دور السينما الأردنية.. صناعة على حافة النسيان بعد عقود من الألق

ظلام يلف المكان، وصوت موسيقى حزينة تبكي على الأطلال، خيط ضوء متعب قادم من الأعلى، يكشف شقوق بناية متهالكة، وأثاث مهترئ ممزق، وطبقات من الغبار تروي تاريخا منسيا، وآلات ساكنة كانت إلى وقت قريب تنبض بالحركة والحياة.

فيلم “على حافة النيسان” على منصة الجزيرة 360

لم يكن ذلك بسبب قذيفة ولا زلزال، إنما هي دار عرض سينمائي في وسط العاصمة الأردنية عمان، كانت إلى وقت قريب تزهو بالفخامة، وتعجّ بأقدام الزوار، وتدور عجلات آلاتها بأحدث أفلام الشرق والغرب، وتتزين مقاعدها بكبار الشخصيات والعائلات الراقية.

الحكواتي، وسيلة الترفيه الوحيدة قبل ظهور السينما

سيأخذنا هذا الفيلم في جولة حزينة بين أطلال دور السينما الأردنية، من العاصمة عمان إلى مدن أخرى منها الزرقاء وإربد، ليحكي كيف سطعت شمس هذه الدور، وتألقت قرنا من الزمان، حتى أفل نجمها ولفّها ظلام النسيان وصمت القبور.

هذا الفيلم أخرجه عبد الهادي الركب، وأنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شتى منصاتها بعنوان “على حافة النسيان”.

سينما حصرية لذوي البشرة الشقراء

بدأت الحكاية في مطلع القرن العشرين، ولم يكن الأردنيون يومئذ قد عرفوا من وسائل الترفيه إلا شخصية “الحكواتي” في المقاهي، وكان الخيال حينها مجبرا على خلق الصور وصناعة المشاهد، فحين يبدأ السرد تنهض الشخصيات من بين السطور، وتسعى في المساحة بين مقعد الحكواتي ومقاعد المتحلّقين حوله.

كانت دور السينما الأردنية تستقبل جمهورها جلوسا على الأرض قبل رفاهية الكراسي

أما السينما، فكانت حكرا يومئذ على البيض من عمّال الانتداب البريطاني وعائلاتهم، وتلك محاولة من بريطانيا لإقناع رعاياها بالصمود في بيئة “فقيرة ثقافيا واجتماعيا”، مقارنة بالبيئة التي جاؤوا منها، وذلك للوقوف على مصالح بلادهم ونفوذها في بلادنا.

يقول الناقد السينمائي ناجح حسن: منذ عشرينيات القرن الماضي، ظهرت بواكير صالات العرض السينمائي بوسائل بسيطة، فمن خلال الوجود البريطاني لإنشاء خطوط النفط القادمة من العراق باتجاه فلسطين، كان الإنجليز يوفرون للعاملين فرصة مشاهدة الأفلام، في سيارات متنقلة أو أماكن ثابتة، حكرا على هؤلاء العاملين.

افتتاح أول قاعة عرض عربية الملامح

مع مطلع العشرينيات وبداية تشكّل إمارة شرق الأردن، سخّر السوري أبو صيّاح القباني سقيفةً من الصفيح بشارع البتراء في عمّان، لتصبح أول دار سينما تستضيف الناس، وبلغت طاقة استيعابها ألف مشاهد، وبعدها افتُتحت صالة الفيّومي، وصارت العائلات تتهافت عليها، فحداها ذلك لتخصيص عروض للنساء كل يوم اثنين، وذلك مع مطلع الأربعينيات.

صاحب السينما يستخدم وسائل بدائية كالمزمار لجلب انتباه الجمهور

ويذكر الناقد السينمائي عدنان مدانات أن صالات العرض تركزت في ثلاث مدن رئيسية؛ عمان التي هي عاصمة البلاد، والزرقاء التي تبعد عنها نحو 30 كيلومترا، وفيها معسكرات للجيش، وتسكنها عائلات الجنود، ثم إربد التي هي أكبر مدن الشمال.

وقد اتسمت سينما أبو صياح -على عكس دور الإنجليز- بملامح عربية، وكان الحضور يجلسون على الحُصُر لا على المقاعد، ولانعدام وسائل الإعلان عن العروض، كان أبو صياح يروّج لعروضه بطرق بدائية، منها النفخ في البوق، واستخدام الطبول لجذب الزبائن، وكانت الأفلام صامتة آنذاك.

مبنى سينما بسمان وسط العاصمة عمان

ثم لحق به منافسون آخرون، فصنعوا مقاعد من القش لجذب الجمهور، واستخدموا آلة “الفونوغراف” لكسر الصمت، وبث موسيقى ترافق الصور، واتجهوا إلى الأصوات العربية، فمنها صوت محمد عبد الوهاب الذي لاقى استحسانا، وكذلك أم كلثوم.

في 1934، كسرت سينما البتراء الصمت، وعرضت أول فيلم ناطق أقرب إلى السحر في حينه، وتربعت بذلك على عرش دور السينما الأردنية أكثر من 6 سنوات بلا منافس، حتى استأجر تجار سوريون سطح بناية في وسط عمان، وأنشؤوا “سينما الإمارة” لتبث الأفلام الناطقة في فصل الصيف فقط، ثم ما لبث العرض أن أصبح طوال العام، على مقاعد أفضل من القش.

طوفان دور العرض يجتاح المدن الأردنية

اشتد التنافس بين البتراء والإمارة، فقدّمت البتراء عروضا مسرحية مباشرة، منها “كرسي الاعتراف” ليوسف وهبي، وأدت المنافسة إلى ظهور دور عرض أفخم في منتصف الأربعينيات، منها دار الفيومي التي أصبحت “سينما الخيام” على سفح جبل اللويبدة، وذلك أول زحف للصالات إلى جبال عمان وأحيائها السكنية، ثم سينما وإستوديو الأردن، وشهرزاد في جبل عمّان، وكلها تعمل بنظام فيلم 16 مليمترا.

سينما الحسين الفخمة وسط عمان

وبعد حرب 1948، وقدوم اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن، دشّن بعضهم قاعات تواكب التطور الذي وصلت إليه دور العرض في العالم، بنمط معماري مميز، فمنها قاعات زهران وبسمان ورغدان، وكلها في وسط عمان. ثم جاءت سينما الحمراء لشكري العموري، وسينما ركس لإسكندر البنا، التي هدمت وأسس مكانها سينما وإستوديو زهران.

وفي إربد في الأربعينيات، افتُتحت سينما البتراء، وتطورت باسم سمير ثم اسم الفردوس، ورافقتها سينما الزهراء وديانا والجميل، ثم سينما وإستوديو زهران. وفي الزرقاء أسس زكريا الطاهر سينما النصر مطلع الخمسينيات، وتبعتها سلوى في 1955 لعلي النجار. وفي 1968 أسس ميشيل وسليمان صيقلي سينما الحسين الفخمة وسط عمان، ثم ظهرت سينما فلسطين في السبعينيات.

مبنى سينما سلوى في مدينة الزرقاء

وفي 1952، دشّن علي الكردي -مالك البتراء الجديد- نقلة نوعية بافتتاح سينما زهران في شارع السلط، وهي قاعة فخمة مهيأة لاستقبال العائلات، وعرض فيها أول مرة أفلام 35 مللمتر. فاستقطب بذلك كبار الشخصيات، من الدبلوماسيين ورجال الدولة والأثرياء، بل اشتملت على مقصورة ملكية، حضر فيها الملك الراحل الحسين بن طلال عدة عروض.

نجوم السينما يتسابقون إلى عمّان

جاء إلى الأردن عدد من النجوم لحضور حفل تدشين أفلامهم، منهم فريد الأطرش الذي حضر افتتاح فيلمه “لحن الخلود” (1952)، وغنى أغنية الفيلم الرئيسية، وتوالت العروض العربية والأجنبية، حتى حضر النجم العالمي عمر الشريف عرض فيلمه “لوعة الحب” (1960)، وحضرت من قبلهما الفنانة أسمهان عرض فيلمها “انتصار الشباب” (1941) مع أخيها فريد الأطرش في قاعة سينما البتراء.

مدينة عمّان في الخمسينيات

أثارت هذه القفزة طموح التجار والمستثمرين، لتطوير قاعاتهم تناغما مع متطلبات المرحلة، وتزايد الإقبال على السينما، فمن جهة تطورت أدوات العرض وبيئة الصالات، ومن جهة أخرى تطورت صناعة السينما في العالم، وتعددت مصادر الأفلام، واشتدت المنافسة لاجتذاب الزبائن، إما عن طريق أسعار التذاكر، أو تجهيزات القاعة وجودة أثاثها، وطريقة الإعلان عن الأفلام وجنسياتها.

يقول فريد أبو الراغب، وهو عامل مطعم بإحدى القاعات: كانت الشوارع تغلق من شدة الازدحام، عندما يعلم الجمهور أن أحد النجوم قادم لحضور عرض فيلمه، وكنا نطلب رجال الشرطة لتأمين المكان وتنظيم دخول الجمهور.

وقد اشتعلت المنافسة، لدرجة أن أفلاما مصرية عرضت في الأردن قبل أن تعرض في القاهرة، وكانت أغلب الأفلام المعروضة يومئذ مصرية أو هندية، مع قليل من الدول الأخرى.

الفنان فريد الأطرش يحضر حفل افتتاح فيلم “لحن الخلود” في عمان

وكانت الدولة حاضرة، بتطوير القوانين وتحديث أنظمة الضرائب، بما يتلاءم مع تطور سوق السينما، لإدراكها أهمية تلك السوق في تحريك الاقتصاد الأردني، ففي 1952 صدر قانون يصنف دور العرض على ثلاثة مستويات، وتحددت على أساسها أسعار التذاكر وقيمة الضرائب، وصدرت تعليمات تحدد ساعات العرض وأوقات تهوية الصالات، مراعاة للمعايير الصحية والبيئية.

مع نهاية الثمانينيات، حقق الأردن نهضة في مجال دور العرض، فتأسست قاعات فخمة، تراعي تقليل الازدحام والراحة والأمان، ومستويات الرفاهية والمتعة، فمنها قاعات كونكورد والأوبرا، وكذلك سينما فيلادلفيا التي كانت من أفضل صالات الشرق الأوسط، ففيها 500 مقعد وأثاث فخم وأجهزة حديثة، وقاعتان كبيرتان، وأثاث فخم جدا من المقاعد والثريات.

زلزال الفيديو المنزلي يضرب السينما بعنف

لم يحقق ذلك النموذج السينمائي العائد المرجو، ولم يصمد أمام زلزال سريع ومدمر يهوي بالقاعات واحدة تلو الأخرى بهدوء، عن طريق جهاز صغير هو الفيديو المنزلي، كان الانهيار تدريجيا وناعما، فقد كانت كلفة استئجار الفيديو وشريط الفيلم عالية جدا، إذا ما قورنت بأسعار تذاكر السينما، ولكن الخصوصية ودفء المنزل وحضور العائلة لا يقدر بثمن.

زلزال الفيديو يضرب قاعات السينما

كانت واجهات القاعات في عمان تشكل نوعا من المنظر الجميل الجذاب، وكانت كثافة الجماهير المتلهفة لدخول القاعات تعطي شكلا من الحيوية للمدينة، وبعد أن كانت هذه الدور تنمو سريعا بمعدل 10 صالات جديدة سنويا، أصبحت في نهايات القرن ومطلع الألفية مشاريع كساد، لم تمهل أصحابها للتفكير في الخطوة التالية.

ترافق هذا الوضع مع انتشار أجهزة الفيديو بنظاميها “في أتش أس” و”بيتاماكس”، والأقراص الحاسوبية المدمجة، وأقراص “دي في دي”، ثم ثورة الإنترنت ومنصاتها. كما ترافق هذا الانهيار مع افتتاح دور سينما ذات طرز رقمية حديثة في المراكز التجارية والفنادق.

قاعات عرض طواها النسيان

تقول قمر الصفدي، وهي ممثلة وإعلامية أردنية: بعد انتشار التلفزيون وتضخم الإنتاج التلفزيوني، آثر الناس الجلوس في بيوتهم، والاستمتاع بالأجواء العائلية والخصوصية، والاكتفاء بما يبثه التلفزيون من برامج، فانحسر مجد السينما ومدها.

وأما علي أبو الراغب، وهو فنّي عرض أفلام، فقال: عملت في دور السينما منذ 1970، وبدأت في سينما البتراء، وإنني لأتحسر على هذا المآل، فقد قضيت في هذا المكان نحو 50 عاما من عمري، وكان مصدر رزقي، ولي فيه ذكريات لا تنسى. وارتاده شخصيات المجتمع والعائلات المحترمة، وها هو اليوم مجرد مكان مهجور أشبه بالأطلال.

دور العرض الحديثة.. الانزلاق إلى نفس المصير

خلال العقد الأول من الألفية، عاودت دور السينما الظهور في المراكز التجارية، لكن بحلّة مختلفة وتقنيات فنية حديثة، لتحفز الأجيال الجديدة على هذه التجربة القديمة الحديثة، فشهد هذا الطراز إقبالا شجّع أصحابه على التكاثر، وعاد الازدحام على شبابيك التذاكر، وفي ذات الوقت كانت القاعات العتيقة تغرق في ظلمة الهجران، ثم الإغلاق والهدم لاحقا.

الهدم يطال إحدى دور العرض الفخمة

يقول رائد عصفور، وهو مصور ومخرج ومدير مسرح البلد: في 2017، أقيم مشروع عن هوية مدينة عمان لمهرجان الصورة، ففكرت بعمل توثيقي عن قاعات السينما، التي كانت جزءا من هوية مدينة عمان واختفى أكثرها، وجمعت كثيرا من صور مسارح القاعات، وعرضتها في مسرح البلد، بعد أن أصبح مركزا ثقافيا.

ثم يقول: التقيت مع أبو علي المغربي، وهو من رواد تركيب دور السينما في القدس في الأربعينيات، وكان مشروعه الجديد فكّ هذه التجهيزات التي كان يركبها، وذلك في سينما الخيّام وبسمان في عمّان، كم كان مؤلما اجتثاث مقاعد الجمهور وتكسيرها، كان ذلك كمن يجتث شجرة من أصولها، وكيف ترمى أشرطة الأفلام مع المهملات، وتباع أجهزة العرض “خُردة”.

إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. محاولات يائسة

يقول المنتج السينمائي طارق أبو لغد: يمكن لدور العرض العتيقة أن تستعيد مكانتها وحضورها، ولكن بعرض أفلام مستقلة غير تجارية، بدأنا مشروعنا بسينما الرينبو في جبل عمان، وهي دار عرض ومسرح، تأسست في 1954 ثم أغلقت. وبدأ مشروعنا بعرض أفلام مستقلة لجمهور معين، يبحث عن هذه الأفلام ولا يجدها في أماكن أخرى.

قاعات العرض الحديثة.. محاولات يائسة للبقاء

أما رائد عصفور، فيقول: نجحنا في 2005 بافتتاح مسرح البلد مكان سينما فرساي، وقدمنا فيه مشاريع فنية وعروضا خاصة لغاية 2016، لكن مع الأسف طلب منا المالك الجديد إخلاءه لاتخاذه مطعما، وعاودت التجربة في سينما فيلادلفيا، لاتخاذها مركزا ثقافيا يضم مسرحا به 400 مقعد وصالة سينما وقاعات للتدريب والمعارض ومقهى صغير، نتأمل افتتاحها مستقبلا، وتكون لدينا الملاءة المالية، لجعلها مركزا يشعّ بالثقافة والفن.

ومع دخول الإنترنت إلى المنازل مطلع الألفية الجديدة، دُفعت القاعات الحديثة إلى الحفرة ذاتها التي حُشر فيها الرواد، ومع ظهور التلفزيونات الرقمية الذكية يبدو أن صالات السينما تفقد آخر فرصها للبقاء، وتغرق في الصمت من جديد، صمت يأكل الأخضر واليابس والملون والناطق من الأفلام.


إعلان