داليدا المصرية الإيطالية.. ثنائية العشق والموت

تجلس النجمة الستينية هادئة أمام الصحفي وتتطلع إليه بعينين تحملان بقايا حيوية آخذة في الرحيل، ويلتقط الصحفي بداية الحوار قائلا: تزوجت 14 مرة.. من هو الزوج الذي اعتبرته حب حياتك؟

تبتسم النجمة بمزيج من الحكمة والحسرة وينطلق من عينيها دلال الطفلة ومكر الأنثى معا لتقول: لا تصدق أن نجمة قد تحب أي رجل مهما كانت روعته ووسامته وغناه ورجولته.. النجم لا يقع في حب غيره.. حبي لنفسي أمام الكاميرا وُلد وكبر حتى ملأ حياتي، وكل الرجال الذين مروا في حياتي كنت أحب حبهم لي وأستمتع بمراقبة ترجمتهم لهذا الحب في صورة محاولات دائمة لإرضائي وإسعادي!

هكذا لخصت النجمة ذلك المرض المريع الذي يُدعي الشهرة والنجومية، وآثاره على النجم أو النجمة والنتيجة الحتمية لتمكن ذلك المرض من امرأة ضعيفة في حقيقتها تعيش الغربة عن العالم كله داخلها، وتكتشف بعد زوال النجومية وأسبابها فراغا هائلا يدفعها للقفز نحو ظلام الاكتئاب والانتحار.

وفي الثالث من مايو/أيار 1987 كتب القدر نهاية واحدة من أشهر قصص النجاح وعشق الأضواء في قلب باريس عاصمة النور، حيث رقدت امرأة على سريرها الفخم للمرة الأخيرة في حالة هدوء تام وبجوارها رسالة تحمل توقيعها وسطرا واحدا فقط هو “سامحوني، فالحياة لم تعد تُحتمل”.

كان هذا المشهد للنجمة داليدا التي غنّت بنحو تسع لغات ووزعت أكثر من 130 مليون نسخة من ألبوماتها وملأت شهرتها الآفاق وانتحر ثلاثة رجال عشقا لها.

بين جنوب المتوسط وشماله

ولدت داليدا التي تحولت إلى رمز باريسي مبهر؛ في جنوب المتوسط بالقاهرة، ولمعت في شماله بباريس، واختلطت في وجدانها جيناتها الإيطالية الحيوية والعاطفية بالبيئة المصرية التي نشأت فيها لأبوين إيطاليين، فحوّلت برد باريس إلى دفء ألقى بأطرافه على أوروبا كلها وامتد حتى الولايات المتحدة الأمريكية.

ولدت داليدا باسم “يولاندا كريستينا جيجليوتي” في 17 يناير/كانون الثاني عام 1933 في حي شبرا بالقاهرة في منزل يبتعد كثيرا عن كنيسة سانت تيريزا “الكاثولكية”، أو عن المدرسة الإيطالية الشهيرة الواقعة على شارع شبرا، هذه المدرسة التي تحولت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة فيكتوريا، ثم تحولت بعد ذلك إلى أول مقر لكلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم أصبحت مقرًا لكلية الهندسة.

لم تكد “يولاندا” تنهي مرحلة الطفولة الهادئة حتى بدأت الخلافات بينها وبين والدها الذي كان يمنعها من الخروج مع أصدقائها وصديقاتها، وكان الرجل قد تعرض للحبس ظلما إذ كانت مصر تحت الحماية الإنجليزية بينما تخوض إنجلترا الحرب العالمية الثانية ضد إيطاليا.

الرسام جان سوبيسكي أحد الأشخاص الذين تزوجتهم داليدا

ملكة جمال مصر تنشد الشهرة

عملت يولاندا سكرتيرة في شركة أدوية، لكن حلم النجومية لم يفارقها أبدا وبدأت أولى خطواتها نحو الفرصة الكبرى في مسابقة ملكة جمال مصر التي كانت تقام كل سنة، ولكنها أخفت الأمر عن والدتها، وحدثت المفاجأة حين فازت بلقب ملكة جمال مصر عام 1954، فصعقت لسماع رأي اللجنة، وفتح لها أول أبواب الشهرة.

كانت جائزة الفوز عبارة عن زوج من الأحذية الذهبية. أسرعت إلى البيت من فرحتها وأخبرت والدتها بما جرى، فغضبت الأم لرؤية صورة ابنتها بثوب السباحة على الصفحة الأولى للصحف، إذ كان الأمر فضيحة لعائلة محافظة بالعقليتين الإيطالية والمصرية على السواء، لكنها بمرور الوقت نسيت الأمر.

وبدأت داليدا العمل في السينما المصرية، فشاركت في فيلم “سيجارة وكأس” الذي قامت بتمثيله في عام 1954. ورحلت بعد ذلك إلى فرنسا، لتنطلق بنت شبرا “المصرية الإيطالية” إلى سماء العالمية وتصبح داليدا النجمة الشهيرة، ثم تعود بعد ذلك إلى القاهرة لتقوم ببطولة فيلم “اليوم السادس” عام 1986مع المخرج المصري الشهير يوسف شاهين، وتقوم داليدا بزيارة منزلها القديم في شبرا، وتغني “حلوة يا بلدي” أغنية تحتفي بطفولتها وشبابها في شبرا وفي مصر بشكل عام.

لقطة من فيلم “سيجارة وكأس” الذي مثّلت فيه داليدا، وشكّل بداية عملها في السينما المصرية

بداية الطريق إلى النجومية

ذات يوم قدم فريق أمريكي لتصوير فيلم بمصر يحمل عنوان “قصة يوسف وإخوانه” (The Story of Joseph and His Brethren) كان من بطولة الممثلة الأمريكية جوان كولينز، وجوان كانت في حاجة إلى ممثلة تقف معها في بعض المشاهد تكون بمثابة ممثلة بديلة (دوبلير) لها، وصادف أن داليدا كانت متواجدة في الأستوديو فاختارتها جوان لما تتمتع به من جسم وشعر كثيف قريب منها، إضافة إلى أن ملابسهما من القياس والحجم نفسه.

وفي “الأقصر” كان يجري تصوير الفيلم، فوجدت داليدا نفسها أمام ممثل صغير كان يبحث الشهرة مثلها هو عمر الشريف. في هذه الفترة تعلق بها عمر لكنها سرعان ما بدأت تعامله ببرود، استغرب لتصرفها لاسيما وأنه كان يتصور أنه على علاقة حب معها.

بعد مرور عدة أيام قررت داليدا السفر إلى فرنسا بحثا عن الشهرة رغم اعتراض والدتها. وفعلًا في 24 يناير/كانون الثاني سنة 1954 سافرت إلى باريس للمرة الأولى، وهناك داهمها شعور بالقلق والوحدة، فقد كانت المدينة مغطاة بالثلج وكانت الرياح تعصف بها فاشتاقت إلى الشمس الدافئة في مصر، لكنها كانت تعلم أن سفرها وتغربها هو ضريبة الرغبة في الشهرة.

أقامت في فندق بسيط في منطقة قريبة من شانزليزيه، وفي صباح اليوم التالي كان لديها موعد مع “هنري فيدال” الرجل الذي وعدها بالمساعدة، ولكن اتضح أن علاقات هذا الرجل كانت بمنتجين يعملون في مجال إنتاج الأفلام الضعيفة جدا، فتيقنت أنه لن يستطيع مساعدتها فقررت أن تعتمد على نفسها، فقامت بتقديم طلبات إلى وكالات مختلفة تبحث عن مواهب في مجال التمثيل، لكن المتقدمين كانوا أكثر مما تصورت.

أخذت تبعث برسائل لوالدتها في مصر تشرح لها كل ما يجري، فتمنت الأم أن تعود ابنتها إلى مصر ثانية، لكن داليدا لم تعترف بالهزيمة مطلقًا، وفي النهاية لم يكن لديها خيار سوى العودة وذلك بعد نفاد المال، فحزمت حقائبها وتوجهت إلى مكتب الحجز لتحصل على تذكرة عودة إلى القاهرة.

 

من التمثيل إلى الغناء

استطاع مدرب الصوت رولاند برغر إقناع داليدا بالغناء والابتعاد عن التمثيل، وأعطاها دروساً في الغناء وبدأت الغناء في الملاهي الليلية، ثم فُتحت لها أبواب الشهرة وغنت أكثر من ألف أغنية سجلتها بتسع لغات هي الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والعربية والعبرية واليابانية والهولندية والتركية و4 أفلام سينمائية.

وفي بعض الأحيان كانت تسجل الأغنية نفسها بلغتين مختلفتين، كما فعلت عام 1977 عندما قدمت الأغنية المصرية “سالمة يا سلامة” باللغتين الفرنسية والعربية.

ورغم شهرتها وثروتها فإن حياتها الخاصة كانت أشبه بمسرحية مأساوية منذ بداية زواجها حتى نهايتها، وقد تزوجت من أول رجل أحبته بصدق وهو لوسيان موريس، لكنهما انفصلا عن بعضهما بعد زواج استمر عدة أشهر فقط.

وعثرت داليدا على حبها الحقيقي مرة أخرى بعد أن اعتقدت أن حبها هو فيمن تزوجته، وكان الرجل الذي تركت داليدا زوجها من أجله، وهو الرسام جان سوبيسكي، وبعد سنوات قليلة من طلاقها، قام زوجها الأول لوسيان بإطلاق النار على نفسه بعد فشله بزواجه الثاني ومحاولاته أيضًا الرجوع إلى داليدا.

وفي سنة 1967 التقت بشاب إيطالي اسمه لويجي تينكو وكان مغنياً لا يزال في بداية طريقه، فقامت بدعمه ليصبح نجماً، لكن الفشل طرق بابه بعد مشاركته بمهرجان سان ريمو سنة 1967 فانتحر. وعندما تمكنت من نسيان الماضي أحبت رجلاً بفترة السبعينيات ولكنه توفّي منتحرا أيضا.

تجربة وفواصل

ثمة تشابه بين تجربتين لطائرين مصريين تركا بلادهما لكن السينما أعادتهما، فكما عاد عمر الشريف ليقدم بعض التجارب مثل فيلم “الأراجوز” وفي نهاية حياته قدم “حسن ومرقص” حتى رحل عن عالمنا، أعاد الحنين داليدا إلى السينما المصرية بعد غياب لما يفوق الثلاثين عاما مع المخرج يوسف شاهين، وقدمت النجمة ذات الأصل المصري الإيطالي أربعة أفلام في مصر لعبت في بعضها أدوار كومبارس صامت حتى وصلت لدور البطولة في فيلم “اليوم السادس” مع شاهين بعدما لمعت في عالم الغناء.

وفي عام 1954 بدأت مسيرتها في السينما المصرية بأدوار صغيرة صامتة في فيلم “ارحم دموعي” من إخراج هنري بركات وبطولة فاتن حمامة ويحيى شاهين. وفي العام نفسه قدمت مع المخرج حسن الصيفي فيلم “الظلم حرام” من بطولة شادية وعماد حمدي وإسماعيل ياسين وماجدة، وكانت بالفيلم كومبارس صامت.

واختارها المخرج نيازي مصطفى لتقوم بدور الممرضة يولندا في فيلم “سيجارة وكاس” من بطولة فاتن حمامة وسراج منير، وتقرر بعدها داليدا الهجرة إلى فرنسا لتحترف الغناء وتحقق شهرة كبيرة.

صدّيقة في “اليوم السادس”

وبعد مرور 31 عاما تعود داليدا إلى السينما المصرية مرة أخرى مع المخرج العالمي يوسف شاهين بفيلم “اليوم السادس”، وجسدت به دور البطولة لشخصية “صدّيقة” وكان الدور بمثابة تحد كبير لداليدا، ونجحت فيه وأثبتت موهبتها التمثيلية الكبيرة بتجسيد شخصية الفلاحة المصرية التي تخشى على حياة حفيدها.

تدور أحداث الفيلم خلال فترة انتشار وباء الكوليرا عام 1947 ويصاب حفيد “صدّيقة” بهذا الوباء، فتحاول إنقاذه بكل السبل، خصوصا بعدما توفي جميع أفراد أسرتها.

وقبل مرور مهلة الأيام الستة حيث يكون المصير الوحيد وقتئذ هو الموت، تذهب “صدّيقة” مع حفيدها إلى مدينة رشيد على أمل علاجه، ويتعاون معها في تلك الرحلة شخصية “عوكة القرداتي” الذي قام بتأديتها محسن محيي الدين، لأنه كان قد وقع في حب “صدّيقة” برغم فارق السن بينهما.

شارك داليدا في الفيلم كل من محسن محيي الدين وعبلة كامل وصلاح السعدني وحمدي أحمد وشويكار وسناء يونس وماهر عصام، وعرض الفيلم في سبتمبر/أيلول 1986، ويعتبر هذا آخر فيلم قدمته داليدا قبل وفاتها.