سيد مكاوي.. شقاوة الموسيقى الشرقية

ياسر ثابت

 

تشبه ألحانه تلك العين السحرية التي نجدها أعلى الأبواب الخارجية للشقق والبيوت، إذ نطل منها على عالم كامل كان خفيا عنّا في هذه الحواجز، لولا تلك العين الزجاجية الساحرة. فموسيقاه تُخرجك من عزلتك، وتقودك إلى فسحة رحبة تتأمل فيها ملامح مُبهجة غابت عنك طويلا، غير أن الذي يجعلك ترى ما لا يُرى كان هذه المرة كفيفا، بابتسامته المتسعة ونظارته السوداء المميزة تُداعب أنامله أوتار العود، لتبدأ تلك اللحظة السحرية التي تمتزج فيها الألحان بصوته، ليطيب لنا الوقت.

ربما قطعت ألحانه الخفيفة الشجيّة نصف المسافة نحو السعادة، وربما منحتك لحظات تشبه الاستلقاء على أرجوحة معلقة بين شجرتين، لكن إيقاع تلك الألحان هو كل الطريق إلى استكشاف ذلك الفراغ البهي، أما صوته فهو ذلك الذي يمسح الغبار عن نافذة الحياة، ويتنهد معك ويُسلي وحدتك، ويمنعك من أن تقضم أصابعك ندما قبل أن يوصيك بحنان مستفيض “لا بقايا لدموع جديدة”.

إنه المطرب والملحن سيد محمد سيد مكاوي، الذي يلحن كشيخ ويغني كطفل يمدّ لك لسانه ساخرا. لم تكن موسيقاه الرشيقة خيال مآتة في حقل ما، بل كانت الحقل والمحصول الوفير الذي يعجن التراب المتراكم حول ذاكرتك، قبل أن يدعوكَ للجلوس تحت ظلال سنديانة عتيقة اسمها النغم الأصيل. ترك مكاوي بصمة لا تُمحى في التراث الفني المصري، إذ تميز بأسلوب فريد لم ينافسه فيه مطرب آخر.

 

شيخ الملحنين

وُلد سيد مكاوي في 8 مايو/أيار عام 1927 في حي الناصرية بالسيدة زينب بالقاهرة، لأسرة بسيطة الحال عُنيت بنشأته الدينية، حيث وجّهته لحفظ القرآن الكريم، وظلّ لفترة يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة في مسجدي “أبو طبل” و”الحنفي” بحي الناصرية بالسيدة زينب، ثم حرص على متابعة أساطين الإنشاد والتلاوة وتعلّم منهم وقلدهم، وكانت والدته تشتري له الأسطوانات القديمة من بائعي الروبابيكيا (الأغراض القديمة).

تطور بعد ذلك في مرحلة الشباب ليقتحم مجال الإنشاد الديني، وظهرت لديه ذاكرة موسيقية جبّارة رشحته لدخول مجال الموسيقى التي تعلمها بإتقان باهر من دون أن يدخل معهد موسيقى.

حفظ مكاوي الأدوار والموشحات وذخيرة كبيرة من الألحان، وأمهات القصائد التي جادت بها قريحة فحول الشعراء العرب، كذلك أبرز ما قيل في مصر من أدوار وموشحات من بداية القرن العشرين، خاصة للفنان سيّد درويش الذي يُعتبر من رواد التجديد في الموسيقى العربية، والشيخ زكريا أحمد وهو خير مَنْ حافظ على الطابع الشرقي في موسيقاه، وآخرون مثل محمد القصبجي وداود حسني.

لحّن الشيخ سيد مكاوي حياة الناس، ورسم صورا اجتماعية تجسّد أيامهم مبرزا جماليات تنام وسط تفاصيل البحث عن الرزق، وبرع في استخدام عوده في غناء شعبيات البسطاء، مُرسخا مبدأ أن الشعب هو صاحب الفن الأصيل، وإذا كان قد حُرم مِن نعمة البصر، فإنه وُهِبَ نعمة البصيرة.

بدأ مكاوي أولى خطواته الموسيقية من خلال التتلمذ على يد محمد العقاد الكبير
بدأ مكاوي أولى خطواته الموسيقية من خلال التتلمذ على يد محمد العقاد الكبير

 

بداية على نهج العظماء

بدأ مكاوي أولى خطواته الموسيقية من خلال التتلمذ على يد محمد العقاد الكبير، وتعلم العود من أمين بك المهدي. كما تقدم مكاوي للإذاعة مطربـا، واعتُمِد في بداية خمسينيات القرن العشرين للعمل كمطرب لغناء تراث الموسيقى الشرقية والموشحات، وأُسندت إليه الأغاني الدينية مثل “حيارى على باب الغفران” و”آمين.. آمين” حتى توّجها بأسماء الله الحسنى.

وللحق، فقد امتلك مكاوي صوتـا طربيا مصحوبا بخفة الظل والرشاقة، وطعَّم ألحانه أيضا بالبساطة والرشاقة، كما أن صوته تأثر بمدرسة المشايخ التي انتمى إليها، وكان ذلك واضحا في قفلات الجمل الغنائية لديه.

وربما جاز القول إن مكاوي يُعتبر امتدادا للشيخ زكريا أحمد طربا وتلحينا، إذ عشق مدرسته الموسيقية؛ مدرسة المشايخ التي لا يستطيع أي أحد الانتماء إليها، لكن نشأة مكاوي دعمته في الانتماء لها، بل والتميز أيضا.

رغم أن مكاوي عاصر عمالقة في مجال التلحين والغناء فإنه احتفظ بنكهته الخاصة التي جعلت من وفاته خسارة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معان. خليط من حسّ الدعابة عند المصريين، وبراءة صبي يلاحق الوهج المخاتل، وضحك رواد المقاهي الشعبية، وأحزان رجلٍ تجلس مدن قديمة فوق ظهره، لكنه في كل الأحوال يتنقل في موسيقاه بخفة ما بين الوديان والدلتا، والحارة والموالد كي يمد لك مائدة عامرة بالعذوبة الرائقة.

بدأت الإذاعة في التعاون مع مكاوي في منتصف الخمسينيات ملحنا، مع استمرار التعاون معه مطربا، وكانت أولى أغانيه ألحان الممثل والملحن عبد العظيم عبد الحق وهي أغنية “محمد”، والثانية لأحمد صدقي وهي أغنية “تونس الخضرا”، ثم قدم لـمحمد عبد المطلب أغنيتي “اتوصّ بيا” و”قلت لأبوكِ عليكِ وقالي”، وكذلك أغنية “كل مرة لما أواعدك” و”اسأل مرة علي”، ولـشريفة فاضل “مبروك عليك يا معجباني يا غالي”، ولحّن للمطربة ليلى مراد “حكايتنا إحنا الاتنين”، ولشادية “هوى يا هوى ياللي إنت طاير”، ولنجاة الصغيرة “لو بتعزني”، ولشهرزاد “غيرك أنت ماليش”، ولفايزة أحمد “يا نسيم الفجر صبح”، ولصباح “أنا هنا يا ابن الحلال”.

تمتع مكاوي بحسٍ شرقي لا يُجارى في الأداء
تمتع مكاوي بحسٍ شرقي لا يُجارى في الأداء

 

سيد الألحان

تمتع مكاوي بحسٍ شرقي لا يُجارى في الأداء، وعبَّر بألحانه -التي بلغت نحو 1500 لحن- وصوته عن صور الحياة الشعبية في مصر، وذلك في كثير من الأعمال للمسرح الغنائي والمسرح الإذاعي والأغنية الفردية.

ألحانه راقية وعذبة، لا يوجد فيها تلك الضوضاء، وليست من الألحان الصعبة والضخمة، بل السهلة والسلسة القريبة إِلى القلب، كما أن أغلب ألحانه من مقامات شرقيّة بحتة مثل الراست والسيكا التي كان يُكثر منها، ولذلك صُبغت ألحانه بصبغة شرقية أصيلة.

كان مكاوي أول من لحّن مقدمات غنائية للمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، وكان له الفضل في الأغاني الجماعية بالإذاعة، فهو أول من لحّن أغاني المجاميع، فقدم للشاعر محمود حسن إسماعيل أغنية “آمين آمين يارب الناس”، وفي حلقات “المسحراتي” الإذاعية كانت الإذاعة تعهد لأكثر من ملحن بالمشاركة في الثلاثين حلقة، وأسندت له الإذاعة تلحين ثلاث حلقات، فقدمها على الطبلة فقط ولقيت إقبالا كبيرا، مما حدا بالإذاعة في العام التالي إلى إسناد العمل كاملا له.

 

محطات إذاعية هامة

كانت هُناك محطتان مهمتان في الأعمال الإذاعيّة لسيد مكاوي، الأولى مع أشعار صلاح جاهين (1930 – 21 أبريل/نيسان 1986)، والثانية مع الديوان الكامل للشاعر فؤاد حداد (1928 – 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1985).

يجدر التوقف عند هاتين المحطتين فِي حياته نظرا لأهميتهما الكبرى، وكان يجب إدخالهما المعاهد الموسيقية لاحتوائهما على الكثير من بديع موسيقانا الشرقيّة؛ الأولى “الرباعيات” التي قدمها فِي برنامج في حلقات يومية من خلال إذاعة صوت العرب في نهاية ستينيات القرن العشرين، وهي شعر صلاح جاهين وإخراج أنور عبد العزيز، وقد حققت شهرة واسعة وشيوعا كبيرا، ممّا حدا بالمطرب علي الحجار إِلى استئذان سيد مكاوي في إعادة تقديمها، وقد وافق مكاوي وأُعيد التسجيل بصوت علي الحجار.

المحطّة الثانيّة هي برنامج مِن ثلاثين حلقة يُسمى “نور الخيال وصنع الأجيال”، والذي قدمه من خلال إذاعة البرنامج العام في شهر رمضان من العام 1968، وهي من شعر فؤاد حداد وإخراج فتح الله الصفتي.

وصف الشاعر القاهرة العظيمة وما مر بها من أحداث عبر التاريخ، وقام سيّد مكاوي بتلحين الأشعار وقدمها في شكل الشاعر الراوي، وقدم خلال الحلقات الثلاثين العديد من الأصوات الجديدة والمواهب الشابة آنذاك، والتي شاركته في الغناء.

كانت لهذا البرنامج المقدمة الغنائية الشهيرة “أوَّل كلامي سلام”، وكانت أغنية “الأرض بتتكلم عربي” من أشهر أغاني سيّد فِي هذا البرنامج، ويعتبر هذا العمل عملا ملحميا مليئا بالتراكيب اللحنيّة الشيقة والمعقدة والمركبة، ومرجعـا مهمـا لكافة الملحنين الجدد للاستفادة منه في كيفية التسلسل اللحني وحسن النقلات الغنائيّة اللحنيّة الشيقة والمعقدة والمركبة، ومرجعـا مهما لكافة الملحنين الجدد للاستفادة منه في كيفية التسلسل اللحني وحسن النقلات الغنائيّة.

 

صداقة بنكهة فنية

صنع سيد مكاوي مع الشاعر صلاح جاهين صديقه ورفيق دربه؛ أنجح ثنائي فنيّ، وكان عملهما أوبريت “الليلة الكبيرة” لمسرح العرائس من أنجح الأعمال، حيث يُعد هذا العمل الأشهر في تاريخ الفنّ المصري والعربي، إذ يصور ليلة من ليالي الموالد الشعبية المنتشرة في مدن مصر وقراها منذ مئات السنين، وتحتوي مضمونا يقترب كثيرا من الفولكلور الشعبي.

تظهر بصمة سيد مكاوي واضحة جلية في كل لحن له، فدائما هناك نوع من “الدلال” الخفي، و”شقاوة” مراهق في تغزله، و”روح حيّة” دفعت أم كلثوم إلى أن تتأسى بها وتسير على خطاها، تماما حين لحّن لها مكاوي أغنية “يا مسهرني” التي دفعت أم كلثوم إلى أن تطلب منه تلحين أغنية “أوقاتي بتحلوّ” بنفس القدر من الدلال والروح الطفولية بعد ذلك بأعوام عدة، لكن وفاتها حالت دون ذلك، لتغنيها وردة الجزائرية بعد ذلك بأعوام.

خلطة “الشباب والروح” مع “السلطنة” في أغاني مكاوي مثل “أنا هنا يا ابن الحلال” و”الورد جميل” و”ليلة امبارح”؛ تجعلك لا تتخيل أن هذا الرجل قد خُلِق لفعل أي شيء سوى إضفاء البهجة على حياة مستمعيه.

يقول مكاوي في أغنية لحّنها وغناها هي “حلوين من يومنا والله”:

حلوين من يومنا والله وقلوبنا كويسة

وبقدّم أحلى فرحة ومعاها ميت مِسا

يا ليل طوّل شوية.. ع الصحبة الحلوة ديّة

الغالي علينا غالي.. ولا عمره بيتنسى

حلوين من يومنا والله والله وقلوبنا كويسة

يا ليل ابعت سلامي للناس الطيبة

فكّرهم بالمحبة وبأيام الصبا

وابدر أفراحي غنوة.. يجعل أيامنا حلوة

وتعيش الفرحة دايما في قلوبنا قريبة

 

فنان الوطن والشعب

لم تقتصر ألحان مكاوي على الأغاني العاطفية فقط، لكنه كان يتفاعل مع كل ما يمر به وطنه بداية من عام 1956 والعدوان على بورسعيد، فقدم أغاني المعركة “ها نحارب”، و”ازرع كل الأرض مقاومة”، وعام 1967 قدّم أغنية “الدرس انتهى لُمّوا الكراريس” للفنانة شادية عقب قصف مدرسة “بحر البقر”، وأغنية “إحنا العمال اللي اتقتلوا” عقب قصف مصنع أبو زعبل، وغنى “الأرض بتتكلم عربي” كما أسلفنا.

لم يكتفِ هذا الفنان الموهوب بما حققه، بل اجتذبه المسرح الغنائي فاشترك في أوبريت “القاهرة في ألف عام”، والذي قدمه على مسرح البالون من خلال الفرقة الغنائية الاستعراضية.

بقي سيد مكاوي عنوان البساطة المبهجة في حياته ولقاءاته التلفزيونية، ففي لقاء له مع طارق حبيب في برنامج “اتنين على الهواء” في التلفزيون المصري عام 1970:

المذيع: سيادتك، تحب أناديك أستاذ سيد ولا الشيخ سيد؟

مكاوي: والله في كتير بيقولوا أستاذ وبيقولوا الشيخ، إنما أنا بفضل “أبو السيد”.

اختار سيد مكاوي ارتياد أماكن جديدة في الموسيقى الشرقية لتصبح أكثر شقاوة، وأجلس المناطق الشعبية على ركبتيه حتى صارت بيوتُها جزءا من مفاصله التي تؤنس وحشتنا ووحشته.

رحل سيد مكاوي في 21 أبريل/نيسان 1997 بعدما أثرى المكتبة الموسيقية بألحان لكبار المطربين والمطربات المصريين والعرب، واختير عضوا في لجنة الاستماع بالإذاعة المصرية، وحصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، ووسام صدّام للفنون من الدرجة الأولى، كما حصل على شهادات تقدير من جهات فنية عديدة كالإذاعة المصرية وإذاعة الإسكندرية، وشهادات خاصة بالمناسبات كأعياد الطفولة والمسرح.