فاطمة الركراكي.. إسدال الستارة الأخير في حياة سندريلا المسرح المغربي

هي صبية آتية من برج المحيط، غريرة بابتسامتها، صافية في طلعتها، تتهادى في مشيتها، كما يحلو للصبايا القفز على قدم واحدة في دلال، فتتحول إلى زهرة رباطية يميل معها نسيم البحر في كل الأرجاء.

بحر الصبية الفاتنة يبعث للناظرين بمشاهد طفولية شاعرية كالتي نراها في السينما، لتمتد على طول الشاطئ الطويل باتجاه الغروب، بينما الحسناء تلاطف الموج، تارة يلامس أناملها، وأخرى يتراجع مودعا نبضها فترحل معه الرمال.

إنها ابنة العاصمة الرباط التي رأت النور سنة 1941 ميلادي، تنتمي إلى أسرة محافظة، تعلمت قيم التربية ونبل الحياة من والديها اللذين سهرا على تربيتها وفق طقوس وعادات عريقة، لكن صاحبة الطلعة الصافية والابتسامة البريئة كانت تسكن دواخلها عصافير تريد الغناء خارج السرب، بحثا عن مزيد من الحرية والظلال والنجوم وضوء القمر وأريج الأزهار. إنها الفنانة والممثلة فاطمة الركراكي التي رحلت إلى دار البقاء يوم الاثنين الماضي الموافق الثاني من أغسطس/آب الجاري.

كثيرون من أقرانها في مرحلة الطفولة كانوا يلقبونها بالزهرة التي تضمّخ حديقة الحي الكبير، وحين علموا بولوجها عالم التمثيل تنبأوا لها بمستقبل فيه الكثير من الخيال والنجوم والأحلام.

راكمت فاطمة الركراكي تجربة متنوعة من الأعمال في المسرح والتلفزيون والسينما بأدائها الرائع والفريد، فشكلت بذلك حلقة قوية من حلقات الإبداع السمعي البصري في مراحله الأولى، فكانت من الرعيل الأول المؤسس، خاصة في مجال التلفزيون والسينما.

خيالات الأطفال الجامحة.. حس فني متقد في عمر الزهور

في بدايتها الأولى كانت فاطمة الركراكي مولعة بمجال التمثيل وتقليد بعض الأدوار التي كانت تعشقها، سواء سمعتها في الراديو، أو شاهدتها في التلفزيون أو السينما آنذاك، فكانت بين أقرانها تبدي استعدادا تلقائيا للقيام بحركات ومشاهد مرتجلة تكاد تكون مجرد ألعاب وخيال أطفال، لكنها كانت تنم عن حِسّ فني يحمل أريجا من عبق الخيال والإبداع والإقناع.

تربت فاطمة ذات الملامح الطفولية البريئة خلال فترة الاستعمار على أصول تقليدية سليمة، مما جعلها تدرك أن الفن الذي أحبته هو التزام أخلاقي وإنساني يحمل رسالة، فكانت تتمتع بحِسّ فكاهي رقيق، وفطرة مجبولة على صفاء السريرة وإسعاد الجمهور.

وحين سنحت لها فرصة الانضمام لفرقة “التجديد المسرحي” سنة 1957، وهي ابنة 16 سنة؛ أبانت عن حس فني متقد في الأداء، فكانت محبوبة من قبل زملائها في الفرقة، خاصة أنها كانت تمتاز بأخلاق عالية وخفة دم ومحبة للجميع.

فرقة “التجديد المسرحي”.. موهبة ناشئة بين صفوف العمالقة

خلال مرحلتها الأولى التي اعتبرتها دائما الحلقة القوية التي وثّقت رصيدها الفني والإبداعي بالفن المسرحي بشكل كبير؛ تعرفت فاطمة الركراكي عن قُرب على عدد من النجوم والوجوه الفنية آنذاك، ولعل أبرزهم الفنانة المقتدرة أمينة رشيد وخديجة جمال وحبيبة المذكوري، وكذلك الطيب العلج الذي يعتبر من رُوّاد الحركة المسرحية والشعر العامي المغربي.

كما وقفت إلى جانب العملاق العربي الدغمي ابن الرباط أيضا، فتعلمت منه كثيرا من الأسرار الفنية في مجال التشخيص، سواء في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو الإذاعة، خاصة أنه قدم أكثر من 300 تمثيلية في الإذاعة منذ الخمسينيات من القرن الماضي.

بعد انضمامها إلى فرقة “التجديد المسرحي” التي قدمت خلالها بعض الأعمال المحترمة، كان عليها لزاما أن تطور أداءها وتصقل موهبتها، فانخرطت في عدد من الورشات والتكوينات والتدريبات، حيث اجتازت مباراة نظمتها آنذاك وزارة الشباب والرياضة لاختيار أجود الممثلين والممثلات فنجحت فيها بامتياز، مما مهّد لها الطريق للانضمام لفرقة للتمثيل، حيث تفتقت موهبتها مع مسرحية “المثري النبيل” المقتبسة عن مسرحية “البورجوازي النبيل” للمسرحي الفرنسي “موليير”.

“عمايل جحا”.. بداية النجومية في عالم المسرح

خلال بداياتها المسرحية شاركت فاطمة الركراكي في مسرحية “عمايل جحا” لفرقة التمثيل المغربي، حيث التقت عددا من النجوم والمبدعين، أبرزهم الطاهر واعزيز وعبد الصمد الكنفاوي وأحمد الطيب لعلج، والخبير الفرنسي “أندري فوازان” وغيرهم.

وقد حظيت فاطمة من خلال تلك المسرحية بمشاركة قيّمة في مهرجان مسرح الأمم بالعاصمة باريس، حين كان يشرف عليه الفرنسي “أرمون جوليان”، إلى جانب مسرحية أخرى حملت عنوان “الشطاب”، فكانت الانطلاقة الحقيقية لها نحو النجومية.

تعرّف الجمهور أكثر على زهرة المسرح المغربي مع فرقة التمثيل المغربي التي أنتجت مسرحيات اجتماعية أخرى، منها “عمي الزلط” و”المعلم عزوز” و”هاملت” و”أهل الكهف”، فضلا عن المسرحيتين الكوميديتين “حادة”، و”البلغة المسحورة”، وخلال تلك الفترة جابت مع أعضاء الفرقة عدة مدن مغربية وأوروبية وعربية أيضا، عبر جولات قادتهم للقاء الجمهور، فضلا عن طرح التجربة المسرحية المغربية التي لم تكن في معزل آنذاك عن نظيرتها في الوطن العربي.

كانت مجمل تلك المسرحيات تطرح قضايا ترتبط بقيم التحرر والانعتاق من ربقة المستعمر، والسخرية من حياة الذل والقهر، إضافة إلى نقل هاجس الفرجة المغربية التي تنهل من مواضيع ساخرة وموروث شعبي خصب مليء بالأحاجي والحكم، والمأثورات والخرافات، مع فيض من الإسقاطات المقتبسة من مسرحيات عالمية.

مع هذه التجارب المسرحية التي تقتبس سحرها من إبداعات عالمية خاصة وقعها “موليير” و”صامويل بيكيت” وتوفيق الحكيم؛ استطاعت فاطمة الركراكي أن تبهرنا في ظهورها على الركح بأدائها اللافت وحيويتها ومرحها، مما جعلها تُعد من بين أبرز نجمات الحركة المسرحية في ذلك الزمان، ولم يقف تألق نجمها عند هذا الحد، بل سطع وميضها أيضا مع التحاقها بفرقة “المعمورة” الشهيرة التي اعتبرها عدد من الدارسين أول مؤسسة إبداعية مسرحية راهنت على صناعة الفرجة المسرحية بطريقة احترافية عالية.

فاطمة الركراكي رفقة الراحل الطيب الصديقي سنة 1967 في مسرحية “المصادفة”

فرقة “المعمورة”.. كوميديا في أروقة الفلسفة والفكر والتراث

حظيت فاطمة الركراكي خلال فترة انضمامها إلى فرقة “المعمورة” بلقاء كثير من روّاد ومؤسسي المسرح المغربي تشخيصا وتأليفا وإخراجا، ولعل أبرزهم محمد سعيد عفيفي وأحمد العلوي وحسن الصقلي والطيب الصديقي الذي لعبت معه دورا في مسرحية “سيدي عبد الرحمن المجذوب”، وهي فانتازيا كوميدية من التراث الشعبي.

كما عاصرت وتألقت أيضا مع الراحلة زهور المعمري وعائد موهوب والعربي اليعقوبي وسليم برادة والعربي اليعقوبي وحمادي عمور وحمادي التونسي ومحمد الكغاط وعبد الزراق حكم وصفية الزياني وغيرهم.

وشكلت مسرحية “أهل الكهف” للمصري توفيق الحكيم إحدى الأعمال التي قوّت من نجومية فاطمة، وفيها خبرت أصول التشخيص الاحترافي، لما لهذه المسرحية من قيمة فنية وجمالية وأدبية بأبعادها الواقعية والروحية، وإسقاطاتها الفلسفية والفكرية، في مجتمع عربي خارج للتوّ من براثن الاستغلال والقهر والجهل، ومتطلع لعالم أكثر حرية.

فاطمة الركراكي رفقة الإعلامي بوشعيب الدبار في إحدى المناسبات لإجراء لقاء صحفي في بيتها

فرقة “المسرح الوطني”.. تجربة جديدة في المسرح العائلي

خلال منتصف السبعينيات انفتحت فاطمة الركراكي من جديد على تجربة جديدة، وهذه المرة مع فرقة “المسرح الوطني” بمسرح محمد الخامس بالرباط، التي برعت في تقديم فيض من الأعمال المسرحية العائلية، وعرضت بالرباط وبعدد من المدن، فضلا عن بلدان أوروبية عدة ضمن جولات متعددة.

وقد سطع نجمها في هذا الإطار مع أبرز نجوم هذه الفرقة، لعل من أبرزهم مليكة العماري والكوميدي محمد الجم وعبد اللطيف الدشراوي وسعاد خويي والهاشمي بنعمر ومحمد خدي ونزهة الركراكي وعزيز موهوب وآخرين.

وإلى جانب رصيدها الثري في المجال المسرحي الذي مهّد لها الطريق للشهرة؛ فقد لعبت في الإذاعة الوطنية بتمثيليات متنوعة لا يزال يتذكرها المستمعون بكثير من التقدير والاحترام، فكان صوتها رقيقا وحنونا في المشاركات المتنوعة التي عالجت مواضيع وقضايا اجتماعية وإنسانية وتربوية وتراثية شعبية، مما جعل حواراتها وسردها الإذاعي حلقة فرجوية وتواصلية ينتظرها الجمهور خلال المساءات بشوق وشغف.

“للأزواج فقط”.. فيض الأعمال التلفزيونية الخالدة

مثل باقي فنانات عصرها من أمثال زهور المعمري وأمينة رشيد وفاطمة بنمزيان زوجة الراحل محمد حسن الجندي، وسعاد صابر وعائشة مام ماه ونعيمة المشرقي؛ فقد شاركت الراحلة في فيض من الأعمال التلفزيونية السينمائية الوطنية والدولية، منها سلسلة “من دار لدار” لمخرجها عبد الرحمن ملين، و”أرض الضوء” للمخرج الفرنسي “ستيفن كورغ”.

ومن الأعمال التي تألقت فيها في هذا السياق، نذكر فيلم “آخر طلقة” للمخرج الراحل عبد الرحمن ملين، وأت فيه بشكل لافت، وقاد مخرجه إلى تتويجه بجائزة أحسن فيلم تلفزيوني لسنة 2002.

يتذكر الجمهور أيضا الفيلم التلفزيوني “للأزواج فقط” لمخرجه حسن بنجلون سنة 2006، حيث تألقت فيه فاطمة إلى جانب آمال عيوش وسامية أقريو وسناء عكرود ومليكة العمري وفاطمة الركراكي ويونس مكري وآخرين.

وساهمت تجربتها في مجال الإذاعة مع الراحل عبد الله شقرون مؤسس المسرح الإذاعي المغرب في إنجاح هذا العمل السينمائي، خاصة أنه يعالج قضايا نساء يصارعن من أجل الحفاظ على أزواجهم، وذلك من خلال برنامج إذاعي يبحن فيه عن مكابداتهن ومشاكلهن مع أزواجهن.

“يمّا”.. توليفة تلاقح الأجيال الفنية

وقد تألقت مع نفس المخرج حسن بنجلون أيضا في الفيلم التلفزيوني الاجتماعي الدرامي “يمّا”، وذلك مع عدد من النجوم أمثال صلاح الدين بن موسى وعبد اللطيف شوقي وهند السعدي ومحمد عياد وعبد الرحيم مناري وفاتن هلال بك ومريم أجدو وحاتم إدار.

في هذا الفيلم استطاع المخرج المغربي المخضرم أن يجمع توليفة بين الممثلين الروّاد والشباب، بهدف خلق نوع من التلاقح والتفاعل بين جيلين على مستوى التشخيص، وأيضا على مستوى الترابط لترسيخ روح التواؤم الأسري الذي يجمع كبار السن بالشباب والأبناء.

كانت الراحلة بارعة الأداء في هذه الدراما التلفزيونية التخييلية التي سلطت الضوء على جانب مظلم من حياة الآباء والأمهات وهم يصارعون الوحدة القاتلة بعد سنوات من العذاب لتربية الأبناء، وقد ظفرت عن هذا الدور بجائزة أحسن دور نسائي في مهرجان مكناس للفيلم التلفزيوني خلال سنة 2013.

“من أجل لقمة عيش”.. رحلة التحليق في سماء السينما

على المستوى السينمائي كان فيلم “من أجل لقمة عيش” للمخرج العربي بناني في بداية الستينيات من الأعمال الجميلة التي استهلت بها الراحلة مسارها السينمائي الاحترافي، إلى جانب عدد من النجوم آنذاك، لعل أبرزهم الراحل حمادي عمور.

كما شاركت في بعض الأعمال الأجنبية مثل “شهر العسل بالمغرب” لمخرجه الفرنسي “ماصون جون”، و”كريستيان” لـ”غابريال أكصايل”، إضافة إلى عدد من الأفلام المغربية، لعل أبرزها “السراب” لأحمد البوعاني، وهو من بطولتها إلى جانب محمد الحبشي وعبد الله العمراني ومحمد سعيد عفيفي فضلا عن “شمس الربيع” للطيف لحلو، و”وداعا أمهات” للراحل محمد إسماعيل.

وتعاملت أيضا مع المخرج حسن بنجلون بعد أفلامها التلفزيونية، وهذه المرة في فيلم روائي طويل بعنوان “يا ريت” سنة 1993، إلى جانب عدد من النجوم، أمثال الراحل حسن الصقلي وعبد الله شكيري وسعيدة باعدي والكوميدي حسن الفد، فضلا عن ثريا العلوي وفاطمة وشاي ومصطفى منير.

جسّدت الراحلة أيضا دور الأم المُسنة بعد أن كبر الأبناء، وذلك بعد دورها المؤثر في فيلم “يما” لحسن بنجلون، لكن هذه المرة مع مخرج شاب هو رشيد الوالي في فيلم “نهار العيد”، حيث التقت مع روّاد الدراما الوطنية عائشة ماه ماه وحمادي عمور في أدوار مركبة حول وضعية الآباء المسنين مع أبنائهم.

زهرة موشومة في ذاكرة الجمهور المغربي.. شهادات الوسط الفني

نعى عدد من الممثلين الراحلة فاطمة الركراكي -التي كُرّمت في كثير من المناسبات- بشهادات وكلمات مؤثرة، حيث أجمع الجميع على لطفها الجميل وقوة شخصيتها وأدائها المتميز، مُعددين خصالها الحميدة، ودورها الرائد والمتميز في الحركة المسرحية والتلفزيونية منذ خمسينيات القرن الماضي.

كما لامسوا في شهاداتهم زهد هذه الفنانة التي لم تنل منها مغريات الحياة أو ضريبة النجومية، فعاشت على الستر والكفاف، رصيدها هو حب الجمهور وأعمالها الفنية التي قدمتها لأكثر من ستة عقود، حاملة فيها رسائل الحب وقيم النبل ومبادئ الإنسانية والحياة، وأكدوا أنها فنانة مسالمة إلى أبعد الحدود لم تركض أبدا وراء الثراء، وظلت وفية لقيمها المجتمعية والإنسانية، متواضعة وشعبية، زاهدة في مغريات الفن المخملي كما هو حال كثير من النجوم الآن.

عاشت فاطمة كريمة وبسيطة في بيتها المتواضع من غير تصنع أو تكلف، كما كانت مثالا حيا للفنانة والإنسانة التي تمد يدها بسخاء لكل المحتاجين، فضلا عن دعم وتشجيع الشباب الحالم بالنجومية في المسرح والسينمائي.

هكذا ستظل فاطمة الركراكي زهرة موشومة في ذاكرة الجمهور المغربي ببساطتها ورقتها الأنيقة، لها أريج الزهور حين يحملها النسيم من حي الحيط باتجاه دروب الفن الرفيع الذي أحبته بلا مقابل، وستظل حيّة إلى الأبد في الذاكرة الفنية المغربية، صبية محبوبة تلهو على حبال الفنون ببراعة الكبار دون كلل، وأما حنونة ناصحة لأبنائها، مبتسمة في وجه الزمان رغم مكر الأيام، ورغم الندوب والمواجع.