“ملكات الساموراي”.. نساء يواجهن الموت بشجاعة دفاعا عن شرف العشيرة

كان قد رسخ في الأذهان أنّ صناعة المجد ميزة يستأثر بها الرجال، فخلّد التاريخ سير الأبطال الأفذاذ، الذين خاضوا الملاحم، واستلهمت السينما قصصهم وعرضتها على شاشاتها الفضية، ولم تمنح النساء إلا دورا هامشيا في الأسرة والمجتمع، وقصرت دورهن في كواليس البلاط، وربطته بالكيد والتآمر.
لكنّ سلسلة “المحاربات” الوثائقية للمخرج “جون وايت” عملت على نقض هذه المسلّمات، وسعت في حلقة “ملكات الساموراي” إلى كسر الصّورة النّمطية عن محاربي اليابان التقليديين “الساموراي”.
يعرض المخرج وقائع تاريخية ونماذج مؤنثة من الساموراي، تدفعنا إلى مراجعة تصوّرنا عن المرأة اليابانية ومنزلتها في المجتمع ودورها في الحرب، فخلافا للتصور الشائع لم يكن الانضمام للساموراي حصرا على الرجال، ولم تكن المرأة أقلّ شجاعة في ساحات القتال، ولم تبخل بالتضحية بنفسها في سبيل عشيرتها في صراعات دموية عنيفة.
الساموراي والمنظومة القيمية الصّارمة
لأفلام الساموراي دور بارز في التعريف بالحضارة اليابانية، فقد كانت تستدعي مخزونها الأخلاقي والثقافي الهائل، وتصنع أفلام الحركة من حروب الحقبة الوسيطة من تاريخ اليابان الإقطاعية، أي إلى عصر “هيان” الممتد بين عامي 794-1185م.

كانت قصص الأفلام مليئة بالإثارة التي يطلبها المتفرج، تغذيها مبادئ محاربي الساموراي الصارمة، والتراتبية والولاء المطلق للمعلم، والانضباط والسلوك المحترم، فهذه القيم تذهب بعيدا في التعويل على العنف، كأن يمسك المحارب عدوه فيقطع رأسه، ثم يعرضه في حفلات بالساحات العامة لنيل المكافأة، وعندما يثقل الحمل ويصعب عليه جمع الرؤوس المقطوعة وحملها، يكتفي بسلخ وجوهها أو قطع أنوفها، لإثبات هوية أصحابها في حفل الفحص ذاك.
ولا يمكن الجمع بين مظاهر العنف المفرط الذي يصل إلى البشاعة وركائز شريعة الساموراي الأخلاقية، إلا بوصلها بالسياق الحضاري الياباني القديم، الذي وجّه منظومته القيمية لخدمة الإقطاعيين، فنحن في أيامنا سنصنّفها في سياق معاصر تصنيفا مغايرا، فندرجها ضمن جرائم الحرب وفظائعها بلا شك.
رمزية في ميزان الفرجة والسياسة والحرب
لفهم فيلم “ملكات الساموراي”، لا بد أن نستدعي شيئا من التاريخ، فقد مثّل مقاتلو الساموراي ظاهرة متأصلة في الحياة اليابانية، استطاعت أن تقاوم الزمن، وكان مدارها على عالم رجالي، يخضع بشدة لمنظومة قيمية تحتفي بمقاتل الساموراي الذي يكرّس حياته للتدريب القاسي، فيصنع السيوف والرماح بمهارة، حتّى بوّأته ذروة الرقي الاجتماعي في عصر “إيدو” بين عامي 1603-1867.
وهذا ما جعل الأفلام التي تتناول حياتهم تحظى بجاذبية معتبرة في السينما اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن العمليات الانتحارية التي كان الطيارون اليابانيون يشنّونها على أساطيل الحلفاء وجدت صدى مباشرا أو ضمنيا لما في الظاهرة من إخلاص المقاتل لسيده في استقامة وإنكار للذات.

لذلك منعتها قوات الحلفاء خلال احتلالها لليابان بين سنتي 1945-1952، فلم تعاود الظهور إلا في منتصف العقد السادس من القرن العشرين، إثر إخراج فيلم “الساموراي السبعة” (Seven Samurai) عام 1954، الذي يعد إلى اليوم أرقى نموذج بلغته هذه السينما.
صورة كاذبة تواطأت عليها السينما والمؤرخون
تختلف أفلام الساموراي التي أصبحت جنسا سينمائيا قائم الذات في قصصها المختلفة، ولكنها مع ذلك تشترك في بعض الصور النّمطية، التي تكفل انخراطها ضمن الجنس الواحد، ومنها صورة المرأة المثالية، فهي الوديعة المطيعة التي تعيش في ظل الرجل، وهي العروس الجميلة المثقفة التي تخضع للزوج وللتقاليد المجتمعية. فتكون رأس مال رمزيا، يسهل تزويجها لسادة العشائر المنافسة، لكسب تحالفها أو تجنب بطشها.

أما فيلم “ملكات الساموراي”، فذو طرح مخالف تماما، فيجد خلف هذه النمطيات تواطؤا بين السينمائيين والمؤرخين على طمس سر من أسرار اليابان؛ ألا وهو دور النساء الفاعل على امتداد التاريخ العسكري الياباني، فقد كان محاربو الساموراي من صغار الملاك، وعند انصرافهم للقتال في حروبهم الطويلة كانت النساء تتولين الدّفاع عن القرى وحماية الممتلكات.
وكان لا بد من إعدادهن لهذه المهمة إعدادا جيّدا، لأنهن قد يواجهن مقاتلين محترفين في كل حين، فكنّ يتعلمن تقنيات حربية تلائم أجسادهن، منها تمارين بدنية ومهارية وأخرى روحية، تهيؤهنّ للتضحية من أجل الرب أو العشيرة أو الزوج.
فتاة تستعيد صورة فارسة أسطورية
يتخذ الفيلم “تاكيكي” شخصيته الرئيسية التي تختزل محاربات الساموراي، ويقدّم للمتفرّج المساق العام لتضحيتها وحسن بلائها في المعارك. ففي عام 1853 كانت “إيدو” من أكبر مدن العالم، ولكنها كانت تعيش ضائقة اقتصادية، وكان بعض الساموراي من ذوي الرتب المتدنية يعيشون حياة بؤس سببت السخط على الشوغن الحاكم العسكري.

ولكن عشيرة “أيزو” التي تنتمي إليها ظلت محافظة على ولائها لهذا الحاكم، في جو من المكائد السياسية والعزلة التي تُفرض على الأهالي، حفاظا على الروح اليابانية، وصونا لها من الاختلاط بـ”المتوحشين ذوي الشعر الأحمر”.
في هذا الإطار، تبرز الطفلة “تاكيكي” (6 سنوات) التي هي ابنة عائلة أرستقراطية، فتظهر براعة في تعلم الخط وقرض الشعر ومهارة في القتال، ولتميّزها وروح التّمرد في شخصيتها، لم تكن مستعدة للحياة في ظل الرّجال مع جمالها وثقافتها ومجدها.
فقد كانت تريد أن تكون صورة جديدة من الفارسة “توموي غوسي”، التي ظهرت قبل 600 عام، تلك البطلة الأسطورية التي تخلدها الذّاكرة الجماعية رمزا للتضحية، فقد كانت مقاتلة ساموراي رفضت الانصياع لأوامر القائد والانسحاب من المعركة أثناء مواجهة جيش معاد، فقد باتت هزيمة عشيرتها حتمية، وكان القائد يخشى أسرها، وما يتبع ذلك من اغتصاب وإذلال للأهل. ومع ذلك واصلت المعركة وأهدته الفرصة ليموت موتا مشرفا.

لمّا اختلفت الطفلة “تاكيكي” إلى دروس المعلم “جايسوكو” الحربية، أظهرت قدرة فطرية على القتال، ومهارة مذهلة في استخدام سلاح “ناغيناتا”، حتى أنها أصبحت تُعلم استخدامه منذ بلغت 16 عاما.
“ناغيناتا” سلاح وسط بين الرمح والسيف، يجعله نصله المرن وحوافه الحادّة ومقبضه الطويل سلاحا فتاكا، وكان يقتضي المهارة والسرعة، ويستخدم استخداما متعدّدا، فيقطع ساق العدو بيسر ويؤذي من كان أكثر قوة قبل اقترابه من المحارب، لذلك كان يقدّم المرأة من بين هدايا الزواج، حتى تحافظ على أمن العائلة.
طلقة نارية تصيب معلمة السلاح التقليدي
قبل ستينيات القرن التاسع عشر، اقتحم أسطول أمريكي موانئ اليابان، وعرض قائده “ماثيو بيري” التبادل التجاري على “الشوغن” الحريص على عزلة اليابان، وبعد مماطلات على الخضوع لمشيئته وتوقيع الاتفاقية مكرها، وجّه هذا الجنرال تحذيرا حازما في شكل طلقات تستعرض القوة الأمريكية.
ثم وفدت أساطيل بريطانية وفرنسية وهولندية، وتزايد النفوذ الغربي، وكان على “الشوغن” أن يواجه تمرّد العشائر المدعومة بجيش الإمبراطور التي تتهمه بإذلال اليابان، وفي هذه الأثناء تحافظ عشيرة “أيزو” على ولائها للحاكم العسكري، وتخوض المعارك الضارية غير المتوازنة، فيواجه 5 آلاف جندي منها ثلاثة أضعاف عددهم.
وأمام تقهقر قواتها في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1868، شكلت “تاكيكي” جيشا من النساء، فانضمت إليها 18 محاربة ساموراي، ثم تضاعف عددهن مرّات كثيرة، وانتزعن حقهن في القتال.

فقد رفض المحاربون الذكور مشاركتهن، فأسرهن -من وجهة نظر الرّجال- سيجعلهن عرضة للاغتصاب، وفي ذلك تلطيخ لشرف العشيرة، وفي انتصارهن إهانة لهم، وإظهار لعجزهم. ولم يقبلوا بمشاركتهنّ إلاّ حينما هدّدن بالانتحار، إن هنّ مُنعن عن عزمهنّ.
ونفذت النساء هجوما مباغتا لبلوغ بوابات القلعة، وأربكت “تاكيكي” العدو، وأحدثت فوضى عارمة في خطوطه، وباتت هدفه الرئيسي. ولكن على حسن بلائها كانت عمليتها مغامرة خاسرة، فقد كانت رفيقاتها يستعملن أسلحة تقليدية، وكان جيش الإمبراطور مجهزا بأحدث البنادق، فأصابت إحداها “تاكيكي” بطلقة قاتلة، وكانت قد تدربت كثيرا على الأسلحة التقليدية.
وكانت النهاية مزيجا من التراجيديا لهول المأساة التي كانت “تاكيكي” تستشرفها، فتقول في رثاء نفسها: لا أجرؤ على تسمية نفسي لبنة في صفوف المحاربين المشهورين، مع أني أشاركهم ذات القلب الشجاع.
ولما في الملحمة من أعمال بطولية مرعبة، قررت أختها أن تقطع رأسها كي لا يأخذه العدو، فيعرضه في الساحات العامة علامة على نصر مبين، وحتى يدفن دفنا مشرفا، وانتحرت أكثر من 200 امرأة، حتى لا يأسرن فيغتصبن ويلحقن العار بالعشيرة.
مشهدية ساحرة تخفي دقة التوثيق
عوّل المخرج على سارد من خارج الإطار، يعتمد الرواية بضمير الغائب، ويزوّد المتفرّج بالمعلومات الكثيرة، فيعرض نتائج الحفريات ويستعين لشهادات المختصّين. ولكن لم يكن يكشف دائما عن مصدر معلوماته، أو يدعمها بالوثائق البصرية الضرورية.
فقد كانت ضعيفةً الأرشفةُ التي تميّز الأفلام الوثائقية، وترتقي بها إلى مستوى دراسة تعيد النظر في كثير من الحقائق، أو تدفع لإعادة التفكير فيها، وللتغطية على ندرة الوثائق عوّل الفيلم على مشاهد درامية، يحاول ممثلوها محاكاة الوقائع بصمت، وفق سيناريوهات تعيد بناء الأحداث معوّلة على التخييل خاصّة.

لقد وعد المخرج في بداية الفيلم بكشف سر تواطؤ أطراف عدة على طمس دور المرأة في المعارك العسكرية وتفسيره، ولكنه نكث بوعده، أو شغله عنه تصميم المشاهد الحربية البارعة والأزياء القديمة والمناظر الطبيعية اليابانية الساحرة. وهذا ما يطرح سؤال الموضوعية في الفيلم، ومدى قدرته على التقاط الحقيقة، التي تميّز النّمط الوثائقي.