محمد متولي الشعراوي.. قبسات من نور إمام الدعاة وشيخ المفسرين

عبر الأثير ومن بين سواري المساجد انطلق ذلك الصوت الرباني الجهوري الذي يبدأ قويا مجلجلا تشوبه بحة وصهيل هادئ، ويتموج مثل أنسام الصباح، عندما يتمايل صاحبه طربا عند اكتشاف دقيقة مكتَنَّة أو خاطرة مُنزوية أو فكرة مشرقة في تفسير القرآن الكريم.

كان القرآن الكريم بوابة الرجل الصعيدي الأسمر إلى مراقي العلوم وكان أنيسه وسميره، وكان فوق ذلك بريده إلى قلوب ملايين المسلمين الذين خاطبهم بلغة فصيحة تارة وبعامية مصرية في أكثر أحيانه، وحلّق بهم في قمم التفسير وسار بوجدانهم بين رياض وحياض القرآن، والفهم المشرق لمعاني آيات الذكر الحكيم.

إنه الشيخ محمد متولي الشعراوي أحد أبرز وأشهر الأصوات القرآنية لمصر الكنانة، ونِيلها الرباني الثاني الذي لا يزال يتدفق علما وروحانية باهرة. تعرّض للكثير من الحملات والطعنات من خصوم متعددين ومع ذلك بقي صوته رغم رحيل روحه، يُثوّر معاني القرآن تثويرا.

خبز حافٍ ودفاتر.. ابن الصعيد الحافظ

كان صعيد مصر -وربما لا يزال- المنجم الثري الذي يتدفق على مصر بعقولها النيّرة وكفاءاتها العلمية الباهرة، فأبناء الصعيد السمر الطوال ظلوا دائما في ميدان التفوق والصرامة العلمية. إلى ذلك الجيل الصعيدي الباهر انتمى محمد متولي الشعراوي الذي صافح أنسام الحياة، وأزاهير الوجود في 15 إبريل/نيسان 1911 في قرية “دقادوس” في مركز “ميت غمر” بمحافظة الدهقلية في مصر في بيت من وسط الناس منغرس إلى الأعماق في حب مصر وقيمها الدينية والوطنية.

كان مثل غيره من الصبيان يغدو بلوح وجراب فيه خبز حاف إلى كُتّاب القرآن الكريم، ودفاتر صغيرة يكتب فيها آيات الذكر الحكيم، فيقرأ القرآن تحت ظلال الأشجار الفارعة الطول، ويروي ظمأ الجسد من قُلَّة مملوءة ماءا باردا، أما ظمأ الروح فقد كان على موعد من نهر القرآن الفياض.

أكمل الشعراوي حفظ القرآن مع بلوغ عامه الحادي عشر، وانتقل إلى الزقازيق لدراسة العلوم الشرعية، وحصل على شهادة الابتدائية في سنة واحدة، وكان ذكاء الرجل وقدرته الفائقة على حفظ المطولات من نصوص الأدب شعرا ونثرا وحكما قد حركا انتباه الأساتذة والطلاب الذين اختاروه رئيسا لاتحادهم عقب دخوله سنة 1923 للمعهد الثانوي الأزهري.

كان مع الشيخ الشعراوي في المعهد الأزهري الثانوي فسائل علمية كتب لها أن تنمو بعد ذلك وتتمدد وتمثل دوحات علم يفيء إلى ظلالها الطلاب والأدباء، ومن هؤلاء على سبيل المثال الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي والدكتور خالد محمد خالد، والدكتور حسن جاد وغيرهم من رموز مصر وألسنتها الثقافية ووجوهها العلمية الباهرة.

الشعراوي مع مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا التي كان ينتمي إليها لكنه تركها بسبب انتمائه لحزب الوفد

إلى القاهرة.. رحلة الأزهر الشريف

حصل الشعراوي على الشهادة الثانوية من المعهد، وكان بودّه أن لا يشطّ به المزار عن أرضه الخصبة المعطاء، حيث كانت رائحة الحقول تملأ وجدانه، وغرس الأرض وحصد الثمار اليانعة يأخذ جزءا من تفكيره كأي صعيدي يرى الدنيا مقسومة بين النيل والشطآن.

لكن عزيمة والده كان لها طريق آخر، وكانت مفاتيح القدر والقضاء السابق تمهّد له طريقا لزراعة أخرى وبذور أكثر خلودا ورسوخا.

ألحقه والده بالأزهر الشريف ووفر له تكاليف الإقامة والمعيشة في القاهرة، ولأنه كان مُصرّا على العودة إلى أرضه ورفاقه في قريته الصغيرة، فقد طلب من والده على سبيل التعجيز أن يشتري له أمهات الكتب من المعارف الشرعية واللغوية، فاستجاب الوالد بسرعة للطلب التعجيزي للولد الراغب في العودة إلى حضن العائلة والأرض والقرية الصغيرة.

وهنا بدأت رحلة أخرى بين الشعراوي والتراث الإسلامي ودائرة معارفه الواسعة.

شهادة العالمية.. نضال اللغوي الشاعر

يغيب عن كثير من محبي ومتابعي الشيخ الشعراوي أنه تخصص أولا في معارف اللغة العربية، منذ التحق بكليتها في العام 1937، ونهل من معارفها أيام كانت دراستها مركّزة وفعالة، وكان الشعراوي معدودا ضمن الشعراء المرموقين في جيله في مصر، وضمن علماء اللغة العربية الذين نالوا عضوية مجمع اللغة العربية في مصر.

ولكن شهرة العلم الشرعي وتفسير القرآن غلبت عليه، وغلب عليه أيضا النضال الوطني من أجل تحرير مصر من الاستعمارات المتعددة، سواء تعلق الأمر بالاحتلال الإنجليزي الذي جثم عليها لفترة طويلة، أو استعمارات فكرية وثقافية أخرى متعددة منها القادم من أعماق التاريخ ومن شعاع من السير خلف مستقبل متغرب.

بعد ثلاث سنوات أزهريات زاهرات بالتحصيل والنضال، تخرج الشيخ الشعراوي بشهادة العالمية سنة 1940 وحصل بعدها على إجازة بالخبرة والكفاءة في التدريس سنة 1943، ودخل حقل التعليم من بابه الواسع، واستمر فيه متنقلا بين معاهد علمية متعددة في القطر المصري إلى عام 1950، حيث أعير إلى السعودية مدرّسا للعقيدة الإسلامية.

 

13 عاما من العطاء.. أزمة القاهرة والرياض

أخذ الشعراوي يدرّس العقيدة بأسلوب جديد يجمع بين النظر العقلي والبيان القرآني والإشراق اللغوي، وهو ما جلب له ثناء واسعا من علماء السعودية ومن طلابه الذين تسابقوا إلى دروسه ومحاضراته ورافقوه في دروب العلم الشرعي والإشراق الإيماني.

استمرت إقامة الشعراوي بالسعودية ثلاث عشرة سنة قبل أن تتأزم العلاقة بين الرياض والقاهرة، ويأمر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بمنع الشعراوي من العمل في السعودية، ليستأثر به الأزهر مديرا لمكتب شيخه، قبل أن ييمم وجهه شطر الجزائر رئيسا للبعثة الأزهرية هناك.

بعد فترة عاد إلى بلده مديرا للأوقاف ووكيلا للأزهر، ثم ما لبثت أزمة الزعيم والملك أن انفرجت فعاد إلى السعودية مرة أخرى، وأقام فيها أستاذا ومدرسا ومحاضرا إلى منتصف السبعينيات.

صورة تجمع الشيخ الشعراوي مع الرئيس السادات الذي كان وزيرا للأوقاف في عهده

سجدة النكسة.. حرب الأزهري على الشيوعية

في نهاية العام 1976، عين الشعراوي وزيرا للأوقاف في حكومة رئيس الوزراء ممدوح سالم التي شُكلت بعد فترة وجيزة من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 (حرب العاشر من رمضان)، وبعد نحو عقد من نكسة يونيو/حزيران 1967 تلك النكسة البشعة التي سجد عندها الشعراوي شكرا لله الذي أرى المصريين أنهم لا يمكن أن ينتصروا بالشيوعية وفق تعبيره.

وقد مكث في الوزارة عامين كاملين كانا حافلين بإنجازات مهمة لصالح الإسلام والفكر الإسلامي، حيث عمل على إنشاء أول بنك إسلامي في مصر وهو بنك فيصل الإسلامي، بعد أن أقر البرلمان تفويضا بإنشاء البنك المذكور بتوقيع من وزير الأوقاف، وذلك ضمن سلسلة من الأعمال التي خلدت اسم الشيخ الشعراوي في ذاكرة الوزراء العلماء.

قدم الوزير استقالته من الحكومة بعد أن وجه الرئيس أنور السادات سبابا وكلاما نابيا للشيخ المحلاوي، فكتب إليه الشعراوي منتصرا للأزهر وشيوخه وعلمائه ومذكرا بأن الأزهر يُنبت رجالا وعزة ويخرّج علماء وعباقرة وليس “كلابا” كما وصفهم الرئيس السادات -وفقا لما ذكرته وسائل إعلامية محلية- وأرفق الرسالة بتوقيع استقالته وعاد إلى كرسيه ومنبر وعظه وتفسيره.

وأثناء عمله وزيرا عُرف الشيخ الشعراوي بالقوة والصلابة، فذات مرة طلبت منه زوجة الرئيس السادات أن يلقي محاضرة أمام اتحاد نسائي يضم نخبة سيدات مصر، فاشترط عليها أن يحضرن في “زي شرعي مقبول”.

وافقت سيدة مصر الأولى لكن الشيخ فوجئ عند جلوسه على المنصة أن من بينهن “سافرات”، فرفض إلقاء المحاضرة وخرج غاضبا، وفق ما ذكرت وسائل إعلام مصرية.

في رحاب التفسير.. “الهبات الصفائية”

مكّنت الملكة اللغوية والبيانية الواسعة والعقل التحليلي الإشراقي لدى الشيخ الشعراوي من اقتحام نموذج جديد في تفسير القرآن الكريم قائم على الاستنطاق المباشر للقرآن الكريم وتقديم معانيه وتفسيره بلغة مبسطة للعامة والخاصة على حد سواء.

تتموج حلقات التفسير عند الشيخ الشعراوي لينال منها كل طرف أو مستوى نصيبه من تفسير الذكر الحكيم، وقد حملت هذه الدروس العلمية التي استمرت لأكثر من عقدين اسم خواطر الشيخ الشعراوي، وظلت منذ انطلاقها تبث عبر عدة تلفزيونات عربية وإسلامية قبل أن يحتضنها العالم الرقمي لتأخذ قصة انتشار أخرى أوسع وأعمق.

يتحدث الشعراوي عن تجربته مع التفسير، فيقول: خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرا للقرآن، وإنما هي هبات صفائية تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات، ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره؛ لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلّغ وبه علم وعمل، وله ظهرت معجزاته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبين لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم، وهي “افعل ولا تفعل”.

الشعراوي أنقذ مقام إبراهيم حين اقترح حمايته بزجاج غير قابل للكسر وعدم نقله من مكانه الأصلي ليبقى بجانب الكعبة المشرفة

إنقاذ مقام إبراهيم من النقل.. رسالة إلى الملك

سار الشيخ الشعراوي مع حلقات التفسير دون أن يكملها حيث توقفت به الخواطر عند سورة الممتحنة بعد أن ألح المرض على الشيخ المفسر وأقعده قبل أن يسكت ذلك الصوت الصعيدي الجهوري الذي طالما صدح بأريج القرآن الفواح وحكم التفسير الأخاذة بالنفوس ومجامع القلوب.

كان الشيخ الشعراوي جار الحرم ورفيق مقام إبراهيم الذي حماه من النقل من مكانه الأصلي إلى مكان آخر من أجل توسعة الحرم، فقد كان الملك السعودي خالد بن عبد العزيز قد عقد العزم على نقل مقام إبراهيم، ووافقه على ذلك كبار علماء السعودية.

لكن الشيخ الشعراوي -كما يروي ذلك مقربوه وكما نشرته صحف مصرية- قام بخطوات سريعة للحيلولة دون ذلك؛ فقد كتب مذكرة علمية وجهها إلى الملك وبيّن فيها عدم شرعية نقل المقام من مكانه واقترح بديلا عن ذلك، حماية المقام بزجاج غير قابل للكسر وتوسيع المطاف من جوانب أخرى.

وهكذا أنقذ الشيخ الشعراوي المقام المشرف العظيم من النقل من مكانه الذي استقر به منذ عشرات القرون وكان مأوى الحجيج وزوار البيت العتيق، يتمسحون بتلك البقعة الطيبة التي مرت بها أقدام أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

العديد من الفنانين اعتزلوا الفن على يد الشيخ الشعراوي في موجة اجتاحت الوسط الفني نهاية الثمانينيات

“إمام الدعاة”.. غزو الأوساط الفنية

أخذت مواجهة العلمانية والاستشراق جزءا من اهتمامات الشيخ الشعراوي، ووجهت إليه وسائل إعلام داخل وخارج مصر انتقادات لاذعة، وتعرض لكثير من النيل والإساءة من بعض كتاب مصر العلمانيين، خصوصا بعد أن اقتحم عش الفن واستطاع التأثير على عدد كبير من الرموز الفنية، ليبدأ مفهوم التوبة والاعتزال يغزو عالم الفن الذي بلغ قمة التأثير على المجتمع المصري منذ بداية القرن المنصرم.

وحتى بعد موته لم تتوقف سهام النقد الموجهة إلى الشيخ الشعراوي، وكانت التهم تتعلق في معظمها بالتضييق والتشدد وغياب التسامح في فكر الشيخ الشعراوي وعدم تقديم شيء مفيد لنهضة مصر. وكان الجامع بين النقدين أنهما صدرا من رموز فنية وإعلامية وشخصيات لا تُحسب على الثقافة الشرعية ولا على العمق الفكري الإسلامي.

وفي مقابل هؤلاء انتصر الكثيرون للشيخ الشعراوي في حياته وبعد موته دفاعا عنه ومنافحة عن فكره وعلمه، بل أعيد في 2003 تمثيل سيرة حياته في مسلسل “إمام الدعاة” وهو مسلسل يستعرض سيرة حياة الإمام الشعراوي في مختلف محطاتها المتعددة المراحل والمجالات.

ضريح الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي توفي سنة 1998

شمعة مضيئة في ذاكرة التكريم

نال الشيخ الشعراوي في حياته أوسمة عديدة وتكريمات كثيرة، واحتفاء محليا وعالميا واسعا، فقد منحته مصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عند بلوغه سن التقاعد سنة 1976، كما نال وسام الجمهورية من الطبقة الأولى سنة 1983، واختارته رابطة العالم الإسلامي عضوا بهيئتها التأسيسية للإعجاز العلمي، وجعلته محافظة الدهقلية التي ينتمي إليها شخصية العام سنة 1989، كما اختارته جائزة دبي للقرآن الكريم شخصيتها السنوية سنة 1998.

ترك الشعراوي مكتبة علمية واسعة دارت حول القرآن ومعارفه والعقيدة والدفاع عنها، وإشراقات الروح تحت ظلال الإسلام.

وفي 17 يونيو/حزيران 1998 انطفأت شمعة الشيخ الشعراوي، وانتهت رحلته مع حياة استمرت 87 سنة، كانت منها ستون خالصة لتفسير القرآن الكريم وخدمته منذ أن حفظه غضا طريا وهو ابن إحدى عشرة سنة.

لم ينقص الموت من شهرة وخلود الشعراوي، فلا يزال صوته وذكراه مدوّيين في آفاق بلاد المسلمين، ولا يزال فكره مضيئا في دائرة السجال.