“سوبر صليحة”.. ولد بار يرافق أمه القوية في رحلة قهر السرطان

على اختلاف الزمان والمكان، تتربع علاقة الولد بوالديه على عرش العلائق التي تربط البشر ببعضهم، وتتفاوت هذه العلاقة- بشكلها الفطري- بين الحدود الدنيا من البرّ، التي تقتصر على إظهار المحبة وشيء من الاعتراف بالجميل، حتى تصل إلى مستويات عليا، لا يصلها إلا صفوة الصفوة من الأبناء، الذين يبذلون أنفَس ما يملكون لإسعاد والديهم، أو دفع ضرر ما عنهم.

فيلم “سوبر صليحة” على منصة الجزيرة 360

وتأتي قصة الإعلامي التونسي حسّان بالواعر ووالدته صليحة طالب في هذا الإطار السامق من الحب والعطاء والشجاعة والتضحية. هذه المعاني الرفيعة من التفاني في البرّ، سنقرؤها في السطور التالية، وهي مادة فيلم أنتجته الجزيرة الوثائقية، وبثته على منصاتها بعنوان “سوبر صليحة”.

صليحة الخارقة.. شجاعة فائقة في مواجهة المرض

يقول حسّان: عصفت ببيتنا أحداث جسام، من وفاة والدي إلى إصابتي بنزيف حادّ كاد يودي بحياتي، إلى أن مرضت والدتي صليحة بالسرطان، كان الحديث في بيتنا متركزا حول الموت، حينها راودتني فكرة لكسر الحديث عن الموت، فجاء عيد ميلاد صليحة في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني، فنظّمتُ حفلة كبيرة للاحتفاء بها، وتحوَّل مضمون الحديث من الموت ووحشته إلى عيد الميلاد وبهجته.

فبعد 9 شهور من العذاب والعلاج الكيميائي، كان يجب تكريم هذه السيدة الشجاعة الصبورة، ومن هنا جاءت فكرة “سوبر صلّوحة” أو “سوبر صليحة”، لقد كانت أمي امرأة خارقة حقا خلال تلك المدة، فقد تحمّلت 4 جلسات من العلاج الكيميائي بصنفين من الأدوية، ثم 30 جلسة علاج بالأشعة، فأردت أن أشكرها على 9 أشهر من القوة، وكان ذلك في حفل بهيج بحضور الأهل والأصدقاء.

الأهل والأصدقاء يحتفلون بعيد ميلاد صليحة

كانت صليحة تحب الذهاب إلى السوق يوميا، وكنتُ أرافقها في كل يوم تقريبا، وكان أهل السوق يستقبلوننا بحفاوة، كنا ثنائيا معروفا في هناك، ولكنها في مرضها لم تعد تستطيع الذهاب إلى السوق إلا نادرا، وحملت أنا المهمة. كنا نتشارك المهامّ سابقا، وعندما أمرض تتحمل هي عني، وإذا مرضَت أحمل عنها، كنا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

“حسان قصة عظيمة في حياتي”

تقول صليحة: علاقتي بحسّان ليست علاقة أم بولدها فحسب، بل أكثر مما يمكن أن يخطر على بال أحد، عندما أطلب منه أن يجلب لي دواء، كان لا يتوانى عن إحضاره من آخر الدنيا، فيتواصل مع أصدقائه في كندا وأمريكا ودبي وكل مكان، يعمل المستحيل حتى يجلبه لي.

حسان رفيق أمه طوال رحلة العلاج

وإذا ذهبنا للمستشفى كان الأطباء يحبونه، يتركني مرتاحة في السيارة، ويقوم بكل إجراءات الإدخال وحجز السرير، ثم يحضرني إلى جلسة العلاج الكيميائي، وعندما جاء دور جلسات الأشعة أجّلوني إلى شهر ديسمبر/ كانون الأول، فلم يوافق حسّان ونقلني إلى مستشفى خاص، وعملت الجلسات خلال أسبوع.. حسان قصة عظيمة في حياتي.

كان يترك فراشه وينام على الأرض قريبا مني، وكان ينتظر إلى ما بعد منتصف الليل، ليعطيني الدواء في موعده، ويتحمل في ذلك مزاجي السيئ جراء اضطراب أوقات النوم، وكان يحقنني بحقن المناعة المؤلمة، ثم يتأسف لي، ويطلب مني مسامحته، ويقبّل كتفي، ويدلك جسدي وأقدامي لتخفيف ألمي.

حسان يحرص على إعطائها العلاج في موعده

لم يكن يشتري لنفسه شيئا، وفي المقابل يشتري لي معطفا غالي الثمن، وأنا أملك معاطف كثيرة، حسّان لم يتزوج بسببي أنا، كان يهيئني لحصص علاج الأشعة، ويصطحبني إلى المشفى، ويبقى عند رأسي حتى تنتهي الجلسة.

أم قوية تواجه تحديات الحياة بشجاعة

كان حسان يتعب مع أمه لتأكل الطعام، فيجب أن تحافظ على الوزن حتى تتحمل الجرعات، ويتحمل غضبها وانزعاجها أثناء الجرعة، ويجعلها تمشي لتحافظ على قدراتها الحركية، ويريحها عندما تشعر بالتعب، ويشجعها بكلمات مثل “صليحة القوية”، و”سوبر صليحة”.

يحرص حسان على تغذية أمه للحفاظ على وزنها

تحملت صليحة المسؤولية بعد وفاة زوجها، وملأت حياة أولادها بالرعاية والاهتمام، وكان أصغرهم حسّان متعلقا بها، فعوّضته عن فقدان والده.

تقول آمال حسني، وهي صديقتها: ماتت ابنتي مريم بسرطان الدم وهي ابنة 22 عاما، وقد فعلَت كل شيء لحياتها، كأنها تعلم أنها ستموت صغيرة؛ فلعبت الرياضة، وعزفت الموسيقى، ودرست الإخراج ودرّسته. وما كدتُ أستفيق من ألم فقد بنتي حتى أصيبت أختي بسرطان الثدي، فعالجناها بالكيميائي والأشعة حتى تحسنت. ثم مرضت صليحة، كان إحساسا مؤلما، ساعتها توسلت إلى الله أن يرحمنا ويلطف بنا ويخفف مصائبنا.

“اختار العدوّ الخطأ لمنازلته”.. معركة السرطان

قص حسان شعر أمه صليحة وهو يقول: من لم يذق معاناة مريض السرطان بعد جلسات العلاج الكيميائي لا يمكنه أن يتخيل تلك المعاناة، نفسيا وجسديا.

لقد وصلت الأمور بأمي أنها عندما تدخل الحمّام تشم رائحة الكيميائي، أصبح جزءا من ذاكرتها، عليّ أن أجد طريقة لإخراجه، لا ينبغي أن تتعذب في الأيام الخالية من جلسات العلاج، ودوري هنا أن أمنعها من التفكير فيه، أن أُشعرها بقوتها وقدرتها على المقاومة، أن أنسيها ما هي فيه، أقنعتها بأن المرض قد اختار العدوّ الخطأ لمنازلته. كنا نتعب ونبكي وتخور قوانا، ثم ننهض من جديد.

يجلب لها صديقاتها ليسلّينها

وفي عيد الحب اشترى لها “الدب الخارق” أحمر اللون، وهو رفيقها في معركتها مع المرض، أحب أن يفاجئها به، ولكن مزاجها كان معكّرا ذلك اليوم، من شدة ما تعانيه، وقد بقي يعانقها ويقبلها حتى ابتسمت، ووعدته أن تشتري له هدية عيد الحب حالما تشعر بتحسن.

“لم يبق لنا سوى حلول السماء”

مع الأيام بدأت تخور قوى صليحة، فكانت لا تقوى على المشي، وتجد صعوبة في التنفس، وكان حسان يداعبها كالأطفال حين يبدؤون المشي، ويذكرها بموعد الأدوية والفيتامينات، ويجلب لها صديقاتها إلى البيت ليسلّينها، وجاءها بصديق عمره أنيس وزوجته كي ترقي أمه قبل النوم.

حسان يستسلم لأمر السماء

في أحد الأيام ترك حسان رفيقه أنيس مع أمه في السيارة، ودخل إلى المستشفى لإجراءات حجز سرير لجلسة الأشعة، لكنه تأخر كثيرا، فدخل أنيس في أثره، فوجده على الأرض يبكي، فسأله: ما يبكيك؟ فقال: لقد انتقل الورم إلى رأسها، كانت قد أنهت 30 جلسة أشعة، بالإضافة إلى جلسات الكيميائي.

يقول صديقه أنيس القروي: خرجنا لنشرب القهوة، فسألته ماذا جرى، فأخبرني أن الأطباء طلبوا منه إعادتها إلى البيت، فلم يعد بمقدورهم مساعدتها في شيء، فقلت: ماذا يعني هذا؟ هل نستسلم؟ فأجاب: انتهت حلول الأرض، ولم يبق لنا سوى حلول السماء، منذ تلك اللحظة غمرني إحساس آخر.

تسلل الوهن إلى المرأة الخارقة

يقول حسان وهو يكمل قصته مع أمه: أمضينا سنة كاملة من المحاولات، والآن أتضرع إلى الله سبحانه أن يعينها ويعيننا، أتمنى أن تبقى حيّة 3 سنوات أخرى، أمنية قد تبدو مستحيلة، ولكن هذه المرأة أظهرت قوة عجيبة وتحديا رهيبا، وقد أصبح وزنها الآن 30 كيلوغراما، فوعكتها الأخيرة أتعبتني كثيرا، معنويا وبدنيا.

اللحظات الأخيرة للمرأة الخارقة

قبل ذلك كانت صليحة تؤمن بأنها ما تزال حاضرة، تؤمن بالعودة لسالف عهدها، بأن ينمو شعرها وتستطيع المشي، أما الآن فلم تعد قادرة حتى على الكلام، فأصبحت معنوياتي في الحضيض، لقد أصبحت وحدي، فما عادت تشاركني الأمل، لقد فقدتُ حليفي في المعركة، ومع أن الأقارب والأصدقاء حولي، فقد فقدت سلاحي الأول والأقوى؛ ألا وهو صليحة.

لقد كانت تمر بي لحظات ضعف معنوي أو عجز مادي، فكانت تقوّيني وتقول: ليس وقته، كانت تلملم شتاتي، وتساعدني على النهوض من جديد، أما الآن فلا، كتبت لها شعرا، قرأته أمامها ولم أتمالك نفسي من البكاء، وكنت أواري وجهي عنها وأنا أنتحب بحرقة، غنّيت لها أغاني الحجّاج، لتشعر أنها انتصرت على المرض، وستحج إلى البيت العتيق.

حين توقف الزمن

تقول صليحة: تعذبنا كلانا، أصبحت اليوم متعبة، أفطرت وشربت دوائي، لكن شيئا ما يتعبني، أريد أن أُطمئن حسان ولا أفجعه، أشياء كثيرة لا أحب أن يسمعها حسان، أحبه كثيرا، هو كل شيء في حياتي، لا يتركني لحظة، حتى في الذهاب إلى الحمام، إنه الهواء الذي أتنفسه.

كان يدعوها لشرب المرطبات، ويخبرها أنها انتصرت على المرض مدة عام، وغيرها لم يستطع الثبات أشهرا، وأن هذا التعب دوار بسيط وسيزول قريبا، يلقمها الطعام بالملعقة، ويسقيها بيديه، ويتأكد أنها تمضع جيدا وتبلع الطعام، بتؤدة وصبر وبتمهل عجيب، كأنه يعالج طفلا صغيرا، ويداعبها: صلّوحة تتعب؟ فمن يرتاح إذن؟

يبكي بحرقة ويتظاهر بالضحك، لقد فضحته دموعه وهو يغني لها أغاني الحب.

“يوم توقف الزمن”.. القبلات الأخيرة في اللحد

تباطأت ضربات قلب الأم حتى تلاشت، لقد انتهى كل شيء، هنا توقف الزمن عند حسان، لم يعد يحسّ بشيء. وطلب أنيس أن يغطوا رأسها، ولا يتركوه مكشوفا، وكان حسان يتوسل إليه أن يترك وجهها مكشوفا حتى “تتنفس”، واحسرتاه يا حسان، لم يبق لها في دنياك هذه نفَس. كان منظر الوداع مؤلما، وتجمع الجيران وأهل الحيّ ليلقوا عليها النظرة الأخيرة.

حسان يواري أمه التراب ويتقبل التعازي على المقبرة

كان حسان ينتحب بمرارة بينما سيارة الموتى تشق طريقها نحو المقبرة، وهناك تعاون مع صديق عمره أنيس على مواراتها التراب، ولم يضيع فرصة لثمها وعناقها وهي في اللحد، حتى أخرجه الناس عنوة وهو يردد “حبيبتي”. لقد بكى بكاء مرا، والناس يعزّونه في المقبرة.

كتب حسان في مذكراته: الثلاثاء 15 مارس/ آذار 2022، يوم توقف الزمن، لم تكن صليحة بالنسبة لي مجرد إنسان، إنها فكرة، فكرة المحبة الحقيقية وفكرة الأمل، والجسد يموت أما الفكرة فلا تموت، فإن كنتُ خسرت معركة المرض، فلن أخسر المحبة، فقد ربحت الأيام التي قضيناها معا، ربحت الأشهر التي كرست حياتي فيها لأجلها. ولهذا فالكثير من الناس لا يدركون حجم خسارتي.

برنامج تلفزيوني عن الحب يخلّد ذكرى أمه الشجاعة

وبحكم عمله في الإعلام، قدّم عنها برنامجا تلفزيونيا عنوانه الحب، وقال عنه: هذا معناه مواصلة رسالة صليحة، فهي التي علمتي الحب وربَّتني عليه، لم تبخل علي بحبها، كانت درسا عمليا في معنى التواضع والبذل وحب الحياة. نعم، ماتت صليحة وولد حسان جديد، فقدَ جناحيه ويحاول أن يبدأ من جديد، أما حسان القديم فقد مات مع صليحة، ويستحيل أن يعود إلى هذه الحياة.


إعلان