طه حسين ورحلة على ضفاف الأدب.. بين سجن العمى وإشراقة القلم

على خطا المعري سار طه حسين، أخذ العمى بأيديهما إلى الإبداع، وعبْر مجداف القلم الجارح والمداد الفيّاض سارا في رحلة طويلة من الشغف إلى اكتشاف فسحة الأدب. لم تكن ظلمة العمى التي جمعت بينهما والشك الذي قارب صفحاتهما الأدبية مانعا من أن يُحلّقا في سماوات زرقاء من الإبداع، كان حسينُ أبا العلاء الثاني، وكان المعري صدى سابقا لصوت طه في زبر الأولين.

 

ضحية الجهل

لم يكف قلم طه حسين عبر صفحات كثيرة من كتابه “الأيام” عن توجيه النقد اللاذع والشتيمة الثقافية القوية لذلك المجتمع القروي الجاهل الذي ولد فيه، حيث كانت “البدائية” و”الجهل” والبعد عن التعليم مفردة أساسية -بالنسبة لطه حسين- من مفردات ذلك المجتمع القروي الذي نشأ فيه.

وتحت ظلام ذلك الجهل فقد طه حسين بصره وهو صبي يبرعم أشواق الحياة، لقد قام حلاق يمارس الطب بعلاج الطفل الوديع، وكان ذلك العلاج سببا في أن يلتحف الرجل الظلام طيلة عمره، رغم إشراقة وهّاجة لقلم مبدع يضيء مثل الشمعة التي تحرك فتيلتها رياح شك متعددة.

روح متشائمة مشاكسة، وعناد ثقافي عارم، كانت تلك أشباح شخصية سكنت جسد عميد الأدب العربي طه حسين، ورسمت ملامح حياته. اختلف الناس حوله واختلفوا معه بكثرة، لكنهم لم يختلفوا على شخصيته الأدبية وعلى ريادته العلمية وعلى بريق قلمه الذي كان يفيض إبداعا ومشاكسة وشكّا وبناء وتحطيما.

ولد المعري الثاني أو طه حسين في قرية الكيلو بقضاء مغاغة في محافظة المنيا، وكان سابع إخوته لأب متواضع الحال يعمل موظفا بسيطا في شركة تقليدية للسكر.

تنسّم الطفل الذي لم يُقدّر له أن يلتقط كثيرا من صور الحياة؛ سنة 1889، وفي سنته السابعة فقد البصر، فوجهه والده إلى كُتّاب القرية لحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ اللغة ومعارف الدين الإسلامي.

وكعادة العميان كان الذهن صافيا والذاكرة قوية، وحَفِظ القرآن الكريم في فترة وجيزة أذهلت أساتذته ومعارفه، وكانت تلك بداية سريعة لأن ينتقل الشاب الذكي إلى الأزهر الشريف الذي درس فيه لسنوات عديدة، ولم تَروِ مناهجه ظمأه المعرفي، ولم تلجم شكيمة الشك المتوقدة في نفسه.

وأخيرا انتمى بعد ذلك إلى جامعة القاهرة في أول تأسيس لها، ومنها تخرج مبتعثا في منحة دراسية إلى فرنسا، وهنالك بدأت رحلة أخرى ومقطع بالغ الأهمية من حياة الرجل.

كان الراحل قد بدأ حربه الفكرية بكتابه الذي نال به الدكتوراه عن شخصية وحياة أبي العلاء المعري، وسرعان ما وُجهت إليه الاتهامات بالزندقة، وأصبحت قضيته مثار جدل في مجلس النواب المصري، لكنه خرج من الأزمة منتصرا بعزيمة أكثر مضاء وإصرارا على الشك والإثارة والمشاكسة في ثوابت أدبية وفكرية عامة.

 

أزهري في باريس

في 1914 انتقل طه حسين إلى باريس لاستكمال دراسته في الأدب والفلسفة وعلم النفس والتاريخ في جامعة مونبلييه، ووجد الشاب الأزهري في فرنسا ضالته العلمية والروحية وحتى العاطفية.

لقد تعمقت دراسات الرجل في تاريخ الأدب والفلسفة بشكل كبير، وتعمقت معارضة الرجل وقوة الشك لديه، ليبدأ تشكيل ذات جديدة تقف على منصة أزهرية وتقطف من معارف الغرب الذي بات طه حسين منبهرا به لدرجة لا يمكن تصديقها كما يرى خصومه.

وهَبت باريسُ طه حسين خزائنها المعرفية وثراءها الأدبي، ونشازها عن نمط التفكير الإسلامي والعربي الذي قَدِم منه ابن الأزهر البصير، ولكنها وهبته أيضا حضنا أسريا ورفيقة حياة أسرت قلبه وكانت له الصديق الوفي والعون الواعي على أعباء الحياة.

ففي تلك الفترة تعرف طه حسين على الأكاديمية الفرنسية سوزان بريسو الفرنسية من أصل سويسري، والتي تركت أعظم الأثر في حياة طه حسين، وهو ما عبر عنه بقوله إنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبُه الألم.

تركت سوزان في بيت طه حسين ولديهما أمينة ومؤنس، لكنها تركت ثروة هائلة من الحب في قلب طه حسين، ولولا قدراتها المعرفية لما استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه، فقد أدت سوزان أدوار الزوجة والكاتبة والتلميذة والأستاذة ورفيقة الحياة في آن واحد.

قرأت سوزان لطه حسين أمهات الكتب الفرنسية والأجنبية، ومكّنته من القراءة عبر الكتب المخصصة للعميان، وأملى عليها أغلب كتبه، حيث كانت الكاتب النزيه والراوية المحلّقة بأدب طه حسين ورسول ذاكرته المرهفة ولسانه المبدع وقلمه السيال إلى صفحات الكتب ومنارات الجدل العلمي.

طه حسين أكمل دراسته في الأدب والفلسفة وعلم النفس والتاريخ في جامعة مونبلييه

رحلة الصراع العلمي

ارتبط اسم طه حسين بالصراع والمثابرة العلمية، وكان رسولَ التجديد والخروج من رونق الزخرفة التراثية إلى آفاق جديدة من الإبداع والسلاسة والوضوح. وصفه الأديب المصري عباس محمود العقاد الذي عاصره واشتبك معه بأنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي.

ووصفه تلميذه وصديقه الفيلسوف عبد الرحمن بدوي بقوله: إنه الناقد الذي استطاع أن يرسم للأدب طريقه الصحيح، وأن يتخذ سُلما للقيم جديدا سامقا، وأن يوجِّه الأدب والنقد في الاتجاه الأصيل الخصب الحي الذي من شأنه أن يدفع الإنتاج العربي في صدر الركب العالمي وأن يرفعه إلى المستوى الإنساني، ولهذا أصبح المُوقظ الأكبر للعقل العربي.

خاض حسين في حياته معارك كثيرة وقوية، من أبرزها معركته تحت لواء أبي العلاء المعري، حيث اتهمه مناوئون لرهين المحبسين بالزندقة.

لقد شغف طه حسين بالمعري لأنه كان يرى فيه ظلالا من شخصيته ومن نبوغه ومن ثورته ومن حرمانه، ولتقارب المشارب والمسارب الفكرية والأدبية لدى الرجلين وثورتهما على السائد، فاتُّهم بضعف العلمية والانحياز بل والزندقة فيما كتب.

“في الشعر الجاهلي” هو أحد أشهر كتب الأديب طه حسين

أزمة الشعر الجاهلي

كانت المعركة الكبرى التي خاضها طه حسين هي معركة الشعر الجاهلي التي استل فيها سيفَ النقد والتشكيك على الموروث الشعري الجاهلي، معتبرا أنه مجرد أدب منحول وأقاصيص شعرية اختلقها الرواة فيما بينهم، كما رأى أن هذا الشعر في كله أو غالبيته إنما نُظم ونُسجت عباءته عند الرواة بعد ظهور الإسلام بفترة طويلة، وليس له بالجاهلية أي نسبة ولا علاقة.

قدم طه حسين مسوغاته للتشكيك في الشعر الجاهلي ومن أبرزها:

– الوحدة اللغوية للنص الشعري الجاهلي رغم تعدد اللهجات العربية.

– الشك المنهجي القديم الذي ساور بعض الرواة القدماء.

– أن تدوين هذا الشعر وشهرته لم تبرز إلا بعد ظهور الإسلام، أي بعد موت الشعراء الجاهليين أصحاب القصائد والتراث الشعري الكبير.

وتجاوز تشكيك طه حسين إلى كثير من المسلّمات والروايات التاريخية، حتى شكك في تاريخية الأنبياء معتبرا أن وجود اسمي إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن لا يعني أنهما وقد وُجدا بالضرورة.

انتفضت مصر التقليدية ضد آراء طه حسين في كتابه، وبدأت الحرب عليه من كُتاب مختلفي المشارب والآراء، وكان النصيب الديني من هذه الحرب كبيرا، خصوصا فيما يتعلق بتشكيكه في تاريخية الأنبياء، معتبرين أن ذلك التشكيك مدخل سريع الوصول إلى التشكيك في ثوابت أخرى من الدين والشريعة.

وتمت مقاضاة الكاتب الأعمى لدى القضاء المصري الذي برّأه بعد نقاش مستفيض من تهمةِ قصدية التشكيك، معتبرا أن الأمر مجرد فرضيات في طريق البحث.

انحنى طه حسين للعاصفة، وأعاد طبع الكتاب بعد أن غيّر اسمه إلى “في الأدب الجاهلي” وحذف منه المقاطع المثيرة للجدل والمنعشة لغضب كُتب له أن لا يخبو في جهة إلا توقّد ملتهبا في أخرى.

مصر التقليدية انتفضت ضد آراء طه حسين في كتابه

في مواجهة “العابثات”

امتشق طه حسين قلمه الهجّاء الدافق ضد مسيرات ومظاهرات صاخبة قادتها دُرّية شفيق وريثة هدى شعراوي وحاملة لواء النسوية المصرية بعد رحيلها.

لجأت درية إلى طه حسين وكان حينها وزيرا للتعليم تريد منه أن يحتج على ما تراه تعسفا ضد النساء في الدستور والممارسة السياسية في مصر، فرفض الرجل رفضا باتا ليدخل في صراع مفتوح مع من سماهن العابثات.

واشتعل قلم الرجل هجوما ونقدا للنسوية الجديدة معتبرا أنها تمارس خزعبلات لا تليق بالنهوض المصري ولا بالمرحلة التاريخية من حياة مصر التي تكتب دستورها وآمالها في عهد جديد من الثورة.

أشواق الحجاز

يجزم المفكر المصري محمد عمارة بأن طه حسين ختم حياته في أحضان الإسلام والعروبة والانتماء إليهما فكرا وروحا ووجدانا بعد أن كاد ينسلخ منهما في ضوء انبهاره الصارخ بالنموذج الغربي، ويهتم عمارة بالرحلة الحجازية في خمسينيات القرن الماضي وفي السنوات الأخيرة من عمر طه حسين، مؤكدا أنها أعادت الروح الحسينية إلى قطارها الإسلامي وألهمته فرائد من مكتبته الغنية.

وتناول الدكتور عمارة في كتابه “طه حسين.. من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام”؛ مراحل التطور الفكري لطه حسين، مع التركيز على ملامح المرحلة الأخيرة من حياته.

وقسم عمارة الحياة الفكرية لطه حسين إلى أربع مراحل هي:

– البدايات الفكرية (1908-1914م)، وتنقل فيها طه حسين بين جامعات مصرية وأخرى فرنسية، وبدا خلالها مترددا بشأن الهوية الحضارية لمصر.

– ثم جاءت مرحلة الانبهار الشديد بالغرب، وفيها سعى بكل ما يملك إلى إلحاق مصر بهذا النموذج الحضاري الغربي، وفيها ظهرت كتبه التي أثارت جدلا واسعا.

– ومثّلت المرحلة الثالثة من حياة طه حسين (1932-1952) ما أطلق عليه عمارة “مرحلة الإياب التدريجي والمخاض الحافل بالتناقضات”، وهي المرحلة التي خلت فيها كتاباته من أي إساءة إلى الإسلام، مع تصاعد في النبرة الناقدة للسياسة الاستعمارية الغربية.

– واعتبر عمارة أن المرحلة الأخيرة في مسار التطور الفكري لطه حسين (1952-1960) كانت “مرحلة الإياب والانتصار الحاسم للعروبة والإسلام”، وتجسدت أهم ملامحها في تأكيد طه حسين على “حاكمية القرآن الكريم”، وانحيازه إلى العروبة التي صاغها الإسلام بعيدا عن الفرعونية التي تبناها من قبل.

ويشير إلى أن التحول الأبرز في هذه المرحلة جاء مع رحلة طه حسين إلى الحجاز عام 1955، وهي الرحلة “التي هزته من الأعماق، ومثلت قمة الإياب الروحي إلى أحضان الإسلام، وميلادا جديدا له بعد مخاض عسير”.

في يوم الأحد 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أسلم طه حسين الروح إلى بارئها
في يوم الأحد الموافق 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أسلم طه حسين الروح إلى بارئها

إرث العميد

ترك طه حسين تراثا معرفيا هائلا مثلته الكتب التي أملاها على تلامذته وزوجته سوزان، وشملت معالم متعددة من الثقافة العربية والإسلامية أدبا ونقدا وسيرة شخصية ورواية تاريخية.

ومن أشهر عناوينه: في الأدب الجاهلي، على هامش السيرة، حديث الأربعاء، الفتنة الكبرى.. عثمان، الفتنة الكبرى.. عليّ وبنوه، فصول في الأدب والنقد، مستقبل الثقافة في مصر، الشيخان، مرآة الإسلام، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، نظام الأثينيين، من آثار مصطفى عبد الرزاق، حديث المساء، غرابيل، الحياة الأدبية في جزيرة العرب، حافظ وشوقي، صوت أبي العلاء، مع أبي العلاء في سجنه، المعذبون في الأرض، الأيام.. وغيرها.

تكريم دائم وجدل مستمر

في يوم الأحد 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أسلم طه حسين الروح إلى بارئها، وألقى قلمه السيال. كانت سوزان شاهدة على فصل النهاية من حياة الراحل، وهو ما ضاعف ألمها بفراق الرفيق والحبيب الذي كان مصرا على أن تبقى مبتسمة رغم أنه لم ير تلك الابتسامة إلا بعين الضمير وشغاف القلب الشفّاف.

منذ رحيله وقبله كان طه ولا يزال محل تكريم وموضوع جدل دائم، اتُّهم بالتناقض الفكري والعملي وبالزندقة، ورفعه آخرون إلى أعلى سماوات الإبداع والتجديد، نال مناصب أكاديمية ووزارية سامية وتكريمات وأوسمة كبيرة في الداخل والخارج.

وفي مصر وخارجها لا يزال طه حسين مسافرا بين ضفاف الألم في سفينة الأيام، ولا يزال بين جفونه وَسَنٌ عميق يثير أسئلة الزمن والفكر والتاريخ كل حين.