“الشيباني”.. صور مأساوية من أحوال المسنين الجزائريين في فرنسا

إذا أتيحت لك فرصة التجول في شوارع مرسيلية وأزقتها فلا بد أن تلتقي بهم، فهؤلاء الشيوخ “الشيبانيون” يلتقون أسبوعيا في ساحة “كور بولزلنس” للبكاء على شبابهم، يستندون على عصيهم وذاكرةٍ مليئة بالحكايات تثقل كواهلهم، كانوا شبانا يافعين عندما قدموا إلى فرنسا للعمل في المهن الشاقة، واليوم يتألمون وحيدين في حياة لم يختاروها ولا حلموا بها.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شتى منصاتها بعنوان “الشيباني”، تتجول الكاميرا في أماكن هؤلاء المُسنين، ترصد معاناتهم وآلامهم، وتشهد على الظلم الذي يصيبهم، ونكران الجميل الذي قابلتهم به فرنسا، وقد أفنوا زهرة شبابهم في إعمارها بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية.
“هذه المباني والمنشآت بُنيت من عرقنا وصحتنا”
يتحدث المسن الجزائري عبد العزيز الواعر عن ذكرياته عندما جاء إلى مرسيلية للعمل، قائلا: كنت ابن 19 عندما جئت إلى فرنسا، أتيت حاملا أمتعتي في كيس، وورقة صغيرة عليها عنوان، وصورة بالأبيض والأسود، ركبت مع جماعة من الشباب الباخرة المتوجهة إلى مرسيلية، وقليل منا من كان يتقن حِرفة.

لدى وصولنا، لم تكن لنا ملاجئ نسكنها، نسير كثيرا حتى نصل قرية صغيرة أو مزرعة نائية أو كوخا مهجورا نسكنه. بدأت البحث عن عمل، وإذا صادفت بناء قيد الإنشاء أهرول إليه لعلي أحظى بفرصة، في أكثر الأحيان يطردني أرباب العمل، وبعضهم يقول تعال بعد أسبوع أو أسبوعين، إلى أن اهتديت إلى صاحب ورشة لديه 5 عمال، فجعلني سادسهم.
كان أجري 80 سنتا في الساعة، وذلك نحو 10 يوروهات يوميا بأسعار اليوم، وهو مبلغ زهيد جدا مقابل الأعمال التي نقوم بها، ولم تكن لنا آلات لخلط الإسمنت، ولا لرفع مواد البناء، بل نقوم بكل ذلك بأيدينا.
وهذا عبد القادر بوناقة، الذي تشبه ذكرياتُه صاحبه الواعر، يقول: جئت بالباخرة مع العساكر الفرنسيين الذين غادروا الجزائر حينها، توقفت الباخرة يومئذ في عنابة لتقل جنودا فرنسيين، وكان عدد الركاب نحو 850 راكبا.
سكنّا في أكواخ قرب عدادات الميناء، ونمنا فوق ألواح الخشب، هذه المباني والمنشآت وخطوط الكهرباء التي تراها اليوم بنيت من عرقنا وصحتنا، لقد قمنا بأعمال شاقة في أجواء قاسية البرودة، كنا نحفر ونخلط الإسمنت ونحمل الطوب، ونفعل أي شيء لنبقى في العمل.

أما المسنة فتيحة قيدوم فلها قصة أخرى، فتقول: كنت أعيش وأولادي الـ6 في الجزائر، وكان زوجي يتردد على فرنسا، لم يعد الوضع مريحا له، وراتبه التقاعدي لا يكاد يكفي تذاكر السفر، ولما مرض اضطر للبقاء في فرنسا، فطلب مني القدوم إليه، رفضت في بداية الأمر، فهددني بأنه لن يرسل لي مصروفا، فصارت والدتي تلح علي أن ألتحق بزوجي، حتى جئت إلى بلاد الغربة هذه بلا اختيار.
“أفنينا شبابنا ولم نلق من فرنسا اعترافا بالجميل”
تعمل زهرة رحماني في جمعية خيرية، وتقدم العون للمسنين الجزائريين في مرسيلية، وتتذكر وهي بنت 3 سنين أن عدة عوائل كانت تعيش في شقة واحدة، كل عائلة في غرفة صغيرة ويفصل بينهم ساتر من القماش.
وتتحدث رحماني عن المسنين قائلة: لقد استُغلوا بأبشع الطرق، وهم الذين يرجع إليهم الفضل في تشييد مدن فرنسا وتزيينها، لقد مارسوا جميع المهن الشاقة وأبدعوا، وعملوا في مناجم الفحم وصناعة السيارات، واليوم يعيش الشيبان في مساكن خاصة كالسجون، ولا يسمح لهم بالإقامة مع عائلاتهم في الوطن إلا مدة محدودة.

وعن الحياة اليومية والأوضاع القانونية للمسنين يتحدث عبد العزيز الواعر: أعيش في ملجأ متعدد الطبقات للمتقاعدين، درجات الحرارة مرتفعة هذه الأيام والمصعد معطل. أذهب إلى مكتب المساعدات الاجتماعية ولا يلبون طلباتي، وإذا أردت الذهاب إلى الجزائر فعلي ألا أتجاوز 6 أشهر، وإلا فسيقتطعون من راتبي المكمل.
عندما تولى ساركوزي الرئاسة أثار قضية المتقاعدين الأجانب، وشروط الإقامة في فرنسا وفي بلدهم، فكل من يتقاضى راتبا تقاعديا يضاف إليه “راتب مكمل”، يتراوح بين 400-600 يورو، يحصل عليه بشرط أن يقيم 6 أشهر في فرنسا ومثلها في بلده، وإذا تجاوزنا موعد العودة، فإنهم يوقفون الراتب التقاعدي والمكمل، يقطعون عنا كل شيء، ويأتي أول الشهر ولا نجد شيئا في حسابنا.

ويجد عبد القادر بوناقة نفس الصعوبات، فيقول: نقضي هنا 6 أشهر كأنها عقوبة سجن، لقد عملنا على هذه الأرض ولنا فيها حقوق مشروعة، واليوم باتت حياتنا كلها مرهونة بذلك الراتب المكمل، لقد بذلنا جهدنا وأفنينا شبابنا، ولم نلق من فرنسا اعترافا بالجميل. أعيش في هذه الغرفة وحيدا، كأنني في زنزانة منفردة.

أما فتيحة قيدوم فلا تعمل، ووقتها موزع بين شرفة غرفتها والتلفاز، وأحيانا تخرج للحديقة للاسترخاء، وتسكن نفس البناية التي فيها جمعية زهرة رحماني. وهي تقول: كانت حياتي مملة حتى تعرفت إلى زهرة، زرتها في الجمعية، وهي تقدم الطعام والعون للناس للمحتاجين من المسنين، فصرت أتردد على الجمعية مع بقية النساء، ونساعد في تحضير الطعام، ولا سيما طبق “الكسكسي” الشهير.
الأمية وحاجز اللغة.. عقبات في وجه المسنين
في أحد الأيام زار عبد العزيز الواعر الجمعية الخيرية في مشكلة عويصة مرت به، وكان قد سافر إلى الجزائر ومعه بطاقته المصرفية، وقضى فيها 6 أشهر، وكان في حسابه نحو 10 يورو، فلما عاد فوجئ بأن المبلغ قد اختفى، بسبب حركات متكررة على بطاقته المصرفية في فرنسا.
يقول وقد بدت عليه علامات اللوعة والحزن: لم أفهم ماذا حصل، لم أعط بطاقتي لأي إنسان، ورقمها السري

لا يعلمه أحد، لقد فقدت كل أموالي، وأصبحت لا أملك ثمن فنجان قهوة.
حاولت زهرة طمأنته، وطلبت منه تقديم كل ما يملك من أوراق ثبوتية، وأخبرته بأنهم سيرفعون شكوى للجهات المعنية، ووعدته بأن تتابع قضيته حتى استرداد أمواله، وأوصته بأن يكون حريصا، لا يعطي بطاقته حتى لأقرب أقربائه، وأخبرته بأن باب الجمعية مفتوح له في أي وقت، لطلب العون أو الطعام، فشكرها بتعفف وامتنان.
تقول زهرة: معظم المسنين أميون، لا يتقنون الفرنسية، ونحن نبذل ما نستطيع لمساعدتهم، نرافقهم إلى الأطباء، ونملأ تصريحاتهم الضريبية ونماذج المعونات الاجتماعية والتأمين الصحي، ونحصل أموالهم الضائعة من حساباتهم دون معرفة السبب.

ثم إنها تصطحبه إلى إذاعة “الغزال” المحلية لعرض مشكلته على الإعلام، حيث قال: نحن بأمس الحاجة لمن يملأ أوراقنا، لقد جئنا إلى هنا أميين لا نعرف القراءة والكتابة، نريد من يترجم لنا ويتحدث باسمنا، نحتاج لمحام يتبنى قضايانا، وجمعيات تشرف على تنظيف غرفنا وترتيبها في هذه الملاجئ.
وأغلب سكان الملاجئ من المسنين لا يستطيعون خدمة أنفسهم في أبسط حاجاتهم، كطهي الطعام وغسل الملابس، ولكنهم ملزمون بالعيش فيها، وبعضهم يموت ولا يعلم به أحد، كما أن قانون الـ6 أشهر هو ضد مصالح المسنين، وهو ذريعة للاستحواذ على أموالهم ومستحقاتهم، ولإجبارهم على صرف أموالهم في فرنسا فقط، على حد تعبير بوناقة.
“لا أحد من غيرنا يتذكرنا”
بعد إعداد الطعام تنقل مشرفة الجمعية ومتطوعاتها الطعام إلى مساكن المسنين وتوزعه عليهم، وهي كذلك حريصة على زيارة الجزء الإسلامي من مقبرة “سان بيير”، لقراءة الفاتحة والدعاء للمسنين الذين قضوا ولم يجدوا من يصلي عليهم، تقول: أنا مهتمة بالمسنين الذين أفنوا زهرة شبابهم في خدمة فرنسا، منهم أبي وأعمامي وبعض أقاربي.
ويلتقي المسنون في ساحة الملجأ يوميا، وكأنهم يقولون: نحن بعيدون عن عائلاتنا، ولكننا كونا عائلة من رفقائنا المسنين في هذا الملجأ، إذا مرض أحدنا أو احتاج شيئا نقدم له المساعدة، ونتفقد أخبار بعضنا، فلا أحد من غيرنا يتذكرنا. مرسيليا تعني لنا الكثير.

يأتي المسنون من أطراف المدينة ويجتمعون في قلبها، ويتجولون في أزقتها، ويأتي ممرضون للاطمئنان على صحتهم، ويتأكدون أنهم يأخذون العلاج في موعده، فكثير منهم يعانون من الأمراض المزمنة، والدولة تكفل لهم العلاج والممرضين، ولكن عندما يذهبون إلى الجزائر تنقطع عنهم خدمات التأمين الصحي، لذا فكثير منهم يتجنب زيارة الوطن، بسبب انقطاع هذه الخدمات.
بعد أن أنهى عبد القادر اتصالا مع ابنه في الجزائر بكى بحرقة: واحسرتاه، كنا نمني النفس أن نكون بين أحضان أهلنا في الوطن، ولكن هذه القوانين المجحفة تحبسنا في سجن الغربة الكبير، بين مرارة العيش وألم الفراق، لقد قضيت 70 عاما من الألم والوحدة، وعانيت من أجل إسعاد عائلتي، ألا يكفي ذلك؟ أريد فقط أن أموت بين أهلي وأُدفن في وطني.
قانون الإقامة الجائر يحرم المسنين من المكث في وطنهم الأم
تتذكر فتيحة قيدوم أيامها الخوالي، فتقول: في الأعياد كان أولادي وبناتي يلتفون حولي ونفرح معا، أما اليوم فأنا هنا وحيدة وبعيدة عن أهلي والوطن، لقد كبرت وأعاني من أمراض الضغط والسكري، ولا أستطيع العودة للوطن، ولو سافرت سأكون حبيسة المنزل وحدي، فالكل قد رحلوا، وإن أصابني مكروه فلن أجد من يساعدني. لكنني أشتاق إلى بلدي ومنزلي، الذي تربيت ودرست فيه.

وتحرص فتيحة على الذهاب للميناء، وتقف على المعبر الذي يسافر منه الجزائريون إلى وطنهم، توزع عليهم الورود، كأنها تبعث برسائل الحنين إلى الوطن، ولا تستطيع أن تخفي دمعتها وهي تدعو للمسافرين بالسلامة، وتطلب منهم أن يتمهلوا في سواقتهم، فرؤية المسافرين إلى الوطن تخفف عنها آلام الفراق.
ويجلس عبد القادر بوناقة على ساحل البحر، ويتذكر يوم غادر ميناء سكيكدة في الجزائر إلى مرسيلية قائلا: “هذا البحر اليوم هو الذي يفصلني عن أهلي”. ولسان حاله يقول: “لو عاد بي الزمن لما تغربت عن أهلي ووطني”، وفي الليل يأوي الجميع إلى فُرُشهم، ويقلبون صور العائلة والأولاد، والدموع لا تفارق مآقيهم.

أما قضية عبد العزيز الواعر المالية، فقد ساعدته زهرة في ملء الاستمارات لها والأوراق الثبوتية ورفع الشكوى، ثم جاءه خطاب من البنك، فأعطاه لزهرة فقرأته وتهلل وجهها، وقالت له أبشر، أموالك ستعود إليك في غضون أسبوع، وفرح عبد العزيز وحمد الله على ذلك، فقد أثمرت جهود 3 أشهر من التعب والتردد على الجهات الحكومية، لإنصاف هذا المسن المسكين.

تقول زهرة: لا تعترف فرنسا بالجميل لهؤلاء المساكين، وترفض طلبات لم الشمل، بحجة أنهم لا يملكون منازل مناسبة لاستقبال ذويهم، ولكنني سأستمر في مطالبة الحكومتين في فرنسا والجزائر، لإبرام اتفاق بتمديد إقامة المسنين في وطنهم عاما كاملا، والموافقة على طلبات لم الشمل. أعلم أنها مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة.