السنة الهجرية.. تقويم قمري إسلامي يرسم هوية أمة

يظل التقويم الهجري أكثر من مجرد نظام لعدّ الأيام؛ فهو رمز للهوية الإسلامية، ومرآة لتاريخ أمة بدأت هجرتها من الضعف إلى التمكين، ومع أن اعتماده في الشأن المدني تحول دونه تحديات، فإن حضوره في الحياة الروحية للمسلمين لا يزال قويا ومقدسا. ومن خلال تاريخه ومرجعيته الدينية، يستمر هذا التقويم في تذكير المسلمين بجذورهم وهويتهم، وبقصة الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ.
كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرسل كتبا إلى ولاته، ومنها كتاب إلى أبي موسى الأشعري، وكان فيه: “من عمر إلى أبي موسى”، إلى أن بلغ: “في شعبان”. فكتب إليه أبو موسى يقول: “إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب ليس لها تاريخ، وقد قرأنا كتابا ورد علينا في شهر شعبان، فلا ندري أهو من العام الماضي أم من هذا العام”.
كان ذلك في نحو سنة 17هـ / 638م. فطلب عمر بن الخطاب الصحابة رضوان الله عليهم للتشاور في وضع تأريخ موحد للدولة الإسلامية.
اقترح بعض الصحابة أن تكون بداية التأريخ من مولد النبي ﷺ، وهو عام الفيل الموافق لسنة 570 أو 571 من الميلاد، لكونه بداية ظهور النور وطلوع فجر الإسلام. وجاء اقتراح آخر أن يكون التأريخ من بعثة النبي ﷺ، أي من وقت نزول الوحي عليه في غار حراء، وهو رمضان سنة 610 م. وقال فريق ثالث إن وفاة النبي ﷺ في ربيع الأول من سنة 11هـ/ يونيو 632م، هي الحدث الأبرز الذي يمكن أن يُعتمد.
وعلى أهمية هذه الأحداث الكبيرة في تاريخ الإسلام، إلا أن الصحابة الكرام لم يتوافقوا على أي منها.

ثم جاء الاقتراح الذي حظي بقبول الأغلبية، وهو الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة كحدث مرجعي لبداية التأريخ، طرحه الصحابيان الجليلان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقبله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال حينها قولته المشهورة: “الهجرة فرّقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها”.
وقعت الهجرة في شهر ربيع الأول من سنة 1هـ، ويوافق ذلك الـ20 من سبتمبر/ أيلول 622م، فبها بدأت الخلافة تستقل إداريا، وبها تأسست الدولة الإسلامية. وقد اتُفق على أن يكون شهر محرم -منتصف يوليو/ تموز 622م- هو بداية تلك السنة، ذلك أنه الشهر الذي تبدأ به العرب في الجاهلية سنتها، وهو أحد الأشهر الحرم، وله قيمة ومكانة زمنية معروفة لديهم.
بهذا بدأ التقويم في شهر محرم (يوليو/تموز 622 م)، مع أن الهجرة وقعت في ربيع الأول، وقد اتخذ هذا القرار في السنة 17 للهجرة (638 م).
منذ تلك اللحظة، ولد التقويم الهجري الإسلامي، وهو تقويم قمري بحت، وأصبح معمولا به في مراسلات الدولة الإسلامية كافة، وكان من أعظم القرارات التنظيمية التي أقرت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مما أسهم في ضبط الأمور الإدارية والتاريخية للمسلمين حتى اليوم.
يقول الشاعر يوسف العظم في هذه المناسبة العظيمة والجليلة
الهجرة رحلة هادينا … حمل الإسلام لنا دينا
فسلام الله على الهادي … والكون يردِّدُ آمينا
رحل الصدِّيق عن الدَّار … في صحبة خير الأبرار
صلوات الله تباركه … ملأ الدُّنيا بالأنوار
وصل المختار إلى طَيْبة … والكفر تراجع في خَيْبة
وجنود الله تحيط بهم … من نور الإسلام الهْيبَة
حجة الوداع.. إعادة ضبط التقويم بعد عبث العرب
يدور القمر حول الأرض مرة كل 29,5 يوما، وبالتحديد كل (29 يوما و12 ساعة و44 دقيقة و3 ثواني). ولهذا يكون الشهر 29 أو 30 يوما، وهو ما وصفه سيدنا محمد ﷺ في حديثه عن تحري الهلال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: “إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَقَدَ إِبْهَامَهُ عَلَى الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ”. رواه البخاري ومسلم.
وقد ظهر العمل بالتقويم القمري قبل البعثة بنحو 200 سنة، في عهد قصي بن كلاب جد النبي ﷺ الخامس، لم يسلم ذلك التقويم من تدخل اليهود فيه، فلليهود تقويمهم، وهم أبناء حاضرة يزرعون ويتاجرون، والتأريخ جزء لا يتجزأ من حياة المدن في فارس والروم وغيرهما، وكان اليهود يفعلون ذلك.

ولخلطة العرب القريبة جغرافيا باليهود، تأثروا بهم. فالتقويم اليهودي أو العبراني تقويم شمسي قمري، وفيه فكرة الكبس لثلاثة عشر شهرا، فهم مرتبطون بمواسم زراعية وعبادات مشروطة بوقت معين في السنة الشمسية (منها عيد الفصح الذي يجب أن يأتي في الربيع)، والفرق بين السنة القمرية والشمسية (11 يوما كل سنة) كان يؤدي إلى تراجع الأعياد الموسمية عبر الفصول. لذا كانوا يضيفون شهرا ثالث عشر كل سنتين أو ثلاثا، لإعادة التوازن بين الدورة القمرية والدورة الشمسية.
هذه العملية تُسمى “كبس السنة” أو “إقحام شهر النسيء”، ويُسمّى الشهر المضاف “أدار الثاني”، فيصبح عدد شهور السنة في سنة الكبس 13 شهرا.
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
اقتبس العرب فكرة النسيء هذه، فصاروا يبدّلون ترتيب الأشهر الحُرُم لأغراض حربية وتجارية، ويضيفون شهرا ثالث عشر لتحويل السنة القمرية إلى قمرية شمسية كسنة اليهود، ولتظل المواسم والمناسبات في أوقاتها، لا سيما شهر الحج الذي يفضل أن يأتي في الشتاء، حين يكون الطقس معتدلا نسبيا في مكة المكرمة.
ظل العمل على هذا النسق من الكبس، وكان الكابس أو الناسئ يعلن ذلك في أسواق العرب، وأهمها سوق عكاظ. فكان هذا الرجل يدعى “القُلمّس”، فكان كلما ضاق بالناس ذرع وأصابهم قحط وحاجة إلى الغزو والنهب وقطع الطريق، استبطؤوا نهاية الأشهر الحرم بعد الحج، فهي ثلاثة متتالية، فكانوا يطلبون منه أن ينسأ لهم المحرم إلى صفر، أي يؤجله، وبذلك يصبح الشهر (المحرم) فراغا لا مسمى له، وربما يكون هذا هو الشهر الثالث عشر الذي أضافه القلمّس إلى السنة، كي توافق التقويم الشمسي أيضا.
كان القلمس يأتي السوق على حماره، ويخطب بالناس قائلا: “أنا الذي لا أُهاب ولا أُعاب، ولا يرد لي قضاء.. نسأت لكم المحرم إلى صفر”. وربما يبقي المحرم في مكانه دون نسيء لتلك السنة.

فلما كان من شأن العرب العبث بالتاريخ وترتيب الشهور، غاب الترتيب الحقيقي لمواقع الشهور التي وضعها الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، فأصبحوا لا يعرفون أهُم في المحرم حقا أم في صفر أم في شهر آخر. إلى أن جاءت حجة الوداع فحسمت الأمر، وكانت السنة التي استدار فيها الزمان، أي التي عاد فيها ترتيب الشهور الحقيقية إلى أماكنها كيوم خلقها الله تعالى.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تمتد يد مسلم إلى التقويم الهجري، ولم تعد السنين تكبس ولا تنسأ، فذاك محرم بنص القرآن والحديث النبوي، فمن ذا يتجرأ على المساس بحرمة هذا الترتيب؟
“ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومِثلَه معه”
وعليه، وحتى يومنا هذا، بقي الترتيب كما بدأ الله تعالى وأقره النبي الأكرم ﷺ في حجة الوداع معمولا به.
لكن أصواتا نشازا ظهرت في العصر الحديث، تحمل فَهما يدّعي أن الدين هو القرآن وحسب، منكرين السنة النبوية الشريفة التي وردت في حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: “ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومِثلَه معه، ألا يُوشك رجلٌ شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي، ولا كلُّ ذي نابٍ من السباع، ولا لقطةُ معاهدٍ إلا أن يستغني عنها صاحبُها”. رواه أبو داود.
وهؤلاء يريدون أن ينتصروا لفهمهم القاصر، فماذا فعلوا؟
مغالطة خطأ التقويم الهجري
منذ نحو 3 عقود، ظهرت جماعة من المتكلمين تتقوّل على التقويم الهجري ما ليس فيه، إما جهلا بتاريخ التقاويم، وإما رغبة في الشهرة وطرح رأي، لمجرد أنه رأي.
هم أصحاب منهج دخيل، يريدون به أن يغلّطوا أمة الإسلام عبر قرونها الـ14، بإثبات جهل علمائها في الفهم الحقيقي لنصوص الآيات والأحاديث التي تكلمت عن التقويم والشهور القمرية عامة، والشهور الحرم خاصة، ويطعنون في فهم الصحابة وكبار علماء الإسلام ومفكريه في ذلك.
فكما أسلفنا، فقد عمل المسلمون -وأهل الجاهلية من قبلهم- بالأشهر الحرم الأربعة (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)، ولم تجهل العرب في الجاهلية تلك المعلومة وعملت بها أكثر من 200 سنة قبل البعثة الشريفة.

ثم جاء القرآن يؤكد تلك الحقيقة في سورة التوبة بقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ..) سورة التوبة 36.
وجاء من بعده النبي الأكرم ﷺ فأعاد تأكيدها في خطبة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، فقال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان”. رواه البخاري ومسلم.
فهم يطالبون بوجوب بقاء شهر رمضان في الشهر التاسع، لا ينتقل إلى صيف ولا شتاء، وأن هذا هو الفهم الحق للتقويم.
وفي طرحهم مغالطات لا تنتهي، رد عليها فلكيون وفقهاء، أبسطها أنهم لا يستطيعون الرد على تسمية شهري جمادى الأول والآخرة (وترتيبهما الخامس والسادس في التقويم الهجري) بهذا الاسم إذا كان وقوعهما في فصل الشتاء حيث البرد القارس، فكيف سيأتيان في فصل الصيف (شهر مايو/ أيار ويونيو/ حزيران) في الترتيب الذي يريدونه هم؟
هل التقويم الهجري صالح للحياة المدنية؟
إجابة هذا السؤال المباشرة: نعم. فالتجربة السعودية منذ عقود أثبتت ذلك، ولم تقع أخطاء في المواعيد، فهي مسبقة الإعداد، وبسببها ظهر تقويم أم القرى، وهو تقويم مدني بحت، ربما استعمل -خطأ- للاستدلال على البدايات الحقيقية (القائمة على الرؤية البصرية) لبدايات أشهر العبادات: رمضان وشوال وذي الحجة.
لكن ما يؤخذ على التقويم القمري -وليس مأخذا حقيقيا- كونه ليس تقويما شمسيا، أي أنه لا يحافظ على الفصول في أوقاتها، وهي ذات الدعوى التي انتصر لها أولئك النفر ممن جهل حقيقة هذا التقويم.

فالتقويم القمري مدني بامتياز، فيمكن -إن اتفقت الأمة- أن يعد إعدادا حسابيا مسبقا، بل يمكن ألا يخالف التقويم الشمسي إلا في المناسبات والعبادات التي تتنقل عبر التقويم الشمسي، وما ذاك إلا رحمة بعباده في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن استعماله تقويما مدنيا، ثم الاستدلال منه على نهايات الأشهر للدعوة للخروج لتحري أهلة الأشهر، إنما هو أمر فيه تضليل للناس وربما تدليس عليهم، فكيف لتقويم بدأ شهره بحساب فلكي وفقا لمجرد وجود القمر فوق الأفق دون تحقق أي شرط من شروط الرؤية، أن يصبح حكما على نهاية الشهر في يومه التاسع والعشرين، وأن يكون سببا في الدعوة للخروج للتحري؟
“ألا إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض”
ومع ذلك فما ذلك إلا أخطاء يمكن للأمة تجاوزها بسهولة، إن أرادت أن تكون لها سيادة تأريخية على زمانها. ولا يضر التعامل بالتقويم القمري استعمال التقويم الشمسي العالمي، فهو أمر واقع لا يستطيع أحد في العالم الانفكاك عنه.
وهكذا، يظل التقويم الهجري أكثر من مجرد نظام لحساب الزمن؛ فهو شاهد على ولادة أمة، وتعبير عن هويتها ومرجعيتها الروحية والتاريخية.
فمن لحظة الهجرة التي فرّقت بين الحق والباطل، إلى قرون من العمل به في مراسلات الدول وتنظيم شؤون الحياة، ظل التقويم الهجري رابطا جامعا بين الماضي والحاضر، بين عبق الرسالة ونبض الزمان. وفي زمن تتسارع فيه الدعوات لطمس الخصوصيات، يبقى الحفاظ على هذا التقويم إحياء للذاكرة، وتأكيدا على أن للأمة تاريخا تعرف به، وزمنا تمضي فيه على هدى من نور النبوة.