زرياب.. قيثارة الحضارة ومطرب الملوك وصانع الوتر الخامس

كان ضياء يبعث في النفس عذوبة، وريشة فنان ترسم بالألحان، فهو نغم شرقي رحالة يغزل سحرا وحضارة أنى حط رحاله، كان له من لقبه حظ كبير، فهو زرياب أو الشحرور ذلك الطير الغرد صاحب الصوت الجميل العذب واللون الداكن الجميل.

في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون”، نتعرف على زرياب قيثارة الحضارة وصاحب الأنامل الذهبية.

مولى الخليفة.. نشأة في عصر ازدهار البلاط العباسي

هو أبو الحسن علي بن نافع، ولد في حاضرة الدولة الإسلامية العباسية وعاصمتها بغداد عام 161 ه الموافق 777 م، لأسرة كردية فارسية، وكان أحد موالي الخليفة العباسي المهدي، وعندما توفي الخليفة كان عمره تسع سنوات.

تولى تعليمه الموسيقي إبراهيم الموصلي الذي كان أستاذا كبيرا في الموسيقى في زمن الخليفة هارون الرشيد، فقد علّم الرقيق والأحرار والنساء والرجال.

في ذلك الوقت، كانت بغداد منارة للعلم والحضارة، وكانت تشع ازدهارا وإبداعا وفنا، وشهد البلاط العباسي تطورا كبيرا على المستوى العلمي والفني والثقافي.

يقول مدير التوثيق الموسيقي في الأندلس الدكتور “رينالدو مانزانو”: كانت بغداد في فترة مزدهرة، فهناك قصص ألف ليلة وليلة، وبيت الحكمة الذي ترجمت فيه أهم الكتب اليونانية وغيرها إلى العربية، ودخول الأرقام الهندية عن طريق الخوارزمي.

قرطبة.. مهجر التلميذ الذي فاق معلمه في عاصمة الشرق

تلقى زرياب على يد معلمه إبراهيم الموصلي أفضل تعليم، وجعله فنانا كبيرا، وأراد أن يقدمه هدية لا تنسى للخليفة هارون الرشيد الذي أعجب به كثيرا، وكما تقول الروايات، فقد سبب ذلك غيرة للمعلم الموصلي، فهدد زرياب وخيره بين القتل أو مغادرة بغداد، فما كان منه إلا أن حمل أمتعته وارتحل متجها إلى القيروان.

لكن زرياب لم يستطع المكوث في القيروان سوى ثلاثة أيام، لأنه غنى لأميرها أبياتا لعنترة، فاعتبر الأمير ذلك إساءة له، ويقال إن زرياب واجه معارضة شديدة في القيروان من قبل العلماء الذين خافوا أن تنتشر الموسيقى في المدينة.

يعزى لزرياب قصب السبق في إنشاء أول مدرسة للموسيقى في أوروبا

كانت قرطبة الوجهة التالية لزرياب، فقد بعث خطابا لأميرها الحكم بن هشام، فرحب به واستدعاه وأرسل على باب قرطبة أرفع الوزراء لاستقباله، إلا أن القدر شاء أن يتوفى الحكم بن هشام قبل وصول زرياب، وخلفه ابنه عبد الرحمن الثاني، فأعجب بزرياب كثيرا واستعذب ألحانه، فكان مقربا منه ومؤنسا له.

تربع زرياب على عرش الموسيقى في الشرق والغرب، وكان له قصب السبق في إنشاء أول مدرسة للموسيقى في أوروبا، اتبع خلالها مناهج علمية في علوم الصوتيات وعلاج عيوب النطق، لتصبح خلال وقت وجيز قبلة لعشاق الموسيقى والذوق الرفيع، وفي مقدمتهم أبناء الملوك والأمراء.

فنون الذوق.. تأسيس التقاليد الملكية وأساليب النخبة

حاز زرياب كثيرا من المعارف العلمية الراقية، وتنوعت بين المنطق والحساب والهندسة وعلم الفلك والذوق الرفيع، وشكلت جوانب شخصيته، فلم يكن موسيقيا فقط.

في بلاط الخليفة الأموي بالأندلس، كان زرياب أول من أسس لفنون الذوق “الإتيكيت”

وقد استطاع تغيير شكل التقاليد في البلاط القرطبي، واستثمر حب المنافسة والغيرة لدى أمراء قرطبة تجاه الخلافة العباسية، إذ حاولوا إقامة دولة على شاكلة ما كان سائدا في بغداد، من حيث ضمّها للمثقفين واحتواؤها على المكتبات ومحاولة إنشاء مركز دولي للموسيقى.

وكانت شخصيته محورية في هذا الشأن، فقد ساهم في تحديد الأنماط والموضوعات الموسيقية والخطوات الواجب اتباعها عند حضور السفراء، كما استحدث سلوكيات تتعلق بالمأكل والملبس، فهو الذي أسس فنون الذوق “الاتيكيت”.

“نطق العود بأنغام حية تحمل لحنا قدسيا”.. سحر الوتر الخامس

أحدث زرياب تغييرات في صناعة آلة العزف، واستخدم ريشة من جناح النسر كمضرب، إذ أخذ سبع ريشات من جناح النسر ونقعها بالزيت لمدة أشهر، حتى أصبحت لينة وبذلك لم تعد الأوتار تتقطع كالسابق.

عمل زرياب على تطوير النغمات بطريقة علمية مدروسة وكان أول من اخترع ما يعرف بالنوبة الأندلسية

كما أنه أضاف الوتر الخامس للعود. يقول الدكتور “رونالدو مانزوني”: تحدث زرياب عن الوتر الخامس وإمكانية وجوده بطريقة فلسفية منطقية، وخاصة عند الحديث عن الناحية النفسية الروحية للعود وكأنه كائن حي، وعن التوجهات الأوسطية عن الوتر الخامس، فكان يقول “العود كالإنسان والأوتار الأربعة هي أوصال البنيان الحي، وجاء الوتر الخامس ليبث الروح بهذه الأوصال، فنطق العود بأنغام حية تحمل لحنا قدسيا”.

وكان زرياب صاحب الأنامل الذهبية يقضي ليله ساهرا يدون الألحان العبقرية، ويعاونه اثنان من تلاميذه يدونان الألحان والنوتات، وكان لا يفرق في أمر الموهبة بين ذكر أو أنثى، فكان لا يدخر جهدا مع أي موهوب في عالم النغم والألحان.

نساء حول زرياب.. عوالم القيان النوابغ في فن الموسيقى

على كل المستويات والطبقات، احتلت المرأة في الأندلس مكانتها اللائقة بها، وكان لها في الغناء الحظوة الكبرى، خاصة في كنف زرياب، فقد شكلت المرأة في حياته جزءا مهما.

في مركز التوثيق الموسيقى بالأندلس، لا يزال يُحتفظ بأشعار ونوبات زرياب الموسيقية

يذكر المؤرخ ابن حيان القرطبي في كتابه “المقتبس في تاريخ الأندلس” 50 امرأة، وذكر اسم جاريتيه المفضلتين جلان (غزلان) وهنيدة، فقد كان يوقظهما بالليل لمساعدته في التدوين، وكانت ابنتاه علية وحمدونة مغنيتين شهيرتين، وهذان مثلان للمرأة الحرة والأمة.

استمر هؤلاء النسوة على خطى زرياب، وكان المغنون يستفتونهن بعد ذلك فيفتين بالحلول الموسيقية، وكانت المدرسة القرطبية انعكاسا للمدرسة الشرقية.

معارف أفلاطون.. ظلال الفلسفة والموسيقى على الروح والجسد

أتى زرياب بكل المعارف الأفلاطونية الجديدة والموسيقى وتأثيرها على الجسد، وكان مولعا بكل التجديدات الفكرية والفلسفية، وتذكر الدكتورة “مانويلا كورتس” أن ابن سعيد المغربي الأندلسي الذي عاش القرنين الثاني والثالث عشر كان يقول: خلال عصر زرياب كانت القصائد التي وردت في كتاب الأغاني للأصفهاني هي التي تغنَّى.

وهو شكل القصيدة الذي كان يغنَّى به في الأندلس في المرحلة الأولى، ومن ثم بدأت الموشحات والأزجال تشارك مع هذه القصائد. وهي القاعدة التأهيلية التربوية التي أسسها زرياب، ثم أخذت بالانتشار في باقي مدارس الأندلس.

أضاف زرياب الوتر الخامس للعود ما جعله أكثر ملاءمة لتفعيلات البحور الشعرية

ولم يكتفِ زرياب بالموروث الكلاسيكي الذي أخذه عن الموصلي بل أضاف الكثير، فهو أحد كبار المجددين، فقد اعتمد التنوع منهجا ودمج بين أجزاء من قصائد مختلفة، لذا وصل إلى أقصى درجات الحرية في التنويع في الإيقاعات الموسيقية، فالشعر العربي المغنى له قوالب محددة منها الطويل والقصير، والدمج بين أجزاء القصائد يعني تنوع الإيقاعات.

وكانت هذه بداية النوبة، وهي صنائع لحنية تتألف من خمسة أقسام، كل منها يسمى باسم دور الإيقاع، ووفقا لآراء بعض المؤرخين فقد كانت النوبة أندلسية، ثم أخذت بالتغير باختلاطها مع أنغام موسيقية أخرى قادمة من الشمال الأفريقي من الجزائر وتونس والمغرب.

خشب الغاجو.. عود زرياب الرشيق الناطق بالجمال

يعتبر نصير شمة مؤسس بيت العود أن العزف عند زرياب فاق كل العازفين الذين جاءوا من بعده لامتلاكه كل الخصائص التي جعلته محط الأنظار أينما حل.

وقد كان عود زرياب مصنوعا من خشب الغاجو، بدلا من الخشب المصقول مثلما كان سائدا في العصور الوسطى، وكان يرفض العزف على عود أستاذه، وهناك رأي يقول إن العود مصنوع من الأغصان الخشبية، وكان يقال إنه أقل وزنا بحوالي الثلث.

تفوق زرياب في صنعة العود وتطويره حتى ارتبط اسمه به

كما استخدم أنواعا جديدة من الأخشاب وطرقا جديدة في الصقل، وكان العود مصنوعا من أغصان رفيعة متلاصقة جعلت الصوت جهوريا ونقيا.

باب زرياب.. حظوة العازف الخاصة في البلاط الأموي

حصل زرياب على ميزات غير مسبوقة، فقد منحه الخليفة عبد الرحمن الثاني من خلال وثيقة وقعها راتبا مرتفعا وضيَعا ومنازل، ومنحه كذلك حق تأسيس المدرسة التي كان يصرف عليها الخليفة، والتي جعلته أهم موسيقيي العالم.

وذكر ابن حيان في كتابه “المقتبس” كثيرا من المعلومات التي توضح عمق العلاقة بينه وبين الأمير، فقد استحدث في قصره بابا خاصا يدخل منه زرياب، وفي إحدى المرات أعجب الأمير بإحدى القيان بعدما سمع غناءها، فأحبها فأهداها زرياب للأمير.

ومما يضاف إلى فنون زرياب، أنه قام بتحديد ألوان الملابس، وفقا للفصول الأربعة، وهو من حدد قصات الشعر واستحدث الغُرّة.

لا يكاد شارع في غرناطة أو قرطبة أو إشبيلية يخلو من لوحة كتب عليها اسم “زرياب”

توفي زرياب عام 857 م، بعد أن أنار الأندلس بحضارة بغداد وزخرفها الذي جلبه معه، وأضاف إليها تبر عبقريته، وبأنامله الساحرة تحولت الأندلس إلى حاضرة خالدة.

واليوم لا يخلو شارع في غرناطة أو قرطبة أو إشبيلية من لافتة كتبت باسم “زرياب” على مقهى أو فندق أو حتى فرقة موسيقية.