شادي عبد السلام.. فرعون السينما المصرية ومهندس معمارها

“ليس سهلا على كل أحد أن يعبر إلى هذا المقام، إلا من كان شاعرا، فالعبور ليس سهلا إلا على العابرين”. “مارتن هايدغر”.

إن حياة الإنسان لا يمكن أن تقرأ بكاملها، على ضوء الأعمال التي ينتجها، غير إنه من الممكن رسم ترجمة فنية وفكرية لهذا المسار الحياتي المتعدد الذي يتميز به المخرج شادي عبد السلام.

إذا كان “فلّيني” يمثل السينما الإيطالية، و”برغمان” يلخص السينما السويدية وربما الإسكندنافية، و”بريسون” يعتبر روح السينما الفرنسية، و”تاركوفسكي” يرمز إلى السينما السوفياتية، فإن شادي عبد السلام يمثل السينما المصرية أو العربية.

وقد حاز شادي عبد السلام هذه الهالة الفنية العالمية من خلال فيلم “المومياء” (1969)، هذا الفيلم الظاهرة الذي كان ولا يزال يُختار من بين أهم الأفلام العربية والعالمية عبر تاريخ السينما. إن محاولة الاقتراب من المنجز السينمائي لشادي عبد السلام لن يتأتى إلا من خلال وجوه متعددة، سوف نستعرضها في هذا المقال.

معماري السينما.. ولوج للفن السابع من بوابة الهندسة

عرف تاريخ السينما المخرج السوفياتي “سيرغي أزنشتاين”، الذي يكفيه فخرا أن أخرج الفيلم الخالد “المدمرة بوتمكين” (Battleship Potemkin) عام 1925، هذا الفيلم الذي حرمه النقد الفكري السياسي من أخذ قيمته الجمالية لعقود من الزمن، لأن قوة هذا الفيلم تكمن في النبوغ الهندسي الذي نفذه مهندس القناطر أزنشتاين.

لهذا لا يمكن أن نلتقط عمق وقوة وصلابة البناء الفني لأعمال شادي عبد السلام الوثائقية والروائية القصيرة والطويلة، دون أن نأخذ بعين الاعتبار نبوغه كمهندس معماري وكمصمم للديكور وللملابس. فبعد دراسته الجامعية بمصر وبإنجلترا بدأ حياته الفنية مهندس ديكور في عدة أفلام أجنبية صورت داخل مصر وخارجها، كما صمم ديكور وملابس مجموعة من الأفلام المصرية كان لها نجاح كبير على مستوى الوطن العربي، من أهمها “الناصر صلاح الدين”، (1963)، و”بين القصرين” (1964)، و”السمان والخريف” (1967)، و”رابعة العدوية” (1963).

إن عظمة وخلود فيلم “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين يأتيان من مناخات هندسة الديكور، وقوة التكوين، وضبط الإيقاع المرئي الذي أعطى للبطل صلاح الدين (الممثل أحمد مظهر) مجده وهيبته وقدسيته المحررة. كما أن بناء شخصية سي السيد (الممثل يحي شاهين) في فيلم “بين القصرين”، وترسيخها في المتخيل الجمعي العربي، جاءت من التماثل بين اللباس والأثاث والزينة والتفاصيل التي تؤثث الفضاءات والأجواء التي يتحرك فيها صلاح عبد الجواد بطريقة إمبراطورية.

إن نظرية المهندس شادي عبد السلام تتماهى مع نظرية نظيره “سيرغي أزنشتاين” التي تعتبر أن الإنسان عبارة عن مسكن وملبس، فبيت الإنسان وشكله الخارجي علامات تعبيرية أساسية في الفنون البصرية. ويدعم “كاستون باشلار” في كتابه “شعرية الفضاء” نظرية شادي عبد السلام، ويعطيها أبعادا نفسية ووجودية متعددة.

إن نبوغ شادي عبد السلام وعقليته الهندسية والشعرية، جعلاه صاحب مدرسة في بناء معمارية الفيلم، كما أن معرفته المبنية على البحث والتنقيب والحفر الأثري في تصميم اللباس وتفصيله على النفس البشرية وعلى الشخصيات، ساعدته على فك الإشكالية المرتبطة بفن الإخراج السينمائي، والبحث عن تأصيله كلغة صافية، ترى أن مأزق التعبير السينمائي يكمن في كون السينما فن الدواخل الإنسانية، ولكن ليس لها إلا الخارج للتعبير عن ذلك. إن ذكاء شادي وعبقريته حققت الجدلية بين الداخل والخارج الإنساني، أي بين المحتوى والشكل بمعناه عند “هيغل”.

رائحة التاريخ.. امتداد حضاري يصنع عين السينما الناقدة

يعلمنا شادي عبد السلام من خلال أفلامه الوثائقية كيف نرى وكيف ننظر وكيف نكتشف الحقائق المنسية. إن رؤيته للعالم المسندة بالتنقيب والبحث في المتاحف ودراسة المنمنمات وفن العمارة، هي رؤية جمالية تتجاوز المحاكاة، لتجعل صور الواقع التي ترسمها الكاميرا من خلال التنظيم والمونتاج، انعكاسا لواقع يعيش على حافة الخطر المتربص.

فمن ذلك خطر العدو الصهيوني في فيلم “جيوش الشمس” (1973)، وخطر السلطة في فيلم “كرسي توت عنخ آمون” (1982)، وخطر انهيار المجد وكسوف الحضارة المصرية في فيلم “الأهرامات وما قبلها” (1984) وفيلم “رع رمسيس الثاني” (1986)، وخطر اندثار التراث والسعي إلى المحافظة عليه في فيلم “آفاق” (1972).

إن الرؤية التشكيلية عند شادي عبد السلام هي في نفس الوقت رؤية تأملية، تبني بالتفاصيل لوحات وأروقة لوقائع وأمكنة وأحداث، وتستغرق في تفاصيل الوجوه والأيادي والحركات والنظر، لتتفوق على الواقعي وتتجاوزه، من أجل استعادة المجد الحضاري الفرعوني المصري، واستشفاف المستقبل الذي يستحقه الإنسان المصري المعاصر حفيد هذه الحضارة ووارثها.

“الفلاح الفصيح”.. رجل بسيط في مواجهة الفرعون الإله

لو أن شادي عبد السلام أنتج فيلم “الفلاح الفصيح” فقط، لكان كافيا بأن يدخل به إلى المجد السينمائي من بابه الواسع، ويكون شادي عبد السلام بإبداعه لهذا الفيلم القصير شبيها بالشاعر الفرنسي “أرثير رامبو” الذي كتب قصائد قليلة جعلته في مصاف الخالدين، وسكت قبل أن يصل سن العشرين، وظل صمته لغزا بليغا.

يعتبر فيلم “الفلاح الفصيح” من الأفلام الخالدة التي أعطاها الزمن قيمتها التاريخية والراهنية، وقد استوحى شادي فيلمه القصير هذا من بردية فرعونية قديمة معنونة بـ”شكوى الفلاح الفصيح”.

مشهد من فيلم المومياء

يحكي الفيلم قصة فلاح مصري سرق منه ماله ومتاعه أثناء رحلة الطريق، وشد عزمه إلى مقابلة فرعون مصر، فخاطبه وجها لوجه قائلا: أيها الحاكم خلصني من شقائي، أيها الإله ذا الوجهين، يا ابن الشمس الخالد المخلد، إن إقامة العدل كالتنفس، أقم العدل، فالعدل أخو الخلود.

يثبت هذا الفيلم من خلال لغته المبتكرة أن السينما كانت في حاجة إلى مخرجين شعراء قادرين على الخروج بهذا الفن من بدائيته الحكائية، وكأن العدل يحتاج إلى لغة الشعر، ليكشف عن الكائن الموجود وعن مقام الوجود.

اعتمد شادي عبد السلام في إخراجه لهذا الفيلم التحفة، بناءات بصرية وفرت له المطابقة بين الماهية والتعبير، حيث العين ترى وتسمع وتتعلم الاستبصار، من أجل اكتشاف العدل والحق. إن سينما شادي عبد السلام تشعرك بالوجود، بعد أن تستعيد بالشعر سؤال الوجود، من خلال تمثيل وتشخيص فرعون الإله، ينصت إلى شكوى فلاح مصري فصيح، وستصبح هذه الشكوى دستور مملكة الفرعون، من أجل أن يحيا العدل ويستتب الأمن.

“المومياء”.. وصية شادي عبد السلام الأخيرة

يحس المتفرج أثناء مشاهدة فيلم “المومياء”، أنه يدخل إلى مغارة أفلاطون، ليشاهد الظلال والخيالات وهي تنعكس على الجدران الحجرية، فينتابه شعور بأن السينما خلقت مع هذا الفيلم “يوم أن تحصى السنين” (جزء من اسم فيلم “المومياء”).

استوحى شادي عبد السلام حكاية الفيلم من قصة اكتشاف مخبأ المومياوات بالدير البحري سنة 1881، فبنى الصراع والتوتر الدرامي من خلال الخلاف القائم بين أفراد قبيلة الحربات، وهي مكونة من الأب المتوفى والابن ونيس (الممثل أحمد مرعي) والأخ المقتول والأم والعم وأبناء العم (القتلة) والأفندية والرجل الغريب، والبحث عن سر المقبرة، وسرقة وتهريب الكنوز الفرعونية.

تلج الكاميرا بطن الأرض لتكشف عن سر المقابر الفرعونية. “لقد كان الإنسان المصري القديم يعتقد في فكرة تولد الحقيقة من الصورة، فصورة الشخص يمكن أن تصبح وسيطا للخلود، ولذا أخذ الفنان في اعتباره انتقاء المادة الأكثر صلابة، والأقدر على البقاء. ومن هذه الوجهة استخدم الحجر في نحت التماثيل وتشييد المعابد”.

لكن أبناء عم ونيس بعدما اغتالوا أخاه وتربصوا به هو كذلك وأجبروه على الفرار، دنسوا المعابد ونهبوا المقابر وأتلفوا المومياوات، بحثا عن الذهب، من أجل بيعه للمهربين الأفندية.

“قضيتي هي التاريخ الغائب المفقود”.. صرخة الفرعون الأخير

راهن شادي في فيلم “المومياء” على شجاعة ومغامرة التصوير، من خلال النظرة المشهدية وتعدد زوايا النظر والبناء المعماري الموحي بالحس اللمسي للكتلة الصخرية، ليؤسس بذلك بعدا احتفاليا بجمالية الاستبصار والشهادة، من أجل اختراق وفضح النهب التراجيدي المنظم لتاريخ مصر العظيم، ومن أجل مقاومة الهدم والدمار والتخريب الذي يحصل للتراث والحضارة المصرية.

يتميز الفيلم بالعناية الفائقة بالصورة، إلى حد أن الصورة- اللوحة، تصبح هي بطلة المشهد، وفي اهتمامه بالصورة، يكمن سر اهتمامه بالمكان والإنسان وما يكشفانه من صراع وتفاصيل هذا الصراع الأبدي. تتحول الشخصيات في هذا الفيلم إلى نظرات، حيث تنتقل العيون بين الصخور والسراديب والأعمدة لتتبادل الأسرار والأخبار في لعبة الاختفاء والتجلي، وبين تناقض الأبيض والأسود لخلق مناخات تراجيدية جنائزية تكشف هول وخطورة الفعل المقترف وأثره على المستقبل.

نستنتج من خلال ما سبق أن هذا “الفرعون الأخير”، الذي استعمل لغة الضوء، ليستنهض السينما، لتقول وتعرض تاريخ مصر وحضارتها، يهدف من وراء ذلك إلى بعث هذه الحضارة من جديد، لأجل تعريف المصريين بتاريخهم وبحضارتهم، بواسطة لغة القرن العشرين، لأنه يؤمن أن المستقبل رهين باستنهاض النفوس والضمائر، من أجل البعث والخلود الذي حلم به الفراعنة القدماء، حين آمنوا به ووضعوا له العدة العلمية والعقائدية التي أفسدها الأبناء والحفدة، “قضيتي هي التاريخ الغائب المفقود.. لا بد أن نوصل بين إنسان اليوم وإنسان الأمس لنقدم إنسان الغد”.

“علمني أن أكون مصريا، لكنه تخلى عني بموته”

تعتبر الأعمال غير الكاملة لشادي عبد السلام مشروعا حضاريا مكتملا، فهو ينتمي بمشروعه هذا إلى طينة السينمائيين الشعراء المفكرين الذين يعتبرون أن مهمة الإبداع هي استعادة سؤال الوجود، من خلال لغتهم التعبيرية والفكرية.

فقد حقق بالسينما وفي السينما تاريخية الإنسان، وبهذا فهو ينتمي إلى السينمائيين المستقبليين، وهم سينمائيون عابرون يأتون في ظروف خاصة، سابقة أو متأخرة، يلقون كلمتهم أو صورتهم فينا ثم يرحلون.

رحل شادي عبد السلام بشخصه، ولكنه ما زال حيا بفكره وروحه المصرية. وقد ترك لورثة هذا الفكر مشروع “إخناتون” الفرعون العظيم. ولا شك أن في قول الفنان محمد صبحي: “شادي عبد السلام علمني أن أكون مصريا، لكنه تخلى عني بموته”، ما يكفي من حرقة الغياب، لنقرأ ما تيسر من كتاب الموتى.

“انهض فلن تفنى
لقد نُوديت باسمك
لقد بعثت”