عباس كيارستمي.. فارس الشعر الفارسي في السينما الإيرانية

“السينما تبدأ عند دي دبليو غريفيت وتنتهي عند عباس كيارستمي”

المخرج الفرنسي جون لوك غودار

في فيلمه الصادر سنة 1987 المعنون ب”أين بيت الصديق؟ where is the friend’s house” يقتبس المخرج الإيراني عباس كيارستمي (1940-2016) عنوان فيلمه من قصيدة للشاعر الإيراني سهراب سيري، أما عنوان فيلمه الصادر سنة 1999 ” the wind will carry us ستحملنا الريح” فهي كلمات من قصيدة للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد تقول فيها: “ضع يديك كذكرى حارقة في يدي العاشقتين، وشفتاك كأنهما دفء الوجود، الريح سوف تحملنا معا”.

هذا الارتباط بين الشعر والسينما في أعمال المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي ليس مجرد اختيار جمالي فقط، بل يخفي وراءه موجة سينمائية في إيران يُطلق عليها الأكاديميون “السينما الشاعرية”، حيث تتقصى هذه السينما ملامح الشعر، من حيث استخدام المجازات والاستعارات، وذلك للالتفاف على الرقابة التي تشهدها السينما الإيرانية بعد الثورة الإسلامية التي أطاحت بحكم الشاه.

“قد يكون العالم خسر برحيل كيارستمي أعظم مخرجيه”

عندما اندلعت الثورة الإيرانية سنة 1979 ظهرت معها بوادر التشدد والانغلاق، مما جعل بعض المبدعين الإيرانيين يقررون الرحيل عن البلد هربا من التضييق، لكن المخرج الإيراني عباس كيارستمي فضّل البقاء في بلده والتحايل على الرقابة، ويقول حول ذلك إنه إن رحل فسيكون كالشجرة التي تُقتلع جذورها، وإن غُرست في أرض أخرى، فلن تستطيع إنبات الثمار مرة ثانية.

قرّر كيارستمي البقاء في وطنه ليبني لنفسه ولبلده موجة جديدة في السينما الإيرانية أوصلته للعالمية، وهو ما جعل مجلة “مسرح السينما” تعلق عند وفاته “قد يكون العالم خسر برحيل كيارستمي أعظم مخرجيه”. فما الذي يجعل مخرجا قادما من العالم الثالث يصل لهذا النجاح في الغرب ويطبع اسمه في تاريخ السينما العالمية؟

وُلد كيارستمي في طهران، وبدأ مساره الفني بالرسم، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة بجامعة طهران، وتخصص في الرسم وتصميم الجرافيك، حيث عمل كرسام ومصمم كاريكاتور في مجال الإشهار، وبحلول سنة 1966 كان قد صوّر أكثر من 150 عملا إشهاريا، بعد ذلك تخصص في إعداد مقدمات الأفلام، ليكتشف بذلك عالم السينما والإخراج.

اهتم كيارستمي في حياته بعدة فنون، ومارس التصوير الفوتوغرافي وكتابة الشعر، حيث صدر له ديوان بعنوان “المشي في صحبة الريح”، وديوان بعنوان “غزليات حافظ الشيرازي برواية عباس كيارستمي”، ونجح عباس في جعل أفلامه فنا شاملا تجتمع فيها كل إبداعاته، وبذلك نجحت أفلامه في التألق عالميا، حتى وإن كانت غارقة في المحلية والمعيش اليومي للريف الإيراني.

“الرحلة تشكل جزءا من ثقافتنا الفارسية”.. سينما التصوف

يعيش أبطال أفلام كيارستمي رحلة غير مُتناهية نحو البحث عن هويتهم أو غاياتهم، ففي أفلامه تتكرر سمة الرحلة، فيصور لنا شخوصه في رحلة بحث يهيمون فيها خلف مآربهم، لكنه لا يركز على الوصول، ففي الغالب لا ينجح أبطال أفلامه في تحقيق الغاية من رحلتهم، لكن المهم في ذلك هو ما يواجهونه في مشوارهم.

ففي فيلم “أين منزل الصديق” يحاول بطل الفيلم الطفل أحمد أن يصل لمنزل صديقه في القرية المجاورة، لكي يعطيه دفتره المدرسي الذي نسيه، حتى ينقذه من عقوبة الطرد، وهكذا تنطلق رحلة الطفل في يوم ممطر للبحث عن منزل صديقه، ليكتشف في رحلته هذه قساوة العيش وقلة مبالاة الكبار.

يقول كيارستمي حول الرحلة: الرحلة تشكل جزءا من ثقافتنا الفارسية، وهي مرتبطة بالصوفية، بالنسبة لنا ليس المهم هو الهدف، لكن المهم هو الطريق للهدف.

تظهر سمة الرحلة مرة أخرى في فيلم كيارستمي “وتستمر الحياة” (And Life Goes On) الذي يُوثق لرحلة البحث والاطمئنان على بطلي فيلمه السابق “أين منزل صديقي”، بعد أن ضرب قريتهما زلزال عنيف، وكما انتهى فيلمه الأول دون أن نعرف هل وجد الطفل منزل صديقه أم لا، ينتهي الفيلم الثاني قبل أن نعرف هل نجح كيارستمي في العثور على الصبيين في أنقاض الزلزال الذي ضرب قرية كوكر.

 

“عبر أشجار الزيتون”.. قصة حب في قرية كوكر تختم الثلاثية

اتخذ المخرج عباس كيارستمي من اسم قرية كوكر اسما لثلاثيته الفيلمية “ثلاثية كوكر” (Koker Trilogy) التي تدور قصص أفلامها الثلاث في قرية كوكر في الريف الإيراني.

بالإضافة للفيلمين السابقين، يعود كيارستمي للقرية مرة أخرى في فيلمه “عبر أشجار الزيتون” (Through the Olive Trees)، ليروي قصة حب بين عامل بناء يدعى حسين وفتاة تدعى طاهرة، وتدور أحداث الفيلم وسط مشاهد تصوير فيلم “وتستمر الحياة”.

يختتم كيارستمي المشهد النهائي للثلاثية بمشهد للحبيب يعرض حبه على معشوقته، ويمران قرب شجرة في أعلى التل، تلك الشجرة التي ظهرت في الأفلام الثلاثة كرابط صامت بين الأجزاء الثلاثة، وتلخص ارتباط كيارستمي الشاعري بشجرة التل التي تظهر في صوره الفوتوغرافية وأشعاره وأفلامه، حيث يقول عنها كيارستمي: كنت أحمل في ذهني صورة تلك الشجرة، قد تجدونها في لوحاتي وصوري، كما لو كنت منجذبا لا شعوريا إلى ذلك التل، وتلك الشجرة المنعزلة.

تسلق أسوار الأحلام.. بلاغة الشعر في نصوص السينما

يتساءل عباس كيارستمي عن دور الأحلام، من أين تأتي، وما هو سبب قدرتنا على أن نحلم؟

ثم يجيب نفسه بأننا نلجأ للحلم في الوقت الذي لا نرضى فيه بظروفنا، فلا توجد أي سلطة -مهما بلغ جبروتها- قادرة على أن تسلب منا قدرتنا على الحلم، فمن خلال الخيال يمكننا أن نتسلق الأسوار المنيعة، فالأحلام هي نوافذ الحياة على حد وصفه، وأهمية السينما عنده هي أنها تشبه هذه النوافذ.

هذا الارتباط بين أحلام النوم والسينما هو ما يفسر به عباس كيارستمي بطء الإيقاع في أعماله، فهو يرى بأن الأفلام اللطيفة هي التي تسمح للمشاهدين بغفوة قصيرة في صالة العرض، لكنها تجعلك تقضي الليل كاملا تفكر فيها.

إن بطء الإيقاع وغياب الحبكة بالمفهوم السينمائي الكلاسيكي هو العنصر الذي يجعل سينما كيارستمي سينما الشعر بامتياز.

تتكرر في أفلام كيارستمي عدة بُنى سردية وإيقاعية ومجازات “تتوسل سينمائيا بآليات الشعر” على حد وصف الناقد المصري وليد الخشاب. ومن تلك البلاغات الشعرية التناص مع القصائد الشعرية، فتارة تشير عناوين أفلامه لقصائد شعرية، وتارة ينطق أبطال أفلامه بقصائد شعرية، مثل فيلم “ستحملنا الريح” الذي تتكرر فيه أبيات للشاعر عمر الخيام على لسان الشخصيات.

بالإضافة للتناص يستعمل كيارستمي في أفلامه أسلوب الإنشائية الشعرية، حيث تتعدد تأويلات وقراءات أفلامه، هذا التعدد يجعل سينما كيارستمي سينما تتأسس على الشعر، وتفتقر معانيها لتفسير قاطع، وتتحمل عدة معانٍ، مثل تعدد قراءات القصائد الشعرية.

 

مجاز السيارة في سينما كيارستمي

في فيلمه “عشرة” (Ten) الصادر سنة 2004 يُناقش عباس كيارستمي أفكاره حول السينما والسيارات، إذ يقول إن فيلم “عشرة” قد منحه الفرصة لاستعمال كاميرا ثابتة في مكان متنقل كالسيارة التي يعتبرها مكانه المفضل، حيث مقعدان مريحان وحوار حميم بين شخصين يجلسان متقاربين.

في رأي في رأيي عباس كيارستمي فالجلوس جوار بعضنا البعض، لا قبالة بعضنا، وهو ما يمنح للشخصيات فرصة التفاعل مع بعضها، كما يمنحها الفرصة لتبقى في حالها بعيدا عن تأثير التقاء العينين الذي يكون مربكا أحيانا. وللشخصيات في السيارة حرية الاختيار، فإما أن تتبادل الأنظار أو لا، وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الحوارات في الأمان الذي يوفره للطرفين معا.

تركز كاميرا كيارستمي على السيارة وتجعلها بطلا للفيلم، فكثيرا ما يستعمل السيارة كفضاء درامي مرتبط برؤيته الشاعرية للعالم، فالسيارة تمنحنا القدرة على مشاهدة العالم دون الخوض فيه وتحمله. يقول الناقد أمين صالح: السيارة في أفلام عباس كيارستمي مكان للتأمل، للرصد والملاحظة، للكلام والحوار، وللحركة أيضا.

“غريق أهدى العالم بعض فقاعات”.. إرث كيارستمي

رحل عباس كيارستمي عن العالم سنة 2016 بعد معاناة مع مرض السرطان، تاركا خلفه أعمالا سينمائية صعدت به للعالمية، وتُوّج بأرفع الجوائز السينمائية.

في فيلمه “لقطة مُقربة” (Close Up) الصادر سنة 1990، يتلاعب كيارستمي في الأجناس الفيلمية لينقل لنا قصة واقعية لمحتال عاشق للسينما أوهَم عائلة غنية بادعائه أنه المخرج الإيراني محسن مخمالبوف.

أما فيلمه “طعم الكرز” (Taste of Cherry) الذي اصطاد به السعفة الذهبية لمهرجان كان سنة 1997، فيحكي قصة السيد بادي الذي يجول بسيارته بحثا عن من يدفنه بعد انتحاره، وفي رحلته هذه يلتقي بأناس بأفكار وآراء مختلفة عن مفاهيم الحياة والموت.

مع تأزم الوضع السياسي في إيران ووصول أحمدي نجاد للسلطة، تأزمت وضعية السينما في البلد، فاضطر كيارستمي لأن يصور أفلامه في الخارج، ومنها فيلم “نسخة موثقة” (Certified Copy) الذي صوّره في إيطاليا بمشاركة النجمة الفرنسية “جوليين بينوش”، إضافة إلى فيلم “مثل شخص واقع في الحب” (Like Someone in Love) الذي صوّره في اليابان.

رحل عباس كيارستمي، لكن سينماه ستبقى شاهدة على شاعر التفّ على مقص الرقابة بكتابة أبياته بالكاميرا. يقول كيارستمي في إحدى قصائده “غريق.. في اللحظات الأخيرة من حياته أهدى العالم بضع فقاعات”.