سليمان الحلبي.. قصة الشحّاذ الذي طعن الجنرال

تسير قافلة مُحملة بالصابون والدخان من غزة متجهة إلى القاهرة فيها تجار وأصحاب بضائع، وشاب سوري يُدعى سليمان الحلبي تجول في ذهنه أفكار وخطة يريد تنفيذها، لتصبح حدثاً يتوقف التاريخ عنده، ويروي عنها قصصاً ومحكيات تجعله شخصية جدلية يتذكرها الناس عبر مئات السنين.

شحّاذ حلب.. خنجر في قلب الحملة الفرنسية

عاد قائد الحملة الفرنسية على مصر “نابليون بونابرت” سرّاً إلى فرنسا، وذلك بعدما تأزم الوضع السياسي فيها، وترك قيادة الحملة التي أرادها أن تكون نواة لحلمه في تأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق بعده للجنرال “جان باتيست كليبر”، الذي بطش بالمصريين وراح يقمع انتفاضاتهم بعنف شديد.

قبل مغيب شمس الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 1800 كان الجنرال “كليبر” يسير مع المهندس المعماري “بروتان” في حديقة القصر متوجهين إلى مقر القيادة العامة، حيث يظهر أمامهما شحّاذ مُثير للريبة يستغيث بـ”كليبر” الذي مدّ يده إليه، فينقضّ الرجل عليه حاملاً خنجراً ويطعنه به في قلبه، لكن “بروتان” يهجم على الرجل لإبعاده عن كليبر، فيتلقى ست طعنات تُسقِطه أرضاً، يعود الرجل إلى “كليبر” يطعنه ثلاثاً أُخر كي يُجهز عليه[1]، ويتأكد من أن طعناته كانت قاتلة.

هذا الشحاذ شاب يُدعى “سليمان الحلبي” قدم إلى القاهرة قبل شهر تقريباً، حيث وصل إليها من حلب شمالي سوريا، وذلك في رحلة استغرقت أياماً عدة كي يُنفّذ مهمة قتل الجنرال الفرنسي “كليبر”.

يورد المؤرخ السوري خير الدين الزركلي في مؤلفه الموسوعي “الأعلام” أن الحلبي هو سليمان بن محمد أمين الحلبي قاتل الجنرال كليبر بمصر، وهو سوري الأصل وُلد ونشأ في حلب عام 1777، وأقام ثلاث سنوات بالقاهرة يتعلم بالأزهر، وعاد إلى حلب[2].

رحلة للعلم وأخرى لقتل الجنرال

ينحدر سليمان الحلبي من عائلة “أوس قوبار” في قرية كوكاني التابعة لمنطقة عفرين في ريف حلب شمال سوريا، حيث تعلّم هناك العلوم الابتدائية الدينية[3].

ارتبط الحلبي بمصر ارتباطا وثيقا، فهو يعرف أهلها جيداً كونه حج معهم مرتين في رحلة المحمل (الموكب الذي كان يخرج من مصر كل عام حاملاً كسوة الكعبة)، لذلك قرّر والده أن يرسله إلى الأزهر كي يكمل تعليمه الشرعي[4]، فكانت هذه رحلته الأولى.

يذكر الزركلي أن الحلبي حج مرتين وزار القدس وغزة، وقابل بعض قيادات الجيش العثماني فعاهدهم على أن يقتل “كليبر”[5]، دون أن يذكر الأسباب التي دفعته إلى هذا العهد، وربما يكون ذلك لأن العثمانيين أرادوا الثأر لهزيمتهم أمام الفرنسيين في معركة هليوبوليس (عين شمس).

وأما الرحلة الثانية فقد كانت بهدف قتل “كليبر”، فغادر حلب إلى غزة كي يلتقي حاكمها “أحمد آغا باشا” الذي أرسله إلى رجل يُدعى “ياسين آغا” كي يتفق معه على إيفاء ديون والده مقابل قتل كليبر، وينال دعما ماليا ويحبِكَ خطته للوصول إلى مُبتغاه.

انطلق الحلبي مع قافلة من غزة إلى القاهرة، وقضى ستة أيام في الطريق، حاملاً من علماء غزة رسائل إلى بعض علماء الأزهر يوصونهم بمساعدته، ولما وصل إلى القاهرة قضى فيها 31 يوماً يتعقب كليبر[6]، حتى ظفر به.

هناك نزل لدى أحد معلمي الخط العربي، وهو رجل تركي اسمه “مصطفى أفندي البرصلي”، كما انضم إلى رواق الشوام في الجامع الأزهر، وهو رواق مُخصص لأهل الشام المنضمين إلى الجامع لدراسة العلم والفقه، وكان فيه أربعة فتيان من مُقرئي القرآن من الفلسطينيين أبناء غزة، وأبلغهم سليمان عزمه على قتل الجنرال “كليبر” من منطلق جهادي نضالي، لكنهم لم يصدقوه واعترضوا على ما ينوي فعله[7]، محاولين أن يردعوه عن مغامرته.

سليمان الحلبي بعد أن قتل “كليبر” اصطدم بحرّاس حديقة القصر الذين عثروا عليه في بستان مجاور

مُحاكمة عسكرية للحلبي ورفاقه الأزهريين

بعدما طعَن الحلبي الجنرال “كليبر” ركض بعيداً عنه وعن رفيقه حتى بلغ سور حديقة القصر، فتسلقه وقفز منه محاولاً أن يتوارى عن الأنظار، لكن الحرس كانوا وراءه يركضون أيضاً، حتى غاب عن أبصارهم، ثم استمروا في عملية البحث يقتفون أثره حتى عثروا عليه في بستان مجاور.

أحضروه وبدؤوا التحقيق معه يسألونه عن اسمه وعمره وبلده وعن مكان إقامته، فأخبرهم أنه يسكن ببيت في الأزهر، وبينما كانوا يحققون معه ضُرب الحلبي ضربا مبرحا وعُذِّب تعذيبا شديدا، وذلك كي يُدلي بما لديه من معلومات، وليكشفوا من أين جاء وما دافعه لهذه العملية، حتى حكى لهم عن أربعة من رفاقه قال إنه أخبرهم باعتزامه قتل ساري عسكر الحملة (قائد)، وبأنه كان مقيماً معهم مدة 34 يوما قبل إقدامه على قتل الجنرال الفرنسي.

أصدر الجنرال “مينو” الذي تولى القيادة بعد مقتل “كليبر” في اليوم نفسه أمراً بتكليف محكمة عسكرية بتاريخ 15 و16 يونيو/حزيران 1800 لمحاكمة قاتل “كليبر”، كما قبض الفرنسيون على رفاقه وراحوا يحققون معهم.

استغرقت المحاكمة أربعة أيام فقط[8]، لتسفر التحقيقات فيها عن توجيه اتهام للحلبي ورفاقه الأزهريين الذين أفضى إليهم بعزمه على تنفيذ خطته رغم إنكارهم، كما وُجّه الاتهام إلى معلمه مصطفى أفندي البرصلي، وطلب القاضي من المتهمين أن يستعينوا بشخص يُدافع عنهم أمام المحكمة، لكنهم لم يستطيعوا ذلك فندبت المحكمة مترجماً للدفاع عنهم.[9]

توصلت المحكمة إلى إطلاق سراح واحد منهم تأكدوا أنه لم يعلم بالأمر، والثلاثة الباقون قالوا إنهم حاولوا كفّه عن الأمر دون إبلاغ السلطات الفرنسية، لذلك أدانتهم المحكمة بالتستر على العملية قبل وقوعها، كما قضت ببراءة معلمه البرصلي.

السبب الأساسي لرحيل سليمان الحلبي إلى القاهرة وقتل “كليبر” هو الجهاد

الأزهري الغارم.. جهاد أم مصالح شخصية؟

يحكي المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي في تأريخه للحملة الفرنسية على مصر أن السبب الذي دفع الحلبي إلى قتل “كليبر” هو أن آغاوات الينكجرية (الإنكشارية) أذاعوا بين الناس أن من يقتل ساري عسكر العام الفرنساوي (قائد الحملة الفرنسية) سيكون مقدَّماً في الوجاقات، أي سيصبح مُقدَّماً في الجيش العثماني، فتطوع الحلبي لها[10] كي ينال درجة أرفع ومرتبة أسمى، ويحظى ببعض الامتيازات التي يحظى بها ضباط الجيش العثماني.

أما الفرنسيون فيذكرون في رواياتهم عن القضية أن والد الحلبي كان مديناً ومُلزماً بدفع ضرائب كثيرة، فاستنجد الحلبي بأحد ضباط العثمانيين لإنقاذ والده، لكن الضابط طلب منه أن يقتل “كليبر” مقابل رفع الديون والضرائب عن والده، وهذا ما يرد في النسخة العربية لمحاكمة “كليبر”، والتي جاءت تحت اسم “مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كلهبر”، والتي ترجمها مترجمو الحملة الفرنسية بأن الحلبي أقدم على قتل “كليبر” بطلب من والي حلب العثماني، بحسب ما نشر في مطبعة الجمهورية الفرنسية في مصر عام 1800.[11]

ولكن هناك روايات أخرى ودوافع تحكي أن السبب الأساسي لرحيل الحلبي إلى القاهرة وقتل “كليبر” هو الجهاد[12]، لأنه كغيره أراد الدفاع عن البلاد العربية ضد الحملة الفرنسية التي ارتكبت جرائم ومجازر في مصر وحيفا ويافا، وذلك عند سير الحملة نحو سوريا لاحتلالها وإخفاقها في هذا المسعى، ولا سيما عندما أمّن نابليون أهل عكّا على أرواحهم، لكنه فتك بهم بعد استسلامهم.

الجنرال الفرنسي “جان باتيست كليبر” الذي قاد الحملة الفرنسية على مصر بعد عودة نابليون إلى فرنسا، طعما بتأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق

ثأر ونضال.. لهيب الثورات

لم يهدأ المصريون في مقاومة الفرنسيين، فكلما اندلعت ثورة أخمدوها، ثم ما تلبث أخرى أن تندلع. كان سليمان الحلبي في القاهرة يدرس في الأزهر فترة الثورات، يعايشها ويشارك فيها إيمانا بوحدة المصير، ويساهم في النضال الشعبي ضد الفرنسيين، ولا بدّ أنه نقِم عليهم نتيجة ممارساتهم وقتلهم للعامة وبعض شيوخه في الأزهر، مثل الشيخ أحمد الشرقاوي.

كان الشرقاوي من كبار مقاومي الحملة الفرنسية يعزز فكرة النضال ومقاومة الاحتلال، ويؤثر بالذين حوله، ومن بينهم الحلبي الذي كان ملازما له حتى قويت العلاقة بينهما، لكن ذلك لم يدم طويلا بسبب مقتل الشيخ الشرقاوي على يد الفرنسيين[13]. وخمدت ثورة القاهرة الثانية بعد بطش الفرنسيين بالناس، فلم يبق أمام الحلبي سوى العودة إلى حلب متحيّناً الفرصة للثأر والانتقام، حتى سنحت له تلك الفرصة عندما جنّده الإنكشارية لهذه المهمة.

أما العلّامة خير الدين الأسدي فيذكره في “موسوعة حلب المقارنة” بأنه شاب متحمس جاهل من أسرة “ونّس” في محلة المستدامية، ما تزال داره قائمة، قتل امرأة أبيه وخاف عقاب الآخرة، فأشار عليه شيخ أن يقتل كافرا ليغفر الله له، وكانت أخبار نابليون في مصر حديث الناس، فارتأى أن يسافر إلى مصر ويقتله.

ولما دخل حديقة القصر صادف أن خرج كليبر، فظنه نابليون وانقضّ عليه فطعنه وصرعه، وهرب واختفى في دولاب الماء في البستان، وقُبض عليه وحوكم.[14]

تنفيذ حكم الإعدام بحق رفاق سليمان الحلبي الأزهريين الذين أدانتهم المحكمة بقتل “كليبر” كان على مسرح “تل العقارب” باستخدام “الخازوق”

إعدام وحرق.. وليمة للطيور في “تل العقارب”

يوم الـ28 من يونيو/حزيران نُفّذ حكم الإعدام برفاقه الثلاثة الذين أدانتهم المحكمة أمام عينيه، على الرغم من أنهم لم يشاركوا في العملية، ثم حُرقت أجسادهم حتى التفحم، كما حكمت المحكمة عليه بحرق يده اليمنى التي طَعن بها كليبر، ثم بالإعدام بالخازوق. كان مسرح تنفيذ الحكم هو “تل العقارب”، حيث تُرك جثمان الحلبي أياما عِدّة تنهشه الطيور الجوارح والوحوش الضواري[15]، ثم عادوا إلى الرأس فقطعوه وأرسلوه إلى متحف كلية الطب بالعاصمة الفرنسية باريس[16].

وعند تأسيس مجمع “ليز إنفاليد” (Les Invalides) الذي يضم متاحف تروي التاريخ العسكري الفرنسي؛ وُضعت جمجمتاهما فيه، وكُتب تحت جمجمة كليبر جمجمة البطل، وتحت جمجمة سليمان الحلبي وُضع الخنجر الذي نفّذ به الطعن، وكُتب وإلى جانبها جمجمة المجرم[17]. لاحقاً تقرر نقل رفات كليبر إلى مسقط رأسه في ستراسبورغ الفرنسية حيث دُفن، كما نقلت جمجمة الحلبي بعد دراستها سنوات عديدة إلى متحف الإنسان بقصر شايوه في باريس.

ويحكي الزركلي طريقة قتل الحلبي باختصار ذاكراً أسماء أصحابه الذين أُعدموا معه: “نُفّذ فيه الإعدام صلباً على الخازوق في تل العقارب يوم 17 يونيو/حزيران (في مراجع أخرى 18 يونيو/حزيران)، وعُلّقت إلى جانبه رؤوس ثلاثة من علماء الأزهر أفضى لهم بسره، وهم الشيخ عبد الله الغزي والشيخ محمد الغزي والشيخ أحمد الوالي”[18].

تبقى الأسباب غامضة ومتداخلة وقيل فيها الكثير، لكن الأقرب هو تشابكها مع بعضها وترابط هذه العوامل كلها، حتى جعلته يُقدم على قتل الجنرال كليبر، فأمسى مقتله من أسباب إخفاق الحملة الفرنسية وانسحابها من مصر. كما يرى دارسون أنه جسّد فكرة القومية العربية برحيله من حلب إلى القاهرة للدفاع عنها ضد الحملة الفرنسية، مهما كانت دوافعه لذلك.

 

المراجع:

[1] راجع الرابط: https://bbc.in/2OqzTCS
[2] خير الدين الزركلي، الأعلام، ج 3، ط 15 (بيروت: دار العلم للملايين، 2002)، ص 133.
[3] راجع الرابط: https://bit.ly/2qSXcfE
[4] راجع الرابط: https://bit.ly/2L1DUeG
[5] الزركلي، ص 133.
[6] المرجع نفسه.
[7] راجع الرابط: https://bit.ly/33nLSFu
[8] راجع الرابط: https://bit.ly/37MCXkg
[9] راجع الرابط: https://bbc.in/2OqzTCS
[10] راجع الرابط: https://bit.ly/2L1DUeG
[11] راجع الرابط: https://bit.ly/2rwAVnO
[12] راجع الرابط: https://bit.ly/2XZeELt
[13] راجع الرابط: https://bit.ly/2OWWXYO
[14] خير الدين الأسدي، موسوعة حلب المقارنة، نسخة رقمية، ص 1574.
[15] راجع الرابط: https://bit.ly/2OWWXYO
[16] راجع الرابط: https://bit.ly/33nLSFu
[17] راجع الرابط: https://bit.ly/2Y5acei
[18] الزركلي، ص 133.