بين الحفاظ على روح الإنشاد، وإضافة لمسات موسيقية حديثة هو مفتاح تحقيق إنشاد ديني معاصر، لا يفقد جوهره الروحاني.
وكان الإنشاد الديني يعتمد في الأصل على الصوت البشري فقط، وفي بعض الأحيان يكون مصحوبا بإيقاع الدف. ومع دخول التوزيع الموسيقي، أصبح الإنشاد أكثر تعقيدا من حيث التوزيع الصوتي، مما أدى إلى تغيير أسلوب الأداء التقليدي.
جاء التأثير إيجابيا في تسجيلات الشيخ سيد النقشبندي، فقد كان صوته في التسجيلات الأصلية هو العنصر الأساسي في الأداء، لكن في التجارب الحديثة أضيفت خلفيات موسيقية، جعلت الابتهالات تبدو أكثر انسجاما مع الذوق المعاصر، لكنها في بعض الأحيان فقدت روحها الروحانية الأصلية.
ويبقى التوزيع الموسيقي مغامرة، فقد يثري حالة الإنشاد الوجدانية، لكنه قد يُضعف روحانية الأداء إذا لم يكن متوازنا، لأن بعض الألحان الموسيقية تزيد التأثير العاطفي، لكن بعضها الآخر يجعل الإنشاد أقرب إلى الغناء الدنيوي، مما يضعف عنصر الخشوع.
وعلى العكس تماما، تستخدم بعض الأناشيد الحديثة آلات منها الكمان والبيانو، بطريقة درامية تجعل الإنشاد يبدو أقرب إلى الأغاني العاطفية، مثل بعض أعمال الفرق الدينية المعاصرة التي تأثرت بالطابع الغربي.
وقد يؤدي التوزيع الموسيقي الحديث إلى فقدان الهوية التراثية في الإنشاد الديني، فيستبدل الأداء العربي التقليدي بإيقاعات عالمية غير متناسقة مع روح الإنشاد، وهو ما حدث مع إعادة توزيع بعض أعمال الشيخ طه الفشني والشيخ نصر الدين طوبار، بإضافة خلفيات موسيقية غربية، مما أدى إلى تغيير روح المديح التقليدي، وجعله يبدو كأنه موسيقى تصويرية لفيلم، أكثر منه ابتهالا دينيا.
أدت التكنولوجيا إلى تطور كبير في الأناشيد والابتهالات، فوسعت جمهورها وحسنت جودتها، لكنها أثارت تساؤلات حول مدى تأثير الموسيقى الرقمية والمؤثرات على روحانية هذا الفن. يبقى التحدي الرئيسي في تحقيق توازن بين الأصالة والتحديث، بحيث تحافظ الأناشيد على جوهرها الروحي، مع مواكبة متطلبات العصر الرقمي.