موائد الإفطار.. تاريخ متقلب في الأفلام والمسلسلات الرمضانية

تشهد دراما رمضان هذا الموسم (2025) غيابا شبه تام للمظاهر الرمضانية، وكانت جزء أساسيا من المسلسلات التي كان صناعها يستهدفون التماهي مع أجواء الشهر الكريم سنوات كثيرة، وقد كانت موائد الإفطار عنصرا رئيسا فيها، فكانت تعكس أبعادا اجتماعية وثقافية ودينية، تتراوح بين تصوير اللحظات العائلية الحميمية، وبين المبالغة الدرامية التي تجعلها مشاهد استعراضية.

وقد تطور تناول الدراما الرمضانية عبر الزمن، من الواقعية الصادقة في السينما المصرية والعربية إلى الأساليب الحديثة في الدراما التلفزيونية، التي أصبحت أحيانا تميل إلى التصنع والمبالغة. وكان مشهد الإفطار يستخدم في العمل الفني لإبراز العلاقات الأسرية، وتحديد طبقة أصحاب المائدة. ومع تطور الدراما، بدأ تصوير موائد الإفطار يتحول من مشاهد عائلية واقعية إلى استعراض بصري مبالغ فيه، يعكس أحيانا فخامة زائفة، أو مشاهد صراع درامي مبالغ فيه.

وفي بعض المسلسلات البوليسية أو أعمال الحركة، أصبح مشهد الإفطار لحظة درامية صادمة، كما ظهر في مسلسل “الاختيار” (2020)، فقد شهدت مائدة الإفطار مواقف مشحونة، مثل اغتيال إنسان، أو وقوع خيانة مفاجئة.

ومع أن تناول رمضان في السينما العالمية محدود، فإن بعض الأفلام سلطت الضوء على الإفطار، بوصفه حدثا دينيا وثقافيا، لا سيما الأفلام التي تتناول المسلمين في الغرب.

ولم تكن تلك التحولات الدرامية إلا انعكاسا لتحولات الواقع الاجتماعي المصري خلال السنوات الماضية، ليس فقط على مستوى الفرز الطبقي، وظهور طبقات جديدة في قمة المجتمع ذات مال كثير وقيم قليلة، وأخرى لا مال لها ولا قيم، وتقع على هامش الهامش في العشوائيات، ولكنه جاء انعكاسا أيضا لانقطاعٍ صنعه التحول السياسي مع قيم المرحلة السابقة.

ندرة ظهور مشاهد الإفطار الرمضاني في مسلسات رمضان الحديثة

وقد استنكرت ثورة يوليو 1952 قيم المرحلة السابقة عليها، ورأتها رجعية استبدادية معادية للشعب ومصالحه، فمُنعت ونسيت مع نشوء أجيال جديدة، واستنكرت مرحلة حكم الرئيس محمد أنور السادات ما سبقها من حكم ناصري، فنشأ جيل معاد له، وجاءت ثورة يناير 2011 وما تبعها من أحداث درامية، فراكمت تراثا من الصراع بدا واضحا على مائدة الإفطار الرمضاني في دراما ما بعد 2014، التي عكست إرادة السلطات الجديدة في مصر.

موائد تقليدية تعبر عن الواقع.. عصر طفولة الدراما

يعد فيلم “حياة أو موت” (1954) للمخرج الراحل كمال الشيخ من أشهر الأفلام المصرية وأنجحها في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد اشتهر بالنداء الذي وجهته الشرطة عبر الإذاعة: “إلى أحمد ابراهيم القاطن في دير النحاس، لا تأخذ الدواء، الدواء فيه سم قاتل”.

قصة الفيلم كتبها كمال الشيخ، وأما السيناريو فقد كتبه علي الزرقاني، ويدور حول رجل يصاب بأزمة قلبية، فيرسل ابنته لجلب الدواء، ولكن يكتشف الصيدلي خطأ في تركيب الدواء جعله سما قاتلا، فيحاول بمساعدة الشرطة البحث عن الرجل، لإنقاذه قبل شرب الدواء.

يقدم الفيلم صورة طبيعية عن الحياة اليومية بلا مبالغة في أيام رمضان، ويصور اجتماع العائلة حول مائدة بسيطة، تتكون من التمر والماء والفول، وتعكس تقاليد المصريين في رمضان.

وخلال العقود الثلاثة التالية، لم تغب مائدة الإفطار الرمضانية عن الدراما تماما، لكنها مرت كالطيف في الأعمال التلفزيونية، وكان حضورها في السينما منعدما إلا في أعمال نادرة.

ولعل أصدق النماذج التي اقتربت من الواقع الاجتماعي المصري، وصورت واقع حياة المصريين في رمضان، قد تمثلت في فيلم “الكيت كات” (1991) للمخرج داود عبد السيد، ويجسد مائدة إفطار رمضانية في أحد الأحياء الفقيرة، ويجتمع أفراد العائلة على طعام متواضع، ويتحدثون حديثا عفويا يعكس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولم يبالغ في تصوير الطعام، بل كان التركيز على العلاقات العائلية والمشاعر الصادقة.

ما بعد السبعين.. آثار الانفتاح الاقتصادي على الدراما

شهدت السبعينيات انفتاحا اقتصاديا أدى إلى تآكل حاد في الطبقة الوسطى، وإلى صعود طبقة أطلق عليها الاقتصاديون “الرأسمالية الطفيلية”، وقد جاءت بقيم استهلاكية سرعان ما انعكست على الشاشة في صورة أعمال درامية وسينمائية.

أما مسلسل “ليالي الحلمية” (1987-1995) الذي ألفه أسامة أنور عكاشة، وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، فقد استطاع صناعه رصد حركة المجتمع صعودا وهبوطا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي خلال تلك الحقبة وغيرها، وقد تناول المسلسل فكرة التطور الاجتماعي عبر العقود، وكان مشهد الإفطار جزءا من تصوير التحولات في العادات المصرية، فظهرت المائدة مقياسا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بين الأسر المصرية.

أبطال مسلسل “ليالي الحلمية”

وربما كان “ليالي الحلمية” آخر الأعمال التي كان صانع الدراما فيها جزءا من الأسرة المصرية بالمعنى القيمي، فقد تعلم الجميع التاريخ من كتاب واحد، وعاشوا ظروفا متشابهة إلى حد كبير، لكن تمويل الأعمال الدرامية ترك أثرا كبيرا على الأجيال التالية من صناع السينما والمسلسلات، فكانت أكثر ميلا لإرضاء الممول على حساب الطرفين؛ الجمهور والحقيقة الاجتماعية.

وإن كان المجتمع المصري قد طالته التحولات نفسها، وتأثرت موائده الرمضانية على مستويين: الأول هو موائد الأغنياء التي شابها الترف والبذخ، والثاني موائد الفقراء التي لم تعد تشبه سابقتها في دراما الخمسينيات والستينيات.

استعراض الترف على موائد الإفطار

بدت الدراما الرمضانية كأنما أصيبت بحالة هيستيريا، فتجاهلت الجانب الطقسي الروحاني من الإفطار الرمضاني في العشرية الثانية من الألفية، وأصبحت المائدة استعراضا بصريا مبالغا فيه، يعكس أحيانا فخامة زائفة، أو مشاهد صراع درامي مبالغ فيه.

فقد تركت صراعات ثورة يناير 2011 آثارها على الدراما، سواء من حيث الموضوعات، أو الرسائل التي تضمنتها الدراما، لا سيما بعد أن أصبح الرقيب جزءا أصيلا من العمل، وقد تجلى ذلك في نزع الجانب الروحاني من مشهد مائدة الإفطار.

الملصق الدعائي لمسلسل “السبع وصايا”

ولعل مشهد الإفطار في مسلسل “الوصايا السبع” للمؤلف محمد أمين راضي والمخرج خالد مرعي هو الأشهر في هذا السياق، فقد أصبحت موائد الإفطار جزءا من الصراعات العائلية والمؤامرات بين الأشقاء، لا طقسا دينيا فقط، وأيضا استخدمت لإبراز التناقض بين الغنى الفاحش والفقر المدقع.

وفي مسلسل “البرنس” الذي ألفه وأخرجه محمد سامي (2020)، ظهرت المائدة رمزا للصراع العائلي، وشهدت مشهد المواجهة بين الأشقاء، قبل أن يُخان “رضوان البرنس” (الممثل محمد رمضان)، وكانت المائدة تعج بأصناف الأطعمة، لكن الاستخدام الدرامي جعلها ساحة للعداء، لا للاحتفال بشهر رمضان فقط.

ولعل مائدة الصراع الرمضانية لم تكن إلا ترجمة للغليان القيمي والاستقطاب الحاد، الذي لا تستطيع أشكال التجسيد أو الكتابة التعبير عنه.

الملصق الدعائي لمسلسل “البرنس”

وقد أصبحت الموائد الرمضانية عنصرا أساسيا في الإعلانات التجارية، فتفننت الشركات في إظهار موائد ضخمة مليئة بالأطباق الفاخرة، فمن ذلك إعلانات بعض الشركات الكبرى في مصر، مما يرسّخ صورة غير واقعية عن الإفطار الرمضاني لدى الجمهور، وهي مساحة جديدة للسيطرة فاز بها الأثرياء على البسطاء.

وصوّر بعض المخرجين مائدة الإفطار رمزا يكشف المفارقة الطبقية، للفت الأنظار إلى الهوة الكبيرة بين الفقراء والأثرياء، كما في مسلسل “أهو ده اللي صار” (2019)، فيقارن بين إفطار الأثرياء والفقراء في الأزقة الشعبية.

الملصق الدعائي لمسلسل “غراند أوتيل”

كتب قصة الفيلم عبد الرحيم كمال، وأخرجه حاتم علي، ويدور في إطار درامي اجتماعي خلال حقبة زمنية تبلغ 100 عام تقريبا، ما بين 1918-2018، ويرصد المعاناة التي تلقاها المرأة عموما، والصعيدية خصوصا، واختلاف الأفكار والعادات والتقاليد، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تخص المرأة.

أما مسلسل “جراند أوتيل” للمخرج محمد شاكر خضير (2016)، وهو النسخة المصرية من المسلسل الإسباني (Gran Hotel)، فقد جاءت فيه مائدة الإفطار رمزا لتجاوز الفروق الاجتماعية، ويجتمع أبطاله حول مائدة إفطار، مع اختلاف خلفياتهم.

موائد الإفطار في السينما العالمية

ثمة حدث مركزي في السنوات الماضية، صبغ تناول السينما العالمية في كل ما يتعلق بالإسلام، ألا وهو تفجيرات سبتمبر/ أيلول 2001، فقد قدمت عددا من الأعمال التي تصم المسلم بالإرهابي مباشرة، بلا محاولة للتشكيك في هذه الفكرة، وظل الأمر بهذا الشكل حتى استوعب أغلب السينمائيين الغربيين أن الأمور قد خرجت عن الفن إلى الدعاية السوداء.

وبدأت السينما تتخفف من أعباء الدعاية والصراعات بين الشرق والغرب، ومحاولة النظر إلى المسلم بعمق، فتأمل السينمائيون الإنسان المسلم وتفاصيل حياته، ومنها شهر رمضان المعروف لدى الغرب بقدسيته.

ومع أن تناول رمضان في السينما العالمية محدود، فإن بعض الأفلام سلطت الضوء على الإفطار بصفته حدثا دينيا وثقافيا، لا سيما في الأفلام التي تتناول المسلمين في الغرب.

فقد تناول فيلم “الأصولي المتردد” (The Reluctant Fundamentalist) الذي أخرجته “ميرا ناير” (2012) حياة مسلم يعيش في الولايات المتحدة، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ويظهر فيه الإفطار طقسا يعيد ارتباط البطل بجذوره مع غربته، كما يظهر الإفطار مشهدا حميميا في منزله الباكستاني، في مقابل مشاهد الاغتراب التي يعيشها في أمريكا.

أما فيلم “علي” (Ali) للمخرج “مايكل مان” (2001)، فيتناول قصة الملاكم المسلم محمد علي كلاي، ويعرض العمل مشاهد من التزامه الديني، منها الإفطار في رمضان، فيظهر احترامه لهذا الطقس حتى أثناء تدريباته الرياضية.

الملصق الدعائي لفيلم “الأصولي المتردد”

وأما فيلم “اسمي خان” (My Name is Khan) للمخرج “كاران جوهر (2010)”، فيستعرض تأثير الإسلام في الحياة اليومية، ويظهر فيه الإفطار الجماعي في مشهد يعكس التضامن بين المسلمين في المهجر، لا سيما بعد ما نالهم من التمييز في الولايات المتحدة.

تدور أحداث العمل حول “رضوان خان”، وهو مسلم من مومباي مصاب بمتلازمة “أسبرغر”، وهي شكل من أشكال التوحد عالي الأداء، يعقّد التنشئة الاجتماعية. ثم يتزوج “مانديرا”، وهي أم هندوسية عزباء، تعيش في سان فرانسيسكو.

وبعد أحداث 11 من سبتمبر/ أيلول، تحتجزه السلطات في مطار لوس أنجلوس الدولي، ظانة أن إعاقته سلوك مُريب، وبعد اعتقاله يلتقي “رادا”، وهي مُعالجة نفسية تساعده على التعامل مع وضعه ومعاناته، ثم يبدأ رحلة لمقابلة الرئيس الأمريكي لتبرئة اسمه.

الملصق الدعائي لفيلم “اسمي خان”

تحتل مائدة الإفطار الرمضاني في دراما اليوم -ولا سيما في مصر- مساحة تقترب من الصفر، ومع ذلك فإن التحولات التي تطرأ على الدراما سنويا، لا تخلو من مفاجآت وموجات من البحث عن مشاهد جديد، أو البحث عما يحبه المشاهد الحالي.

ولذلك فإن شاطئ الطقوس الرمضانية سيظل في انتظار من يرسو عليه بالشكل الذي يضمن الصدق مع الواقع الاجتماعي، والتبجيل لمائدة إفطار تحظى باحترام ديني أولا، قبل أن تكون مجرد مائدة لأكل لطعام.


إعلان