“رافائيل كونفيان”.. قلم كاريبي يضج بآلام الإنسان وثوراته

حميد بن عمرة

إن التنقل من السيرة الذاتية الى البورتريه يسمح بالغوص في أعماق روايات أديب كبير والتوغل في أعماله الشخصية دون رسميات هذا التمرين، فما هي الحدود بين بلاغة الرواية في تشعب حروفها ونقل مضمونها الى الشاشة في شكل سيناريو قابل للتنفيذ؟ وكيف يتعامل الأديب مع التاريخ ويوظف أحداثه في تسلسل درامي وكيف يُمسرح شخصيات حقيقية تستقطب السينما وتغازلها؟

“رافائيل كونفيان” (Raphaël Confiant) لا يستحق فقط التمعن في كتبه بالمجهر، بل لا بد من ترجمتها للعربية عاجلا لما تحمله من أسئلة ورؤية تطرح تاريخا نحن بحاجة إليه لفهم واقعنا الشخصي، كما أن رواياته ملهمة لسيناريوهات سينمائية لكون أسلوبه مرئيا بشكل مذهل.

إن خصوبته الأدبية وزخم إنتاجه الروائي يدفعنا أكثر إلى استجواب كتبه وتفكيك أهمها والتوقف أمام فقرات تفسر البعد الثوري والفلسفي لتفكيره. وإن اللغة الدقيقة التي يستعملها هذا المتفرد بحروفه النادرة توحي إلى فكر يقظ متأهب باستمرار.

إن الكتابة عن 60 رواية يدخل حتما في فضول متناهٍ ومتشعب المعارف، ويجبر على اختيار الأكثر أهمية للقارئ العربي كمن يستجوب ستين شخصية في مقال واحد. فإن التعامل مع تاريخ الاخرين يفسر ما نعيشه بربط خيوطه بما تحمله صفحات تاريخنا العربي.

“رافائيل كونفيان” من أكبر كتاب الأدب الكاريبي والفرنكفوني، له 60 رواية

 

حروف مضمخة بأوجاع الكوكب.. ديناصور الأدب الكاريبي

“رافائيل كونفيان” من مواليد 1951، ويعد من أكبر ديناصورات الأدب الكاريبي والفرنكفوني حاليا، وقد درس الإنجليزية في الجزائر في السبعينيات، ومنذ عام 2013 صار عميد كلية الأدب والعلوم الإنسانية بجامعة المارتينيك حاليا، ومحاضراته ومساهماته النقدية كثيرة، حتى أنني لا أعرف متى ينام هذا الرجل، فاللغة تُعد محور تفكيره وفلسفته لأنها أساس بنية الهوية عنده لارتباطها بالأرض، أي بوجود الانسان حسب قوله.

في مقالات عديدة يلفت الانتباه بمنطق صريح لا يستعمل فيه العتاب بل يضعك في قلب الحدث حتى وإن تهربت منه أو أنكرت الموضوع المطروح فيه.. إنه يمارس كتابة تدفعك للتفكير.

في مقالاته السياسية يعود دوما إلى قضية الجدار المانع بين الفلسطينيين والعالم، ولأنه حسب معتقده من يعتبر الحدود هوسا هو من يخلق الحروب دوما.

بهذه الاستفهامات المتواصلة يتقدم “رافائيل كونفيان” لبناء قلعة ثورية محصنة بمفاهيم سليمة.

وبين حروف “رافائيل كونفيان ” يلتصق مذاق السكر بمرارة الماضي ويتجول رحيق القهوة بين أسلاك الخنادق الشائكة، فكل فقرة تناطح توهج بركان مدينته وتستمع إلى باعة شوارع الجزيرة من كل درب.

الفواصل والنقاط عنده لا تفصل ولا تنهي، لأن كل كتبه تتدفق في مصب واحد، فهل قصب السكر المرتبط بمرارة العبودية بجزيرة “المارتينيك” (La Martinique) مصدر اقتصادي الآن؟ وكيف يتعامل الكاتب مع الصورة النمطية لهذا المنتوج؟

ان كل ملعقة سكر في أي فنجان قهوة أو شاي في العالم مرتبطة بأجساد العبيد الذي تركوا في الحقول عرقهم ودمهم وحياتهم، فهل جلب قصب السكر الطيور الجارحة مثلما جلب البترول الاستعمار البريطاني والفرنسي والأمريكي إلى البلدان العربية؟

يوظف قصب السكر في صناعة مشروب “الروم” (Le rhum) الكحولي المصدر عالميا

 

قصب السكر.. حلاوة لا تغطي مرارة الاسترقاق

إن أوراق القصب الفضية اللون تخفي في بريقها تعاسة لا يعرف عنها المواطن العربي ولا الأوروبي ولا حتى الأفريقي الكثير، فقصب السكر لا يصنع منه السكر فقط بل يوظف في صناعة مشروب “الروم” (Le rhum) الكحولي المصدر عالميا، وهذه المصانع لم تكن في يد أهل البلد بل كانت وما زال بعضها يُدار من طرف البيض الملقبين بـ”البيكي” (Les Béké)، أي من سلالة تجار العبيد.

ألغيت العبودية عام 1848 فجلب أرباب المال عدد كبيرا من العمال “التامول”، مما ساهم في مزيج تناسلي يعطي للجزيرة هوية خاصة.

ان مشروب “الروم” كان وقودا في خنادق الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى 1914-1918. لقد مولت التربة المرتينيكية جزءا من الحرب العالمية الثانية بشكل مباشر دون استشارة السكان الأصليين.

إن أصل قصب السكر يعود الى تاريخ آخر يحمل في حقائبه مرارة العنصرية، فقد قرر البابا في القرن السابع عشر طرد اليهود من البرازيل لكونهم غير مسيحيين، فأتوا بقصب السكر وأيضا بتقنيات غرسه وتصنيعه حتى أصبح منتوجا أساسيا لاقتصاد فرنسا، ولم يعد السكر المصدر الاقتصادي الأول في الجزيرة، بل عوض بالموز الأسيوي.

يقول الكاتب إن هذه الرواية نسخة مرئية للاستعمار المنهار في فجر القرن العشرين، فليس القصب فيها سوى حجة لمعرفة حياة الناس في الحقول وكيف تحولت الجزيرة من “الجزر الأمريكية” إلى مستعمرة فرنسية الى أن صارت امتدادا حدوديا لفرنسا عام 1946.

إن الميزة الأساسية لكتب “رافائيل كونفيان” هي أن كل شخصياته تتمحور حول الجزيرة، أي أنه يوثق بشجاعة وجهد كل تاريخها ويقدمه في قالب سينمائي مثير.

 

“آديل والمتجولة”.. ابنة الكاتب التائهة في جزر الكاريبي

 في رواية “آديل والمتجولة” (Adèle et la pacotilleuse) يفتح “رافائيل كونفيان” موضوعا استقطب السينما سابقا عند المخرج الفرنسي “فرانسوا تريفو”.

إن “آديل” ابنة الكاتب الفرنسي “فيكتور هيغو” التي تاهت في جزر الكاريبي بحثا عن عشيق لم تجده ليست مجرد قصة لابنة مدللة لا تعرف كيف تلهي يومياتها، بل قصة تصادف في هيامها بائعة متجولة سمراء طافت كل البحار لتجد في حضنها سندا ودعما.

إن في هذه العلاقة صورة لاتحاد النساء في الخروج من مأزق الفقر والهجرة، لأن النساء أكثر سندا لبعضهن من الرجال دوما.

كان “فيكتور هيغو “في خطابات شتى عنصريا متناقضا مع قصيدته المشهورة “الحرية.

فهل علاقة المرأتين تشير الى العلاقة الفرنسية وجزر المارتينيك أي إلى الابنة المدللة ونظيرتها الهائمة في المحيط الهادئ؟

ام أن “رافائيل” يحاول بهذا نبش سلالة الشاعر الفرنسي وتذكيره بأن من أنقذ ابنته وأعادها إلى المنزل امرأة من أصل أفريقي، لم يعترف لا ببشرتهم ولا بقدراتهم الإنسانية، فهل إنسانية البائعة المتجولة أكبر من الإنسانية المزعومة التي يحظى بها الشاعر “فيكتور هيغو”؟

هل بهذه الرواية يغازل “رافائيل” السينما ويشير إلى ما تخلى عنه المخرج “فرانسوا تريفو”؟

بينما اكتفى المخرج الفرنسي بتركيز الكاميرا على شخصية فرنسية، يغازل “كونفيان” النقص أو التناسبي بإعطاء مكان أكبر لشخصية البائعة المتجولة.

رواية “شارع السوريين” (Rue de syriens)

 

“شارع السوريين”.. غوص في عوالم الجالية العربية المهاجرة

في نهاية القرن التاسع عشر هاجر الكثير من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والأردنيين إلى أمريكا الجنوبية واستقروا في جزر الكاريبي، وقد حشروا جميعهم في اسم واحد وعرفوا بالمهاجرين السوريين.

في روايته “شارع السوريين” (Rue de syriens) يعرف الكاتب بتاريخ جزيرته، كما يذكر أن جدته صينية وأنه يحمل في جيناته كل هذا المزيج من الأجناس المختلفة.

في هذا الشارع تربّت أذنه على موسيقى أم كلثوم ونمى فضوله نحو العالم العربي، لذا يرغب يوما أن تقع في جزيرته مصالحة وطنية مثل التي قام بها مانديلا بإفريقيا الجنوبية، لأن العرب بجزيرة المارتينيك عنصر ضروري في البنية الاجتماعية والاقتصادية مثلهم مثل الهنود والصينيين وعدد من سكان الجزر المجاورة وبعض الاوروبيين.

في رواية “شارع السوريين” نجد أيضا المرأة “فانوت” التي تنقذ مهاجرا سوريا حل بالجزيرة بحثا عن القوت، إنها قصة “وادي” الذي سافر عام 1920 بحثا عن الحلم الأمريكي، فقد كانت سوريا تحت الاستعمار الفرنسي عندما سافر بطل الرواية من دمشق إلى القارة الأمريكية.  فكيف يتحول هذا المهاجر العربي إلى مواطن مارتينيكي لا يرغب في العودة إلى سوريا ليصبح عنصرا مكونا لهوية الجزيرة؟

رواية “حجرة الصين” (Case Chine)

 

“حجرة الصين”.. كهف آخر من كهوف المارتينيك

تدفقت الجالية الصينية أيضا نحو الجزيرة التي كانت تشبه الكنز في خرائط القراصنة، فيخصص لها الكاتب رواية بعنوان “حجرة الصين” (Case Chine) التي كانت تدعى باللغة المحلية (Kay Chine).

وتختلف الرواية عن سابقاتها لأن أحد أبطالها طبيب صيني يرفض امتيازات منصبه للعمل كمترجم على ظهر باخرة، فيستعمل الكاتب شخصية بائعة خردوات تدعى “دمية الفخار” (Poupée -Porcelaine) للتجول بين الجالية الصينية هناك.

كما يستعمل في كتابته مبدأ القصّاص، فالسرد ليس مستقيم الخط، بل دائري ينتقل من شخص إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، فتعتقد أنك فقدت الخيط الرابط بين الشخصيات لكنك سرعان ما تربط بينهم عندما تعود إلى وسط الحلقة.

إن هذه الرحلات المستمرة والغير متوقعة تترجم بصدق حبه للمكان وعشقه لأزمنة خلت، إنها كتابة سينمائية في قالب أدبي.

“الأجنبي”.. ترجمة صراع المسدس والسكين إلى لغة الكريول

ترجم “رافائيل كونفيان” من الفرنسية إلى لغة “الكريول” كتاب “الأجنبي” (L’étranger) للأديب الفرنسي “ألبير كامو” الذي لم يأخذ موقفا صارخا تجاه القضية الجزائرية. وكل الشخصيات الذكورية الجزائرية في كتب “ألبير كامو” تدعى أحمد، والأنثوية كلها تسمى فاطمة.

إن الجريمة التي يسردها صاحب جائزة نوبل هي قبل كل شيء علاقة بين المسدس في يد الفرنسي “مورسو” وبين السكين في يد العربي، فالعربي دوما مرتبط بالسكين وبالذبح، ولا يمكن للعربي أن يستعمل الرصاص لأن المسدس حضاري أكثر من السكين، وهي صورة نمطية عنصرية تتكرر كثيرا بالسينما الغربية وبالأدب أيضا.

كثيرون من يحتكون بهذا الأديب الفرنسي من كتّاب الفرنكوفونية كأنه نبي يستشهد به أو ميناء فاصل بين قارتين لا مناص من المرور عليه، وقد مرت السينما بكتاب “الأجنبي “عندما صوّر المخرج الإيطالي “لوشيانو فيسكونتي” عام 1967 في الجزائر فيلما بنفس العنوان، ويعتبر اقتباسا وفيّا للنص.

صور الفيلم رغم رفض أرملة الكاتب الذي لم يكن يرغب -حسب قولها- في تحويل كتبه إلى أفلام، وهذه مفارقة هامة بين كاتب لا ينفر من السينما وآخر يغازلها بشكل سري ودائم.

كتابة التاريخ الحافية.. بيضاوية التفكير وسوداوية الواقع

إن التاريخ عند “رافائيل كونفيان” لا يتباهى بحلى فلكلورية، وإنما يعرض حافيا ببصماته الأصلية، لأن الصراع ليس دوما حول بيضاوية التفكير وسوداوية الثورة، لكن بين التاريخ الرسمي والتاريخ الحقيقي.

إن قوة السرد عند “ألبير كامو” وعند “رافائيل كونفيان” تستقطب السينما، لأنهما لا يكتفيان بخطوط العرض والطول، بل يجمعان كلاهما كمّا هائلا من مجهريات المعلومات التي تقتضي عملا طويلا.

فـ”كونفيان” لا يكتب كمعلق كرة القدم مستعملا “مبتدأ وخبرا” أو يقدم علكة مضغت وفقدت طعم سكرها. إن قراء “كامو” ومتابعي “كونفيان” كلاهما يعشقان تقاطع المعلومات وتداخلها ولا يكتفيان بغلاف الكتاب، فالرواية عند “رفائيل” جبهة ثورية تمثل كتبه فيها فيلقا ملونا ببشرة الجزيرة.

رواية “الفيلق الكريولي” (Le Bataillon Créole)

 

“الفيلق الكريولي”.. سلسلة الجرائم التي أسقطت الإمبراطورية الفرنسية

ففي رواية “الفيلق الكريولي” (Le Bataillon Créole) يتوغل “رفائيل” بشكل مباشر بين الخنادق وصفارات الإنذار وجحيم الرصاص في حرب أُرغم خيرة شباب المارتنيك على دفع ثمن باهظ فيها لسلامة المواطن الفرنسي.

كما يتطرق الكاتب إلى قانون 1905 الفرنسي الذي يُرغم كل المستعمرات الإمبراطورية الفرنسية للتجنيد، وهو الواجب الذي أغضب أهل الجزر لانعدام حقوق تعوض الخسائر في الأرواح.

عانى أبناء الجزيرة الرطبة من البرد اللاسع، فكانوا يرسَلون الى مستعمرات المغرب العربي عندما لا يتحملون حدة فصل الشتاء في الجبهة، كما استعمل كل مريض أو جريح منهم في المصانع كيد عاملة رخيصة وغير نقابية ولا تطالب بأي حقوق.

ويبرر الكاتب عمله حول الذاكرة الحربية للمجندين من جزيرته لكون صورة الأيقونة “فرانز فانون” طغت على الذاكرة الجماعية، لأنه ساند الثورة الجزائرية وأصبح ملهم حركة الأفروأمريكيين الملقبين بـ”النمور السود” (Black Panthers) في كفاحهم ضد العنصرية الأمريكية.

عكس بطل رواية “الشارع السوري” (Rue des Syriens) إبحار كل هذه الأجساد نحو أوروبا مسبلة للخطوط الأمامية كدرع يحمي الجنود الفرنسيين الأصل، لذا سمي هؤلاء بـ”أجساد المدافع” (La chair à canon)، فكانوا فريسة سهلة للأمراض والأوبئة التي اخترقت مناعتهم الطبيعية، فهلك أغلبيتهم على أسِرَّة المستشفيات.

لقد كانت هذه الحرب بداية نهاية الإمبراطورية الفرنسية.

غابريال دي كليو” يغرس أول شجرة قهوة في المارتينيك

 

“غابريال دي كليو”.. سارق القهوة من حديقة الملك

لا وجود لكل الوجوه التي يرسمها “رفائيل كونفيان” بالسينما الفرنسية في كل الأفلام التي تناولت هذا الموضوع عدا حالات خاصة، دون أن تتحول الفرديات إلى تيار أو نوع سينمائي كالذي يخصص لكل الحروب الأمريكية، فقد تأخر رحيق القهوة التي تغنى به الشعر العربي وغنت له أجمل الأصوات كثيرا قبل الوصول الى القارة الأمريكية.

ففي عام 1720، أراد “غابريال دي كليو” غرس شجرة القهوة في المارتينيك، فالقهوة الأثيوبية الأصل التي عرفها العرب سريعا لقرب اليمن من الحبشة كانت مجهولة في كل القارة الأمريكية.

وقد لجا هذا المغامر الى سرقة جذور القهوة من حديقة خاصة للملك “لويس الرابع عشر” ليعبر المحيط في رحلة دامت شهرين كاد يهلك فيها الجميع.

وتعود هذه الرواية إلى قصة المعزة التي كانت تأكل من حبوب القهوة في صحراء الحبشة، إذ يحتال الكاتب كل مرة على القارئ بحيث يقدم له أرضية تبدو أحداثها عن القهوة، غير أن السرد الخفي يتمحور حول “غابريال” الذي يعتبره من مؤسسي العالم الجديد، وقد فرض أثناء الرحلة حظرا على الماء للحفاظ على سقي متواصل لشجيرات القهوة.

في هذا الأسلوب نجد أسسا للسيناريو الجيد المعتمد على عدة قصص تتقاطع في نقطة واحدة، وهو سيناريو لفيلم يستقطب كل مدمن وعاشق للقهوة، النبتة فيه هي الشخصية الأساسية.

لكن ما لم يدونه التاريخ الغربي هو العبد الذي غرس النبتة في تربة خصبة على قدم “جبل بيلي”.

وفي ذات الوقت، لا يخشى الكاتب من الإدلاء بأن مهمته هي كتابة الواقع الكاريبي مشبها نفسه بالكاتب الفرنسي “أونوريه دي بالزاك” الذي صرح بان مهمته هي كتابة الكوميديا الإنسانية.

إن الدفاع عن اللغة يكون بكتابة فهرس حافظ للكلمات، لأن المفردات تتناثر مثل أوراق الخريف وتتنقل من حقل الى آخر، فهناك مصطلحات لتصنيف كل ألوان البشرة المتعددة التي لا يلاحظها الأجنبي.

جزيرة المارتينيك التي تقع في عمق المحيط الأطلنطي

 

جزيرة المارتينيك.. بيئة خصبة لتعددية الألوان والأعراق

خرجت جزيرة المارتينيك من عمق المحيط الأطلنطي بلون رملها الأسود، وكأن الطبيعة تطارد العبيد الذين فقدوا حياتهم فيها، وتناطح الرمال فيها مرتفعات وجبال بركانية أشهرها بركان جبل “بيلي” الخامد المداعب للسحاب.

ففي يوم 8 مايو/أيار من العام 1902 انفجر بركان الجبل وتدفقت حممه على مدينة “سان بيار” فخطف في دقائق أرواح سكان المدينة بكاملها، وتعدادهم قرابة الثلاثين ألف نسمة.

لم ينج من هذا الجحيم سوى ثلاثة أشخاص أشهرهم “لويس أوغست سيباريس” الذي قبض عليه قبل الانفجار بساعات إثر شجار دامٍ فوضع بزنزانة بسجن المدينة.

أنقذ السجن حياة “لويس”، فتحول إلى شخصية استعراضية تقدم في السيرك، حتى أنه كان أول زنجي مشهور بأمريكا.

وتجعل تعددية الأديان والألوان واللغات في هذه الجزيرة منها منطقة فريدة اجتماعيا واقتصاديا حيث المسجد تقابله كنيسة ويجاورهما معبد بوذي.

من هذا التناغم البشري، نشأ عند “رافائيل كونفيان “حب الأنغام الشرقية التي تستميل أذنه فيعيد استحضارها في سرده بشكل وفيّ.

ويؤكد الكاتب على أن أهم طبخة وطنية بالجزيرة هي من أصل هندي، وتسمى “الكولومبو” (Colombo)، كما فرضت ثقافة التاميل مع الزمن تسريحة شعر تسمى “المدراس” (Le Madras).

وهناك في المجتمع المرتينيكي خطابان، حسب وصف “رافائيل كونفيان”: الخطاب الأبيض والخطاب الأسود، كناية للون البشرة، لذا يحفز على الهوية المتعددة الألوان.

أما “الكريول” فتعني وُلد في عين المكان، لكن أصلها اللاتيني (Creare) بمعنى “خلق”، أي أن الأوروبيين الذين جاءوا بالأفارقة كوّنوا جيلا ليس أوروبيا وليس أفريقيا.

في المدارس يتعلم الأطفال أن الهوية واحدة، عدا في جزر الكاريبي، فالأطفال يعرفون أنهم متعددو الأصول.

ويختلف كبير الشعراء بالمرتينيك الشاعر والأديب “ايمي سيزير” معه في هذا الطرح، لكنه يعترف بأن من الطبيعي ألا تدوم أشجار “الباوباب” (Baobab) الدهرية.

كتاب “من قمة أسيس إلى الجبل” الذي يروي مصير ثلاثة مجندين من جزر المارتينيك

 

“من قمة أسيس إلى الجبل”.. وختامه مسك الثورة الجزائرية

في كتاب “من قمة أسيس إلى الجبل” (Du Morne-des-Esses au Djebel)، يروي “رفائيل كونفيان” مصير ثلاثة مجندين من جزر المارتينيك نهجوا ثلاث طرق مختلفة عندما وجدوا أنفسهم على أرض الجزائر في حرب 1954-1962، فالأول تبنى الاستعمار ومارسه بكل عنف، والثاني التحق بالجيش الجزائري، أما الثالث فكان محايدا فهرب إلى المغرب.

يتحدث الكتاب عن الجزائر في زمن بومدين، حيث لون جواز السفر الجزائري الذي له وزنه في شبابيك الجمارك بمطارات العالم. فيذكر مقولة “أميلكار كابرال” بخصوص العاصمة الجزائرية حيث يقول: المسيحي مرتبط بالفاتيكان، والمسلم يذهب في حجه الى مكة، أما الثوار فيحجّون الى الجزائر.

فمتى يعود الجزائري في حج إلى مسقط رأس ثورته؟ ومتى تعانق قمم الجبال أحلام الحرية الموعودة التي يقسم بها النشيد الوطني؟ ومتى تفتح الشاشة بياضها الساطع على شخصيات روايات “رافائيل كونفيان”؟