“هلال في وجه النازية”.. قصة بن غبريط الذي حمى اليهود ودافع عن الاستعمار الفرنسي

مسجد باريس الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي

لا نشاهد فيلما عن عرب فرنسا إلا تذكرنا شيئا من رائعة “بلديون”، الذي أنتج بتعاون فرنسي جزائري مغربي سنة 2006، وأخرجه الجزائري رشيد بوشارب. فهو يعرض قصة محاربين مغاربة أرغموا على القتال تحت لواء الجيش الفرنسي، لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية. ويركز على ألم النكران والنسيان الذي قابلهم به الفرنسيون لاحقا.

يستعرض المخرج نماذج ممن قاتلوا حتى تحرير الألزاس على الحدود الفرنسية الألمانية، فيأخذنا إلى باطن المقاتل الجبلي ياسر، وهو يضم إليه جثمان شقيقه العربي، بعد أن أوقعه كمين ألماني صريعا، صارخا في وجه السماء “علاش يا ربي علاش”.

هلال في وجه النازية: قصة أبطال جامع باريس- الجزء 1

ويأخذنا إلى شعور سعيد المهان حتى جلد الذات، وهو يتساءل متى كانت الحمير من أمثاله وأمثال أترابه، تتولى القيادة في الجيش الفرنسي، وتمنح رتبة عقيد؟

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

ثم ينتهي الفيلم بمشهد عبد القادر ذاهلا، وهو الناجي الوحيد من بين العرب، والحشود تستقبل الجنود الفرنسيين الذين كانوا يتحصنون به هو ورفاقه الذي أهلكتهم نيران الألمان، بصفتهم أبطالا محررين، ويُترك هو في الخلف وحيدا يتأمل المشهد، عاجزا عن استيعاب ما فيه من خذلان.

أستعيد هذا الموقف وأنا أشاهد فيلم “هلال في وجه النازية.. قصة أبطال جامع باريس”، وهو وثائقي للمخرج أكرم العدواني، أنتجته الجزيرة الوثائقية.

جامع باريس الملاذ الآمن أثناء الحرب

الفيلم قصة أخرى من منسيين آخرين، من أبناء المغرب الكبير، الذين خدموا فرنسا في حرب استقلالها، وهم قدور بن غبريط ورفاقه. فقد اكتشفت وثائق مهمة حول الرجل، لكنها غير معروفة كثيرا، وتفاعلت مع أطروحة الفيلم التي تصوره مسلما خدم الإسلام والمسلمين، وممثلا للهلال في التعاطف مع اليهود ضحايا النازية، وتجعله أيقونة للسلام والتضامن بين الأديان.

ولكن أتساءل كيف سيتناول المخرج هذا الموضوع الصعب، الذي يمثل مأزقا، لأن بن غبريط يثير جدلا كثيرا، من حيث مسار حياته، ومن حيث مواقفه.

ملصق الفيلم

بدا أن المخرج أكرم العدواني يعي حجم التحدي، فيأخذنا إلى أحداث كثيرة متشابكة جدت، لا سيما أثناء احتلال الألمان للعاصمة باريس بين 1940-1944 خلال الحرب العالمية الثانية، ويعرض إسهام جامع باريس في غوث اليهود التي تلاحقهم القوات الألمانية النازية، ويعرفنا على إسهامه في إيواء مقاتلي شمال أفريقيا، الذين اختاروا الدفاع عن فرنسا، أو أرغموا على الانضمام إلى جيوشها.

وكان من أدوار الجامع أثناء الحرب الحرص على سلامة الجنود المسلمين في المعتقلات الألمانية، وإيفاد ممثلين عنه لزيارتهم، ومساعدة الوافدين من بلدان شمال أفريقيا على العودة إلى بلدانهم عبر ميناء مرسيليا، حين قررت القوات الألمانية إجلاءهم، فبلغ عدد الجزائريين منهم نحو 100 ألف أو يزيدون.

مشاعر متجمدة في محيط متجمد

لا يكتفي الفيلم بعرض الماضي، بل لعله يجعله جسرا لوصله بالحاضر، ولمناقشة قضايا واقعنا اليوم. فيستهل مشاهده الأولى بجزائري مقيم في كندا وهو يكتب رسالة إلى “آني بول ديرشنسكي”، الصحفية في الإذاعة اليهودية، فيكشف لها أن عزلته وسط الثلوج الكندية، قد أتاحت له الفرصة ليتأمل مصير الإنسانية، وليقف على هول الحرب باعتبارها نتيجة للهشاشة الإنسانية.

وهو يعول على تجربة مخاطَبته، التي خبرت الحرب، لكون أبويها قد ذاقا مرارة المعتقل، وهي تحاول أن تتعرف أكثر على دور الجامع في حماية اليهود، وتجمع شتى الشهادات في سبيل ذلك.

هلال في وجه النازية: قصة أبطال جامع باريس- الجزء 2

تصور هذه المشاهد امتداد الغابات التي يكسوها بياض الثلج، وترامي الساحل المتجمد. ويكشف الصوت من خارج الإطار أن وظيفة هذا التشكيل البصري المذهل ليست إنشائية جمالية، ولا تعبيرا عن الطهر والنقاء اللذين يوحي بهما الثلج في مثل هذه المشاهد، بقدر ما هي تعبير عن القسوة التي تهيمن على عالمنا اليوم، وعن المشاعر التي باتت تسمه.

فهذا الجزائري ينطوي على نفسه، ويجد في محيطه المتجمد استعارة بصرية، تجسد تجمده العاطفي والروحي، وليس ما يبديه من الشكوى إلا لشعوره العميق بالفظاعة التي تعيشها الإنسانية اليوم، فيستغرب لعدم وجود مضاد لكلمة “الوحدة” في العربية والفرنسية والعبرية، فربما لا تسمي اللغة المشاعر التي تتحقق في الواقع.

وعلى أصداء هذه الحيرة تنفجر طبقة الجليد، فيأخذ المشهد معنى التفكك على المستوى الفردي والجماعي أو الدولي، ويعكس الشعور العميق بأن ما يعيشه الإنسان اليوم من عنف وحرب وكراهية، قد عصف بما يبذله الخيرون في سبيل الوحدة الإنسانية، وفي سبيل التكامل بين الحضارات والأديان.

بحث عن التعايش المنشود

بقدر ما بدا المرسل -وهو ممثل المسلمين- محبطا معزولا شاكيا، كانت الصحفية “آني بول ديرشنسكي” ممثلة اليهود متفائلة، وهي تجعل الصراع العربي الإسرائيلي مادة لفقرتها، التي تعرض أصداء الصحافة العالمية في الإذاعة اليهودية الفرنسية “راديو شالوم”.

تقدم “آني” نفسها صحفية فرنسية استفادت من نظام فرنسا الجمهوري، وتمتعت بما يوفر لها من المزايا، ولكنها لا تنسى هويتها اليهودية، ولا تغفر لأفراد الدرك الفرنسيين، الذين اقتادوا أبويها للتحقيق، بسبب هويتهما الدينية.

الصحفية “آني بول ديرشنسكي” تستقصي دور جامع باريس في حماية اليهود أثناء فترة النازية

فلا تنفك تُذكر بالهولوكوست وبمعسكر اعتقال “أوشفيتز”، ذلك المجمع الذي ضم أكثر من 40 معسكر اعتقال وإبادة، وأدارته ألمانيا النازية في الجزء المحتل من بولندا، خلال الحرب العالمية الثانية، كما تنخرط في الدفاع عن مصالح اليهود في العالم من منطلق ما تراه تجربة مؤلمة ينبغي أن لا تتكرر.

وليس اهتمامها بدور جامع باريس في إنقاذ اليهود إلا وفاء لقناعتها بإمكانية التعايش بين اليهود والمسلمين في الشرق الأوسط، فتتحدث عن قدور بن غبريط ورفاقه ممن خدموا الجامع، وعن لحظات التضامن والتشارك في إنقاذ الأرواح البشرية بدل إهدارها، وتجعل ذلك دليلا على إمكانية التعايش المنشود.

وبهؤلاء ترسم صورة إيجابية عن المسلم المحب للسلام، والمثقف الذي يكتب الشعر الغنائي، ويؤلف النصوص الدرامية لتُمثل على المسرح، وينشر الدراسات الأدبية النقدية، ويتنازل عن هذه الأدوار كلها، فيغامر بحياته وبحريته لإنقاذ حياة يهودي مستهدف، كما فعل بن غبريط.

معهد إسلامي في دولة علمانية

يمثل جامع باريس العنصر الذي شد شتى الشهادات، ومنح الفيلم تماسكه ووحدته، فيعرض سياق إنشائه والأدوار التي عهدت إليه. وقد شيدته فرنسا في الدائرة الباريسية الخامسة، لطمأنة الجاليات المسلمة في باريس، وإظهار تسامح الدولة الفرنسية مع الإسلام، والتعبير عن التزامها بالعناية بالجاليات المسلمة في أراضيها، وتكريم الجنود المسلمين، الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، وقتل منهم عشرات الآلاف.

وقد أوكلت مهام الهندسة المعمارية إلى مهندس إيطالي يهودي، كان يعيش في الجزائر، فاستوحى تفاصيل إنشائه من جامع القرويين بفاس، ومنارته من جامع الزيتونة بتونس. واختارت له بن غبريط، ليكون أول إمام ومدير لأول جامع بني في فرنسا.

جامع باريس الذي آوى اليهود الهاربين من النازية

وما يثير الانتباه حقا هو تبني الدولة الفرنسية العلمانية للمشروع، والحال أن قانونا صادرا في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1905، يمنعها من إنشاء دور العبادة وتمويلها ورعاية صيانتها.

ومع ذلك فقد أجمع مجلس النواب بجلسته المنعقدة في يونيو/ حزيران 1920، على مشروع “إنشاء معهد إسلامي في باريس”، الذي قدمه الحكومة إثر تقرير أعده “إدوارد هيريوت”، نائب عمدة ليون، وجاء فيه: يجب تكريم أكثر من 100 ألف من رعايانا وأتباعنا في خدمة وطن مشترك من الآن فصاعدا. إلى كل هؤلاء المسلمين، مهما كان أصلهم، سترحب باريس بالمعهد.

وقد افتُتح المعهد الإسلامي سنة 1926، بحضور الرئيس ورئيس الحكومة. وفي الافتتاح ألقى مديره عبد القادر بن غبريط كلمة، أشاد فيها بالحرية التي منحتها فرنسا لرعاياها العرب.

رسالة إحراج الضمير الفرنسي واليهودي

تبدو رسالة الفيلم واضحة، فالمخرج كان ينقب في الماضي، ويعرض قصة بن غبريط وزملائه، ممن أعطوا المثل في قدرة الأديان على التعايش بعيدا عن الصدام وصراع الحضارات، بحثا عن بارقة أمل. وفي ظل واقعنا المحبط، كان يحاول أن يذكر الضمير الفرنسي المسيحي، والضمير اليهودي العالمي، بفضل المسلمين عليهم.

ويستمد من إيثار الأئمة وتفاني الجنود طاقة استدلالية، تبرهن على دور مسلمي شمال أفريقيا في حماية اليهود، حتى لا يعتقلهم النازيون، فيصبحوا عرضة للإبادة والمحارق، كما تبرهن على دورهم في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، ذلك الفضل الذي كثيرا ما ينسب إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.

ويستمد من هذه الوقائع طاقة أخرى عاطفية، تخاطب وجدانهما، فيضع ضمنا الفلسطينيين الذين تمتهنهم إسرائيل، وتغتصب أرضهم، وتحرمهم من حقوقهم المشروعة اليوم موضع اليهود المهددين أمس، ويطلب منهم أن يفوا بالدين الذي يدينون به للمسلمين، وأن يعملوا على إطفاء حرائق الشرق الأوسط.

محرقة إسرائيلية بحق أطفال ونساء فلسطين في غزة

وعلى نبل النيات وجمالية الإخراج وحسن التوثيق، التي تحسب للفيلم، يُطرح السؤال بإلحاح: هل استطاع قدور بن غبريط أن يكون خادما للإسلام في فرنسا كما فعل “روبرت رشيد ستانلي” أو “عبد الله كويليام” أو فاطمة إليزابيث كيتس” من مسلمي العصر الفيكتوري مثلا؟

لقد تخلى بن غبريط عن هويته الجزائرية، فكان المسلم الفرنسي الذي يجيز احتلال فرنسا للبلدان الإسلامية، ويضع نفسه في خدمتها، لتحقيق أهدافها تلك. فكيف يجعله الفيلم نموذجا للمسلم الجيد المسالم، وهو ينزله في سياق معاصر، تحتل فيه إسرائيل الأراضي المقدسة.

ألا يقضي القياس عندئذ بأن يكون الفلسطيني الجيد هو الذي يفرط في هويته الفلسطينية، بحثا عن هذا المواطن الكوني، الذي لا يؤمن بالحدود، ولا بالتنازع بين الحضارات.

يبدو أن المخرج أكرم العدواني يسلم بأطروحة مدارها على أن عبد القادر بن غبريط رجل وطني مسالم، مفرط في وطنيته وسلميته. ولا يخلو هذا التصور من طوباوية تتجاهل الواقع، ذلك لأن بن غبريط ورفاقه وجامع باريس الكبير، قد مثلوا في مرحلة الحرب العالمية الثانية وجها مفارقا لدلالات القفا، وأثاروا جدلا عميقا، يحتاج لتفصيل القول فيهما.

فثمة تفصيلات لقصة “أبطال جامع باريس”، وجمع لشهادات يغيبها الضمير الفرنسي بقصد ونية.

ممرات آمنة لليهود الفارين من النازية

من هذه الشهادات حوارات وثقها المخرج “ريني بركاني” الذي اعتقل النازيون أهله عند احتلال باريس، وبها يتبسط الفيلم في أمر الجزائري عبد القادر بن غبريط، مؤسس المعهد الإسلامي بالجامع ومديره أكثر من 30 سنة، ودوره في إنقاذ اليهود الفرنسيين من هول المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية، ومنهم أطفال تركوا بلا عائل مثله، كان أهاليهم قد اعتقلوا واقتيدوا إلى المعتقلات النازية.

لقد تنوعت هذه المساعدات، فكان الجامع يمنح المهددين بطاقات هوية مزورة، تسمح لهم بتفادي المطاردة النازية، وكان يؤوي معتقلين فروا من معسكرات الاعتقال الألمانية وضاقت بهم السبل، فيطعم الجياع، ويكسو العراة، ويسعف المرضى.

كان لمسجد باريس الكبير دور في إنقاذ حياة الكثير من اليهود من النازية

وكان رجاله يدعون أن المقيمين مرضى يعانون السل، ويتلقون العلاج في الجامع، فيتفاداهم الألمان، ولا يقتربون منهم للتثبت من هوياتهم، لأن السل حينها كان يمثل العدوى الأخطر. ويذكر الفيلم أن عدد هؤلاء بلغ نحو 1700 يهودي أو أكثر.

ومما تذكره هذه الشهادات أن مقر الجامع وُصل بمنفذ ينتهي إلى أنفاق باريس تحت الأرض، فكان نقطة عبور إلى الممرات الآمنة.

يعرض الفيلم قصص بعض من تلقوا المساعدة، ومنهم “أسولين” الفار من معسكرات الاعتقال مع مسلم، فقد قررا معا اللجوء إلى الجامع لكونه الأكثر أمنا، فقُبل فيه بصفته تلك، وقدمت له المساعدة، ودُبر له هروبه إلى مكان آمن لاحقا.

ومن هؤلاء مغني المالوف الأندلسي سليم الهلالي، وكان يهوديا جزائري الأصل، وكان اسمه سيمون هلالي، فقد منح وثائق تثبت إسلامه، حتى أنه ظل يحمل اسمه الجديد، واتهمه بعض أبناء ديانته بكونه غير يهودي.

جماعة غير مهيكلة خدمت السلام والإنسانية

لا يختزل الفيلم بجزأيه الجامع في شخص قدور بن غبريط، فوراء الرجل فريق كامل من الموظفين، منهم أئمة وأطباء وإداريين وعمال، جندوا جميعا أنفسهم لإسعاف اليهود المضطهدين وإغاثتهم.

يعرض الفيلم منهم د. أحمد سمية، وعبد الحميد حفا، والإمام عبد القادر مسلي، الذي أرسل ليكون سندا للمعتقلين من شمال أفريقيا لدى الجيش الألماني، فاعتنى بهم وبالمعتقلين اليهود، وأسس صلات صداقة عميقة بذويهم.

ينتهي الفيلم إلى أن مسلمي جامع باريس الكبير مثلوا مجموعة معتبرة، قدمت ما استطاعت لليهود، مع أنها غير مهيكلة رسميا.

هتلر وهو يقف أمام علم النازية

وهذا ما تقوله الصحفية اليهودية “آني بول ديرشنسكي”، وتصادق عليه عزيزة بن غبريط، فقد أبوها قام بما قام به من منطلق تدين، وهي ترى أنه كان يتصرف من منطلق إيمانه العميق بإنسانيته، التي تتجاوز العرق والدين.

إن هذا السرد عن إمام يتخطى الحدود الضيقة، ليكون مواطنا كونيا يدافع عن الخير والفضيلة المطلقين، يجعلنا نعود إلى سيرته، لنتقصى أبعاد صورته، وننزلها ضمن خلفياتها العميقة. ولا يتعلق بحثنا بمدى نبل ما فعلت مجموعة جامع باريس، فذلك أمر مسلّم به، بل بالحوافز التي كانت تحرك أفرادها.

“ليس الفرنسيون بأكثر فرنسية منا”

تجعلنا العودة إلى سياق المجموعة التاريخي، نعي أن أفرادها قد آمنوا بانتمائهم إلى فرنسا وأخلصوا في ذلك أيما إخلاص، فخلعوا هوياتهم الأصلية، ورأوا مستقبل الجزائر في انتمائها إلى الثقافة الفرنسية وتبني هويتها.

كان الأديب المصري أحمد حسن الزيات يقف بجانب بن غبريط أثناء افتتاح الجامع عام 1926، ويُروى أنه قال له: قلتُ له وزميلتي الفرنسية تسمع: كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد، ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذلة؟

الأديب المصري أحمد حسن الزيات يستنكر على ابن غبريط استعباد فرنسا للعرب فيها

فلم يدعني الرجل أتم كلامي، وإنما قاطعني محتدا بقوله: لا يا سيدي، ليس الفرنسيون بأكثر فرنسية منا، نحن نتمتع في ظلال الجمهورية بالإخاء الصحيح، والرخاء الشامل.. أدام الله نعمة فرنسا على شعوب العرب، ونفع بعلومها وحضارتها أمم الإسلام.

فوجه بن غبريط الآخر الذي أهمله الفيلم، يتعلق بذلك الطفل الذي ولد في سيدي بلعباس بالغرب الجزائري، وتعلم في مدرسة تلمسان، التي أنشأتها فرنسا لتخريج موظفين محليين موالين لها.

“كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد، ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذلة؟”

الأديب المصري أحمد حسن الزيات

ثم بذلك الشاب الذي التحق عام 1892 بوزارة الخارجية الفرنسية، وارتبط اسمه عضويا بمشروع فرنسا التوسعي، فكان أداتها في التواصل مع السلطان المغربي عبد الحفيظ حتى التوقيع على “معاهدة الحماية” في 30 مارس/ آذار 1912، ثم كان قناتها الرئيسة التي تمر منها أوامرها إلى القصر الملكي، بعد تنصيب الجنرال “هوبير ليوتي” مقيما عاما في المغرب.

رفض في المجتمع الفرنسي والجزائري

تنبئنا مواقف بن غبريط بتوجهاته وقناعاته، فليس غير ذلك الرجل المتواطئ مع فرنسا باستمرار، لتبرير عدوانها على البلاد الإسلامية، الذي يستغل صفته الدينية، ليصدر فتاوى تخدم سياستها.

فقد كان مناصرا لقصف فرنسا مدينة دمشق عام 1925 قمعا الثورة السورية، وكان يصف دعاة تحرير البلدان الإسلامية من الاستعمار الفرنسي بالمغرضين، وقد قال إنه “يتشرف بمنعهم من جامع باريس”، وكان يصنف جبهة التحرير الوطني الجزائرية بأنها جماعة إرهابية.

لهذه الأسباب، ومن منطلق وطني وآخر ديني، كان بن غبريط مرفوضا لدى الجزائريين، مُتهَما بالخيانة والعمالة. وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس ممن تحدثوا عن خيانته، وعدّه “من أخطر العملاء الذين تاجروا بالدين لخدمة الاستعمار”.

بن غبريط كان متواطئا مع فرنسا، فكان يصدر فتاوى تخدم سياستها لتبرير عدوانها على البلاد الإسلامية

وفي الوعي الجزائري اليوم، يصنف بن غبريط حركيا، مع أنه عاش قبل ظهور الحركية، ويصف هذا المصطلح من كانوا يعملون مع سلطات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويرشدونها إلى ثوار جبهة التحرير، أو يرفعون السلاح مع جيوشها.

وليس غريبا أن يجد ابنه صعوبة في الاندماج مع المجتمع الفرنسي، فيختار معزله في شمال كندا المتجمد، ويجد فيه دفئا يفتقده في “بلاده”، مثلما يجد الحركيون وأبناؤهم إلى اليوم صعوبات في الاندماج في المجتمع الفرنسي.

فقد رفض الفرنسيون آباءهم، ولم يعترفوا لهم بما بذلوه من أجل فرنسا، وتخلوا عنهم بعد أن نالت الجزائر استقلالها عام 1962، وتُرك أغلبهم في الجزائر ليواجهوا مصيرهم.

وأما من هرب منهم، فوضع في مراكز إيواء، وعاش في أحياء العزل مهمشا ملاحقا بنظرة الاحتقار، وبذلك شُطبوا من المجتمع الفرنسي، لأنهم يذكرونهم بتاريخهم الاستعماري، كما يشطبون تلك المدة من كتب التاريخ. والحركيون إلى اليوم ينتظرون الاعتراف من الدولة الفرنسية، كما ينتظر بن غبريط وأتباعه تكريم الدولة الفرنسية له.

ومن دلالات الفيلم الحافة، أن ابنته عزيزة تعرض قصيدة “غرناطة”، التي كتبها شاعر رسام إسباني على ظهر لوحة أهداها لأبيها في باريس 1934، فيصف فيها غرناطة المورسكيين، ويجد في بن غبريط شيئا من المدينة، التي سقطت الأندلس بسقوطها.

ومع أن اللوحة كانت عفوية وردت في سياق مجاملة، فإنها تعكس في عمقها الحقيقة، فبن غبريط المسالم، المستسلم لانبهاره بفرنسا حينها، كان أشبه بغرناطة 1492، المستسلمة التي تخلت عن مسلميها، كما تخلى هو عن جزائريته.

مال منهوب ومسجد يعزله المسلمون

كنا ذكرنا أن الفرنسيين يرون جامع باريس “طمأنة للجاليات المسلمة في باريس، من رعايا الدولة الفرنسية وأتباعها، ممن هم في خدمة الوطن المشترك، وتكريم للجنود المسلمين”، ضمن خطاب رسمي يركز على إبراز مظاهر التعايش بين الثقافتين.

ولكن ليس ما ذكرنا سوى الوجه، أما القفا فمختلف تماما، ففرنسا لم تكن تروج صورتها دولة متسامحة دينيا، إلا لإخفاء ما ترتكب من فظاعات في البلدان الإسلامية، ثم إن هذا الجامع بني أساسا بأموال الأوقاف الإسلامية، التي صادرتها فرنسا من بلدان المغرب الكبير، ومن الضرائب المرتفعة التي فرضت على أهلها، حتى أن الجزائريين كانوا يسمونها “غرامة بن غبريط”، لأنه كان يشرف بنفسه على هذا التحايل.

بني جامع باريس الكبير بأموال الأوقاف الإسلامية التي صادرتها فرنسا من بلدان المغرب الكبير

ولم يتنزل بناؤه في سياق الاعتراف بالحقوق الدينية لرعاياهم من المسلمين، ففرنسا لا تتعهد ببناء دور العبادة، من حيث المبدأ والقانون. وعليه يقدر مؤرخون وباحثون أن الجامع لم يكن إلا واجهة دعائية للإمبراطورية الفرنسية، التي يمتد نفوذها إلى البلدان الإسلامية، ورسالة إلى العالم بكونها تمثل قوة عالمية “لا تغيب عنها الشمس”، تتحكم في مصير شعوب مسلمة كثيرة في الشرق الأوسط وعامة القارة الأفريقية، مما يمنحها تنوعا ثقافيا ودينيا.

وعليه لم يكن هذا المشروع الضخم يختلف كثيرا عن المستشفى الإسلامي الذي أنشئ عام 1918، فظاهره العناية بصحة رعايا فرنسا المسلمين، أما ما خفي فيتمثل في الانتهاكات التي تصيب العمال المسلمين، ممن كانت فرنسا تستخدمهم لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية من بنيانها واقتصادها.

تؤكد الوقائع هذا التأويل، فقد كان موقف الجمعيات الإسلامية من الجامع سلبيا، فلم يكن المسلمون المغاربيون يصلون فيه، أما الحركة الوطنية الجزائرية فقد انتقدت بناءه، ورأته “جامع مزاد علني” يخدم المصالح السياسية الفرنسية.

هلال في وجه النازية

لا مراء في أن جامع باريس كان هلالا رُفع في وجه النازية، وأنه أنقذ أرواحا كثيرة من اليهود، أو من شمال أفريقيا، المرغمين على التضحية بأنفسهم في خوض حرب ليست حربهم، أو في بناء اقتصاد لا يعود بالنفع عليهم.

الفريق أثناء التصوير

ولكن الفيلم يناقَش من مستويات عدة، حتى لا نقرأ التاريخ القراءة المحرفة، ذلك أن بن غبريط وجماعته قد آمنوا بانتمائهم إلى فرنسا، في سياق تاريخي محبط، يئس فيه كثيرون من القدرة على التحرر وعلى بناء الدولة الوطنية.

وما قدموه من خدمات، سواء الجليل منها كمساعدة ضحايا العدوان النازي، أو الرذيل كتبرير الاستعمار الفرنسي للبلدان العربية وإدانة المقاومة، إنما قُدم من منطلق إيمانهم بانتمائهم إلى الهوية الفرنسية، لا من منطلق إيمانهم بانتمائهم إلى الهلال، ومن منطلق وفائهم لهذه الهوية رفضوا التعاون مع النازيين.


إعلان