“الساقية”.. أغنية لامست هموم البسطاء وأغضبت فرعون السودان

ترمز الساقية في الذهنية العربية إلى مشاهد الحياة اليومية المتكررة، إلى الروتين القاتل، وترمز أيضا إلى العجز والاستسلام، وإلى تسلُّط فئة على فئة. لكنها من وجهة نظر الشاعر السوداني عمر الطيب الدوش ترمز إلى نار الثورة المختبئة تحت الرماد، وإلى التمرد على القمع والتسلط.

انتظم عِقد الأغنية، ووجدت “الساقية” ملحنا عزم على أن تُطبق شهرتها الآفاق، وصوتا شجيا نديّا نقلها إلى فضاءات أخرى حتى أصبحت رمز الثائرين وشعار المتظاهرين، ثم جاءت الجزيرة الوثائقية لتحكي لنا قصتها الكاملة، من خلال حلقة خاصة ضمن سلسلة “حكاية أغنية”.

“الساقية”.. أغنية تلامس هموم الناس اليومية

“الساقية” أغنية مشحونة بالكثير من المعاني، فهي ترمز إلى عدة قضايا، باعتبار أن كلماتها كتبت في ظل فترة الديكتاتورية الثانية، أيام جعفر النميري، وصاغها الشاعر على لسان الفتى أحمد الذي يدير الساقية:

أحمد حكا
واسند الراس الذراع
والشوف نواحي النيل اتّكا
وصّاني أبوي
الموج يهدم كل رخو على الجُروف
شد الذراع

ترمز الساقية في الذهنية العربية إلى مشاهد الحياة اليومية المتكررة وإلى الروتين القاتل

ورغم أن عناصر الأغنية الأساسية تتركز في كلماتها واللحن والأداء والتوزيع الموسيقى، فإنها حملت بُعدا آخر أكسبها نوعا من الدوام، وهذا البعد هو ملامسة هموم الناس والالتصاق بمعاناتهم اليومية:

الساقية لسّا مدوِّرة
صوت القواديس
والمياه طلعت مشت متحدِّرة
مدّ البصر لفّ الظلام

يقول الموسيقار ناجي القدسي، ملحن الأغنية: منذ استلمت كلمات الساقية أيقنت أنه نص جيد، فقلت للشاعر الدوش: هذه الكلمات المتميزة سأضعها في إطار موسيقي مذهل ومميز، حتى يتحدث عنها ويغنيها السودان بأكمله، بل خارج السودان أيضا.

كتب الشاعر قصيدته من غير مناسبة، ولكنها كانت تمردا على لون الغزل العاطفي، وكان في ذهنه أن يعطيها للمغني محمد وردي لأدائها، ولكن ملحن الأغنية الأستاذ القدسي أشار عليه أن يعطيها للأستاذ حمد الريح.

الفتى أحمد.. حلم التعليم وواقع دوران الساقية

في تفاصيل القصيدة إشارات واضحة عن أحلام الطفل أحمد الذي يدير الساقية، وكان يفترض أن يذهب إلى المدرسة في مثل هذه السن، وهو حلم جميع الأطفال في مثل سنه:

أحمد ورا الثيران يخب.. أسيان يفكر منغلب

ما بين بكا الساقية الهناك.. وما بين طفولة بتنتحب

في اللي ماشيين المدارس.. في المصاريف في الكتب

في اللي ضاق بيه المكان.. هسّا سافر واغترب

لمدن بعيدة تنام وتصحى.. على مخدات الطرب

والساقية طاحونة الأنين

ويقول القدسي ملحن الأغنية: قلت له أيضا سوف أضيف كلمات غير موجودة في النص أصلا، فقد أصبح الموضوع تحديا بالنسبة لي، وستكون هذه القصيدة فرصة لأن يغنيها الناس في المظاهرات، فهذا الإيقاع الذي سأختاره للأغنية سيذكّر الناس بإيقاع شعارات مثل “لن يحكمنا الأمن الوطني” التي كان يهتف بها الناس في المظاهرات.

“يحيا الشعب”.. كلمات تلهب المظاهرات وتستفز الدكتاتور

ربما أوحت الإيقاعات التي استخدمت في تلحين هذه القصيدة بالهتافات التي تصدح بها الجماهير في المظاهرات، ولذلك صارت هذه الأغنية تُذكّر بالاحتجاجات والثورة على الظلم، وفي نفس الوقت تستفز النظام الحاكم وتثير حقده على الناس الغاضبين.

وقد استخدمت الأغنية على نطاق واسع بعد انقلاب جعفر نميري على الشيوعيين، وصار المتظاهرون يغيرون في كلمات الأغنية بما يتلاءم ونقمتهم على نظام النميري:

يحيا الشعب.. يحيا الشعب
راس نميري.. مطلب شعب

“سيذهبون جميعهم وتبقى الساقية”

طارت هذه الأغنية في الآفاق، ورددها طلاب الجامعات السودانيون في العراق، واستقبلوا بها المغني حمد الريح الذي سجّلها لأول مرة حين سافر للعراق لإحياء حفل غنائي له هناك.

وقد ظنَّ النظام الحاكم أن المغني حمد الريح كان له ضلع في تأليب الجماهير ضد الحكم، والحقيقة أنه ليس له ناقة ولا جمل في هذا الأمر، وإنما كلمات الأغنية كان يتلقاها الشارع السوداني ويفهمها كلٌ حسب ما يريد.

كتبت أغنية الساقية في ظل فترة ديكتاتورية الرئيس جعفر النميري

وقد تعرض الثلاثة الذين صنعوا الأغنية -الشاعر والملحن والمغني- إلى عدة مضايقات من قبل النظام بسبب هذه الأغنية، بل إن المغني حمد الريح أوقف عن التدريس في الجامعة، وفصل من عمله في وزارات أخرى أكثر من مرة، وكان يقول: سيذهبون جميعهم وتبقى “الساقية”.

والحق في ساحة مجزرة
والنصر للفأس
والرجال للسواقي مدوِّرة