محمد بن إسماعيل العمراني.. قرن من العطاء في بساتين مفتي الديار اليمنية

أمين حبلّا

محمولا على الأكتاف، مسجى في ملاءة خضراء مزركشة، يشيعه عشرات الآلاف من محبيه وتلامذته وأبناء اليمن السعيد، غادر القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، الدنيا، وحل منازل الآخرة.

في الثاني عشر من يوليو/تموز 2021، انطفأت شمعة، واستند العكاز على نفسه، ووضع الشيخ نظارته على صفحات كتابه، وغادر سجادته وقلمه، ورحل محلقا في شغاف تاريخ اليمن الحديث، مرتحلا إلى الدار التي كان يلهج بها دائما في دروسه ومحاضراته التي امتدت على بساط يتجاوز سبعين سنة أو يزيد، منذ أن أبصر أضواء الحياة أول مرة في 22 ديسمبر/كانون الأول 1921 في صنعاء، إلى أن خفتت أصوات الجسم الضعيف، الذي تحمّل لنحو 100 عام عنفوان همة وقّادة وسعي حثيث بين المنابر والمحاريب.

وطوال عقود متواصلة، ظل الشيخ العمراني صوت الشريعة والحياة في اليمن، ومعلمها الأشهر، وأستاذها الذي يطمئن اليمنيون إلى علمه وورعه، وطرائفه التي تمتد مع دروسه.

 

“بلغ في المعارف إلى مكان جليل”.. ميراث العائلة العلمي

ينتسب الشيخ محمد بن إسماعيل إلى محافظة عمران (شمال صنعاء)، وحمل اسمها في نسبته، لكنه ابن صنعاء الذي عاش فيها، وفيها توفي ودفن، فهو أبو عبد الرحمن محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن علي بن حسين بن صالح بن شائع العمراني.

ينتمي الشيخ إلى أسرة علمية مرموقة، ذات تاريخ عريض في خدمة الشريعة الإسلامية، ونشر علومها المختلفة، وعرف جده محمد بن علي العمراني بأنه من أكبر علماء اليمن، وأنه كان حامل علم الإمام الشوكاني وأحد أكبر تلاميذه، بل وصفه الشيخ الشوكاني بأنه “برع في جميع العلوم الاجتهادية، وصار في عداد من يعمل بالدليل ولا يعرج على القيل والقال، وبلغ في المعارف إلى مكان جليل، وهو القوي الذهن سريع الفهم جيد الإدراك ثاقب النظر، يقل وجود نظيره في هذا العصر مع تواضع وإعراض عن الدنيا وعدم اشتغال بما يشتغل به غيره ممن هو دونه بمراحل من تحسين الهيئة وليس ما يشابه المتظاهر بالعلم، كثر الله فوائده ونفع بعلومه، وقد سمع عليّ غالب الأمهات الست وفي العضد والكشاف والمطول وحواشيها وغيرها من الكتب”.

سمي العمراني بالشوكاني الصغير نسبة إلى الإمام الشوكاني صاحب فتح القدير

 

“الشوكاني الصغير”.. ولع بإحياء تراث شيخ الديار اليمانية

لم يخف على معاصري الشيخ العمراني مدى تأثره بشيخ جده الشوكاني، حيث تجمعهما البيئة الزيدية التي عاشا فيها، ويميزهما السعي دائما وراء الدليل الشرعي، والعمل على تقوية وحدة المسلمين، وقد أولى العمراني نفسه اهتماما خاصا بالشيخ الشوكاني، فنقل جثمانه إلى مقبرة جديدة، بعد أن اندثرت المقبرة التي دفن بها، وأنقذ مدرسته العلمية من الاندثار بعد أن تعاقبت عليها صروف الزمن الدوار، وقد عرف بتدريس وإحياء تراث الشوكاني، حتى سمي “بالشوكاني الصغير”.

وتنتهي سلسلته العلمية للشيخ العمراني إلى جده علي بن حسين بن صالح بن شائع الذي تولى القضاء في صنعاء، وكان من أبرز شيوخها في صنعاء، ويمكن اعتباره الجد المؤسس للأسرة العمرانية ذات التاريخ العلمي الأصيل.

فقد الشيخ العمراني والده وهو في الرابعة من عمره، فاضطلعت أمه بتربيته، ووجهته إلى الشريعة قراءة وتربية وسلوكا، حيث ختم القرآن الكريم والمعارف الإسلامية الابتدائية في مدرسة الفليحي، ثم مدرسة الإصلاح، وكلتاهما من أشهر وأعرق مدارس صنعاء.

الجامع الكبير بصنعاء حيث تلقى الشيخ العمراني دروس العلم على علماء وقضاة صنعاء

 

الجامع الكبير.. بداية الغوص في بحار صنعاء العلمية

بعد المرحلة الابتدائية توجه محمد بن إسماعيل إلى الجامع الكبير في صنعاء، حيث كانت حلق العلم ومجالس العلماء في مختلف المعارف والمذاهب، تتبارى في نشر معين المعارف الشرعية، وبطرق تقليدية تجمع بين الحفظ الدقيق والتلقين والفهم والشرح والإيضاح، وفي تلك الحلقات المسجدية العامرة بالعلم والإيمان، درس متن الأزهار في الفقه الحنفي، ومتن الكافي في أصول الفقه، وملحة الإعراب، وألفية ابن مالك.

وقد تعدد شيوخه في تلك الحلق المسجدية التي جال فيها العمراني بين مساجد عديدة، ومن بينهم عبد الكريم بن إبراهيم الأمير، والسيد عبد الخالق الأمير، والقاضي يحيى بن محمد الأرياني، والقاضي عبد الله السرحي، والقاضي عبد الله الجرافي، والقاضي أحمد الكحلاني، والقاضي عبد الوهاب الشماحي الزيدي، والقاضي علي بن عبد الله الآنسي، ولعل كثرة شيوخه من القضاة، كان له أثر بعد ذلك في توجيه مساره العلمي والمهني، فكان بعد ذلك من أبرز قضاة اليمن، وأهم علمائها.

وقد حقق الشيخ العمراني مكانة علمية كبيرة، ونال إجازات واسعة وهو ابن خمس وعشرين من شبيبته، وكَتب له التصدير في الشريعة والتقديم في معارفها عدد من كبار علمائها، من بينهم عبد الواسع بن يحيى الواسعي، والقاضي عبد الله بن حميد، والقاضي السرحي وغيرهم من أعلام اليمن.

توفي الشيخ العمراني في يوليو 2021 عن عمر ناهز 99 عاما في مدينة صنعاء

 

“لقد كان جدك من كبار علماء صنعاء”.. قبس التحفيز

يبدو أن سعي العمراني للسير على خطى أجداده لعب دورا كبيرا في تحصيله العلمي، فقد تحدث ذات مرة عن مسيرته العلمية وكيف انقدح التوجه نحو المعارف الشرعية في ذهنه وهو في بواكير حياته، فقال: بتشجيع من كبار السن ممن كانوا يعرّفونني من القضاة والعلماء بقولهم لي “أنت ابن القاضي إسماعيل بن القاضي محمد، لقد كان جدك من كبار علماء صنعاء وكذلك جد أبيك”؛ ليحفزوني على طلب العلم واللحاق بركب العلماء.

وبهذا التشجيع تاقت نفسي للعلم، فبادرت بالدخول في مدرسة الفليحي الابتدائية وأنا في السابعة من عمري، فأخذت القرآن الكريم على الأستاذ محمد النعماني وغيره، وتعلمت -إلى جانب فن التجويد- مختصرات من العلوم ممثلة في منهج مدرسة الفليحي الابتدائية وهي: الأخلاق والنحو والخط والإنشاء والحساب والهندسة والجغرافيا والصحة، وأخذت من المدرسة شهادة في ذلك، وانتقلت بعدها إلى مدرسة الإصلاح في اليوم الذي افتتحت فيه، فأخذت فيها جميع ما تقدم ذكره من المختصرات الابتدائية، ولكنها كانت أرقى وأرفع من الأولى، وعلى رأس السنة من دخولي هذه المدرسة كان خروجي منها بشهادة أعلى من الأولى، وكانت هذه الشهادة التي حزتها مع زملائي في هذه المدرسة أول شهادات أعطيت لخريجيها، وكانت أول دفعة تخرّجت منها.

ولا يبدو أن هذا النمط من الابتدائيات يشبه ما هو سائد في التعليم العصري، ولا حتى في المعاهد الشرعية الآن، إذ تبدو الدراسة فيه مكتنزة وحافلة بمعارف شتى ومهارات علمية متنوعة.

شيخ صنعاء.. مكتبة متنقلة في صدر رجل وسطي

يُجمع كل من عرفوا الشيخ العمراني على سعة علمه واستحضاره، وعلى قوة ذاكرته التي رافقته حتى آخر أيام حياته.

ومن بين الكتب التي حفظها حفظا متقنا، أو تلك التي أخذ فيها إجازات علمية عالية: نيل الأوطار في فقه الحديث للإمام الشوكاني، وسبل السلام في شرح بلوغ المرام، وموطأ الإمام مالك بن أنس، والكشاف في تفسير القرآن للزمخشري.، وكتاب الآنسي في الفرائض وعلم المواريث، وشرح عمدة الأحكام، وشرح صحيح مسلم، وشرح سنن أبي داود، ومتن الأزهار في الفقه، ومتن الكامل في أصول الفقه، ومتن الكافية في النحو، ومتن الألفية في النحو، وشرح قطر الندى في النحو، وشرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، وغيرها من الكتب الإسلامية المتعددة التي جعلت من القاضي العمراني موسوعة علمية، ونهر معارف فياض، نهل اليمنيون من علمه أكثر من سبعين سنة.

وقد حافظ الشيخ العمراني على التقليد العلمي الأصيل، وهو نظام الإجازة، فكتب له الإجازة العالية عدد من كبار علماء اليمن، منهم على سبيل المثال محمد بن محمد زبارة الذي أجازه إجازة عامة، والعلامة عبد الله الجرافي في جميع مقروءاته، وأجازه العلامة اليمني يحيى بن عبد الرحمن الأنباري الزبيدي إجازة عامة، ونال فوق ذلك أكثر من اثنتين وعشرين إجازة علمية عامة من كبار علماء الشريعة في العالم الإسلامي.

ورغم سعة علمه ووفرة ما بذل له من جهد ووقت وعطاء، فإنه آثر تأليف القلوب وبناء المرجعيات العلمية، ومحالفة المحاريب والمنابر، ولم يترك غير مؤلفات محدودة من بينها كتابه “نظام القضاء في الإسلام”، وكتاب “مقالات القاضي العمراني” الذي جمعه أحد تلامذته.

ودع العالم الإسلامي واليمن خاصة عالمهم الكبير القاضي محمدبن إسماعيل العمراني

 

ديوان رفع المظالم.. عمر طويل من التعليم والقضاء

عايش الشيخ العمراني مختلف مراحل تاريخ اليمن الحديث، ويمكن اعتباره ذاكرة اليمن، فإلى جانب معرفته الدقيقة بالشريعة، فقد خصص أكثر وقته للتدريس، فبدأ حلقه التعليمية منذ العام 1942 م، وواصل مجلسه العلمي الذي انقطع أول مرة لمدة ست سنوات، بسبب ثورات واضطرابات اليمن بداية الستينيات، قبل أن يعود من جديد بشكل متقطع، بسبب عمله قاضيا في دوائر مختلفة من اليمن، ثم استقر بعد ذلك في جامع الزبيري في اليمن منذ العام 1983 وحتى 2011، حين أقعده المرض بعد أن أصيب بجلطة دماغية.

وقد تولى الشيخ العمراني مناصب متعددة، في القضاء، كما تولى ديوان رفع المظالم في رئاسة الجمهورية اليمنية، ولكنه رفض تولي منصب حاكم صنعاء سنة 1962، بعد أن عينه الضباط الثوار في ذلك المنصب الرفيع.

وقد كان القاضي العمراني متبحرا في مختلف المذاهب الإسلامية، وخصوصا المذاهب السائدة في اليمن، وهي الحنفية والشافعية والزيدية، إضافة إلى فقه الحديث، فكان يفتي كل سائل بناء على مذهبه الذي ينتمي إليه، وكانت كل جماعة إسلامية أو مذهبية ترى فيه أبا روحيا وعالما وموجها.

وقد درّس الشيخ العمراني في مؤسسات علمية متعددة، من بينها جامعة الإيمان التي أسسها الشيخ عبد المجيد الزنداني، وقد عرفه الطلاب يومها بالموسوعية والطرافة، حيث علق ذات مرة على سؤال أحد الطلاب عن الفرق بين الدراسة الحديثة، والدراسة التقليدية القديمة، فرد بطرافته المعهودة: نحن درسنا في الجامع، وأنتم درستم في الجامعة، وليس الذكر كالأنثى.

ورغم ما لاقى الشيخ العمراني في آخر أيامه من عنت ومضايقات من الحوثيين، فإنه رفض الإفتاء بأنهم خارجون عن الإسلام وتجب محاربتهم، كما أنه أيضا سحب توقيعه من بيان وقعه عدد من العلماء اليمنيين، مطالبين الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح بالاستقالة، وذلك ضمن مسار طويل من الحياد السياسي الذي ألزم به العمراني نفسه.

“قصص وحكايات من اليمن” أحد مؤلفات الشيخ العمراني 

 

حس الفكاهة.. طرافة الشيخ المرح التي تناقلتها الألسن

رافق الشيخ العمراني الإعلام اليمني مفتيا ومدرسا لأكثر من خمسين سنة، وبدأت حلقاته الإفتائية منذ العام 1942، وشهدت بعض الانقطاع القليل، وقد عرف طيلة هذه الفترة بانتهاج التيسير والوسطية، ولم تغب شخصيته المرحة الفكاهية عن دروسه ومحاضرته، فتناقل اليمنيون كثيرا من عباراته وتعليقاته الطريفة.

ومن قصصه الطريفة أنه سأله أحد اليمينين قائلا: لقد استأصل الأطباء رحم زوجتي، فهل يمكن أن تحمل بعد ذلك.
فقال له القاضي: كيف يمكن أن تحمل بعد استئصال رحمها؟
فأجاب السائل: بقدرة الله.
فرد عليه الشيخ: وبقدرة الله يمكن أن تحمل أنت أيضا.

وقد سجل عبد الرزاق العمراني سيرة والده في كتابه “سفينة العمراني”، وهو موسوعة حافلة بكثير مما سمعه السفير عبد الرزاق العمراني من قصص وروايات ومعارف من والده، فكان بذلك حديقة يانعة من المعارف والأحكام والقصص والطرائف، والمواقف السلوكية والتربوية.

“خسارة للساحة الفقهية والقضائية والدعوية”

برحيل الشيخ العمراني يضيف اليمن حزنا إلى لائحة أحزانه الوارفة الظلال، وقد بكى اليمنيون من مختلف أنحاء وطنهم الجريح الشيخ العمراني، وتوشحت صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالحزن، وتباروا في تعداد مآثر فقيدهم الذي طالما مثّل كهف الوسطية في بلد عاش عقودا مضطربة من التيه السياسي والتنموي، قبل أن يغرق في ترعة الدماء الملتهبة.

وكان من بين بيانات النعي التي ودعت الراحل إلى قبره بيان وزارة الأوقاف اليمنية التي اعتبرت أن رحيل العمراني “خسارة للساحة الفقهية والقضائية والدعوية”. وأن الشيخ كان “مرجعية علمية معتبرة وعلَما من الأعلام الكبار، بل كبير علماء اليمن بلا منازع، ومرجعهم عند التنازع”.

وبين تنازع اليمنيين بين جبهات ومذاهب متعددة، وحروب لا تنتهي، وصراع دول وإرادات، يبقى الشيخ العمراني أحد رموز الوسطية في اليمن، وأحد أبرز أقطاب الوحدة والإجماع في اليمن السعيد.