الرافعي.. مقاتلٌ في ثلاث جبهات

 

خاص-الوثائقية

ضَنّتْ وما أنا لو تشاءُ ضنينُ
والبخلُ إلا في الحسانِ يشينُ

أهواكِ مانعةً وكلُّ مليحةٍ
ليستْ ممنّعةَ الوصالِ تهونُ

حسبُ المتيّمِ منكِ وحيَ فؤاده
إنَّ القلوبَ على القلوبِ عيونُ

يشكو الهجر والحرمان، وفي الوقت ذاته يرضى بقدَره ويزيده التمنّع حبا وولها، ليكتفي بوحي الفؤاد وقدرته على تخيل الوصل بالمحبوب.

وهذا المتيّم الهائم هو نفسه الذي يكتب “إنَّ الباطِلَ لا يَجِدُ أبَدًا قُوَّتَهُ في طبيعتِه؛ بل تأتيهِ القُوَّةُ من جهةٍ أُخْرَى، فتُمسِكه أن يزولَ، فإذا هي تَراخَتْ؛ وَقَعَ، وإذا زالَتْ عنه؛ اضْمَحَلَّ. أمَّا الحَقُّ؛ فثابِتٌ بطبيعتِه، قويٌّ بنفسِهِ”.

ومن هنا نفهم أن مصطفى صادق الرافعي لم يكن واحدا، إنما كان فارسا يخوض معارك في عدة جبهات. ينتصر في واحدة ويصمد في ثانية ويتلقى ضربة موجعة في ثالثة، لكنه لا يستسلم.

ولد مصطفى صادق الرافعي عام 1880 في محافظة القليوبية المصرية لأسرة من أصول سورية تنتسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان والده فقيها وقاضيا كبيرا.

وفي مرحلة مبكرة من عمره حفظ القرآن الكريم، وما إن بلغ الخامسة عشرة من عمره حتى شاع نبوغه في الوسط الثقافي، فقد اقتحم الكتابة المسرحية، ثم ما لبث أن فاجأ الشعراء بقدرته على مزاحمتهم.

وقبل أن يستفيق الشعراء من هذه الصدمة، جرّد الرافعي سيفه لمجالدة الكتاب والمؤرخين والمفكرين والصحفيين، فقدم نفسه نصيرا للمحافظة، ومدافعا عن الإسلام أمام وكلاء التغريب والاستشراق.

هذه المعارك ترويها الجزيرة الوثائقية في فيلم بعنوان “الرافعي.. وحي القلم”، بثته مطلع مايو/أيار 2019، وتضمّن رؤى وتحليلات وشهادات للعديد من النقاد والأدباء من مصر ودول عربية أخرى.

 

علو النفس

وفي حديثه بالوثائقي، يلاحظ الشاعر الأردني أيمن العتوم أن الإرث العائلي لعب دورا مهما في تشكيل شخصية الرافعي، وأن الشعور بعلوّ النفس كان حاضرا في مساره الأدبي.

وتروي الشاعرة والمترجمة حنين عمر أن الرافعي أصيب بمرض التيفوئيد في طفولته وفقد سمعه واضطر لترك المدرسة.

بيد أن فقد السمع لم يخصم من نبوغ الطفل، إذ يلاحظ الناقد الأدبي أحمد كريم بلال أن هذا الوضع إنما دفعه للانعزال والاعتكاف على القراءة، لتضيف أستاذة الأدب هدى عطية “كان يقرأ في القطار وفي المكتبة”.

حفظ الرافعي في طفولته القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث وقرأ الأدب والترجمات ونضج عقله في الخامسة عشرة من عمره وأصبح ساحة ثقافية.

ويعلق الباحث والناقد وليد كسّاب على النبوغ الاستثنائي للرافعي بالقول إنه كتب مسرحية “حسام الدين الأندلسي” وهو في السادسة عشرة من عمره.

وفي عامه التاسع عشر أصدر ديوانا شعريا، فكان إشارة لمقْدَم كاتب وشاعر مهم في الساحة العربية. وقد عكس الجزء الثاني من الديوان أن الرجل قادر على أن يعيد للغة العربية أمجادها الضائعة.

وفي عام 1905 أربك الرافعي الساحة الثقافية في مصر والمنطقة العربية، إذ كتب مقالا عن ترتيب الشعراء المعاصرين وسرّبه للصحافة دون أن يوقعه باسمه.

وفي الطبقة الأولى وضع عبد المحسن الكاظمي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم، ثم ألحقهم باسمه، بينما حل في الطبقة الثانية أحمد شوقي وخليل مطران وآخرون من فحول الشعراء في تلك الأيام.

وقد نشرت مجلة الثريا المقال وكتبت أنه وصلها عبر البريد من جهة مجهولة وتعهدت بنشر أي رد عليه.

لم يفت على الشعراء أن الرافعي هو من كتب المقال، فتتالت الكتابات المستهجنة والموبّخة للشاب الطامح لوضع اسمه بين أدباء الصف الأول.

وبينما رد حافظ إبراهيم بأنه يرجو من “الشخص المجهول” وضع اسمه في الطبقة الثانية حتى يبقى بين أصدقائه، وبّخ المنفلوطي الرافعي واتهمه بالسعي لوضع اسمه بجانب الشعراء الكبار، وأنى له ذلك.

ومهما يكن فإن الرافعي نجح في شد الأنظار إليه عبر الاعتداد بالنفس والغرور. وبهذه القضية المختلقة وضع نفسه في الصف الأول، فبحث عنه الناس وتحدثوا عنه.

الرافعي ظهر اسمه في الوسط الثقافي المصري مع احتدام السجال الفكري بين المحافظين والحداثيين

 

سجال فكري

تزامن ظهور اسم الرافعي في الوسط الثقافي المصري مع احتدام السجال الفكري بين المحافظين والحداثيين.

وانسجاما مع إرثه العلمي والعائلي، انحاز الرافعي للتيار المحافظ فكان من أنصار المدرسة الكلاسيكية في الأدب، فهاجم طه حسين واتهمه بتسفيه الأديان وتكذيب التاريخ.

وعندما شكك طه حسين في الشعر الجاهلي، رأى الرافعي وآخرون أنه كان يسيء للقرآن نظرا لكونه يتضمن آيات تؤكد تفوقه في الفصاحة والبلاغة على الشعراء.

وفي كتاب بعنوان “تحت راية القرآن”، كتب الرافعي مقالات عديدة تهاجم طه حسين وتنعته بالسفه وعمى البصيرة واقتفاء أثر المستشرقين دون هدى ولا تمحيص.

ويقول أستاذ النقد والدراما أسامة أبو طالب إن تصدي الرافعي لطه حسين “لم يكن زهوا وإنما غيرة وانتصارا للإسلام”.

وعندما أصدر الرافعي كتابه “تاريخ آداب العرب” وكتبه بلغة عالية ورصينة، علق طه حسين بالقول إنه لم يفهم ما جاء في الكتاب، في إشارة إلى كلاسيكية الرافعي.

هذا التعليق استفز الرافعي وكتب رسالة مختصرة إلى طه حسين، هذا نصها:

يُسلم عليك أبو الطيب ويقول لك:

وكم من عائبٍ قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم..

ويقول أستاذ الأدب بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد الباسط بدر إن طه حسين كان يرى أن الرافعي أصغر شأنا من إصدار كتاب بهذا الحجم، وأنه هو أولى منه بذلك.

لقد كانا مختلفين في المنهج والمدرسة، وكان كلاهما نابغة ويعاني من إعاقة في ذات الوقت، فطه حسين ضرير والرافعي فاقد للسمع.

وبينما خاض الرافعي “معركة مقدسة” ضد طه حسين تحت راية القرآن، كانت خصومته مع العقاد ذات أبعاد سياسية وشخصية.

وحينما ألف الرافعي كتابه عن إعجاز القرآن قرظه الزعيم سعد زغلول بالقول “كأنه تتزيل من التنزيل وقبس من الذكر الحيكم”.

وعلى العكس هاجم العقاد الكتاب وشكك في أن يكون سعد زغلول أعجب به إلى هذا الحد، فرد الرافعي بهجوم عنيف على العقاد في كتاب بعنوان “على السّفّود” ووصفه بالشاعر المراحيضي.

وقد تعززت خصومة الجانبين عندما اختير الرافعي لشغل منصب شاعر الملك، إذ تأكد ابتعاده عن العقاد ورفاقه من شعراء حزب الوفد المنشغلين بالحداثة والحرية والثورة.

وبينما كان العقاد سياسيا حقيقيا، كان الرافعي يرى أن السياسة تجني على الأدب، ومع ذلك لم ينفصل عن الشأن العام والشعور الوطني.

الأديبة اللبنانية مي زيادة التي ألهمت وألهبت قلوب معظم أدباء وشعراء مصر في ذلك الوقت

 

الآنسة الجميلة

وليس الخلاف الأدبي وحده أساس الخصومة بين الأديبين، إنما التنازع على قلب آنسة جميلة ذات قلم رقيق تجيد الحديث بالضاد وترطن بتسع لغات أجنبية.

هذه الآنسة هي اللبنانية مي زيادة التي ألهمت وألهبت وأوهمت معظم أدباء وشعراء مصر في ذلك الوقت دون أن تفتح قلبها لأي منهم.

في كل يوم ثلاثاء تنظم مي زيادة صالونا أدبيا وتحضره بزينتها وعطرها وغنجها ولغتها الشاعرية، فولدت قصص من الحب والوهم في هذا المجلس.

كانت مي تعلم أنها ساحة معركة بين الكبار، لكنها اختارت أن تمثل دور محبوبة الحمداني فتظاهرت بأنها لا تميز بين عشاقها لكثرتهم:

تسائلني: منْ أنتَ؟ وهي عليمةٌ
وَهَلْ بِفَتىً مِثْلي عَلى حَالِهِ نُكرُ؟

فقلتُ كما شاءتْ وشاءَ لها الهوى:
قَتِيلُكِ! قالَتْ: أيّهُمْ؟ فهُمُ كُثرُ

يروي الأدباء أن الرافعي كان يتحسر لأن إعاقة السمع تمنعه من الاستماع لأحاديث مي زيادة، ولكنه ملأ فراغ الصوت بالنظر والتركيز في ملامحها.

هذه الملامح ألهمته في الكثير من أعماله ونثر في طريقها “أوراق الورد” وسكب عليها عطر اللغة في “حديث القمر”، فكانت مشاعره توليفة من الحزن والحب والتصوف.

فاسأل محيّاك كم أخجلتَ من قمرٍ
وسل قوامك ذا المياسِ كم غصنا

وكم يبيعكَ أهلُ العشقِ أفئدةً
وأنت لا عوضاً تُعطي ولا ثمنا|

فيمَ اقتصاصك في قلبي تعذبني
وما جنيتُ ولا قلبي عليك جنى

وفي الجوانحِ شيءٌ لستُ أعرفهُ
لكنّ أهل الهوى يدعونهُ شجنا

يبيتُ ينبضُ قلبي من تقلّبهِ
حتى إذا ذكروا من هاجهُ سكنا

بوستر فيلم “الرافعي.. وحي القلم” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية

 

كيد التهميش

ولم تكن الخيبة العاطفية وحدها التي أثرت في الرافعي، إنما شَعر بتجاهل الدولة لمكانته الأدبية والعلمية، وقد ساءه كثيرا عدم إدراج اسمه في تشكيلة مجمع اللغة العربية رغم أنه أول من طالب بتأسيسه.

ويلاحظ رئيس المجمع الحالي حسن الشافعي أن الرافعي لم يحظ بالتقدير المناسب لمكانته الأدبية واللغوية فلم يتبوأ منصبا مهما في مصر، وأحس بالتهميش من الثلاثي المهيمن على الصحافة يومها طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل.

أما العتوم فيقول “كانت هناك إرادة لتهميش الرافعي”، بينما يعلق بدر بالقول “ظُلم الرافعي وغيره من أصحاب التوجه الإسلامي”.

وعندما بدأ الكتابة في مجلة الرسالة، لم يعد متمحورا حول ذاته وخفّت لهجته الهجومية “وبارز أقرانه في المقال الأدبي، فجاء كتاب وحي القلم مائدة سخية وثرية”.

وفي صبحية العاشر من مايو/أيار عام 1937 استيقظ صادق الرافعي لصلاة الفجر وأحس بحرقة فتناول الدواء وعندما نهض سقط وعلى الفور أسلم الروح لباريها، لتودع مصر قامة سامقة في الأدب سبق أن وصفه الشيخ محمد عبده بـ”الولي الكامل”، وأثنى العقاد وشكيب أرسلان على علو كعبه ونبوغه في الشعر وفي النثر.