محمد هنيدي.. كومبارس صامت خطف الأضواء ثم خفت

كادت المفاجأة التي سمعها المنتج والموزع المصري محمد حسن رمزي أن تصعقه، فقد أبلغه المدير المالي لشركته أن فيلم “إسماعيلية رايح جاي” تجاوزت إيراداته خمسة ملايين جنيه، ولم يمر سوى أسبوع واحد فقط على بدء عرضه.

اتهم رمزي –العائد من سفر خارج البلاد لتوّه- المدير المالي بالسهو، وطلب منه أن يراجع الأرقام، لكن الصحف التي تراكمت على مكتبه تؤكد أن الفيلم الذي توقع ألا تتجاوز إيراداته مئة ألف جنيه مصري تحوّل إلى ظاهرة، وصدق الرجل وبدأ في دراسة التجربة للاستفادة منها، وما كاد ينتهي من دراستها بعد أسابيع قليلة حتى بلغت إيرادات الفيلم 23 مليون جنيه. كان رمزي قد قام بتأجيل عرض الفيلم أكثر من مرة، وأخيرا قرر أن يعرضه بين موسمين سينمائيين، وهو ما يعني العرض في توقيت لا يتوقع خلاله إقبال الجمهور على دور العرض.

“إسماعيلية رايح جاي”.. شهادة ميلاد هنيدي

و”إسماعيلية رايح جاي” من بطولة محمد فؤاد ومحمد هنيدي وحنان ترك وخالد النبوي وكريمة مختار وحمدي غيث وعزت أبو عوف، وسيناريو وحوار أحمد البيه، ومن إخراج كريم ضياء الدين. ويعيد الفيلم تكرار قصص أفلام عبد الحليم حافظ عن الكفاح من أجل إظهار موهبة الغناء، وذلك عبر الطالب الجاد الخجول “محمد فؤاد” المستقيم لكن الشديد الفقر والذي انسدت كل الطرق أمامه وأمام أسرته، ويحلم أن يصبح مغنيا، وأخيرًا يقدم نفسه لعزت أبو عوف (يظهر بشخصيته الحقيقية)، فينضم لفريقه الغنائي ويواصل مشوار النجاح.

قصة الحب تولتها حنان ترك كزميلة له في الفصل، أما الشرّ الذي يمثله خالد النبوي في دور الأخ الفهلوي لكن غير المحبوب نسبيا هو الذي يصنع حبكة النهاية، وذلك عندما يفرق بين أخيه وحبيبته قبل أن يعود لصوابه ويصلح ما أفسد.

والأسرة التي ينتمي إليها الأخوان (فؤاد والنبوي) مُهاجرة من الإسماعيلية بعد حرب 1967، والنهاية أن يعود البطل للغناء فيها بعد عودة الحياة الطبيعية لها بعد 1973.

الترابط الأسري ومسحة التدين تشيعان في مواقف كثيرة، لكن أغلبها يتركز في دور الأب الكهل الذي هزته محن الحياة حمدي غيث، أما الكوميديا فقد مثلها في حينها محمد هنيدي في دور صديق الأخوين الذي يصبح مدير أعمال البطل المغني.

وطبقا لحسابات الإنتاج والتوزيع فإن الأسماء الواردة على أفيش الفيلم لا يمكن أن ينفرد أي منها وحده بصورة الأفيش ويحقق نجاحا، لذلك كان يجب أن يجمع هذه الوجوه معا ليستطيع الفيلم أن يحقق الحد الأدنى من الإيرادات التي تغطي كلفة إنتاجه المنخفضة، لكن فيلم “إسماعيلية رايح جاي” لم يغط كلفة إنتاجه فقط، بل تحول إلى إشارة الانطلاق لمرحلة جديدة في السينما المصرية، وشهادة ميلاد لعدد من الممثلين الشباب الذين أصبحوا نجوما فيما بعد، وهم محمد هنيدي ومحمد فؤاد وحنان ترك وخالد النبوي.

ومن بين النجوم الذين كُتب لهم البروز في “إسماعيلية رايح جاي” الممثل محمد هنيدي الذي شارك بأدوار صغيرة في السينما والتلفزيون والمسرح بدءا من 1978، حيث قدم مشهدا صامتا مع المخرج يوسف شاهين في فيلم “إسكندرية ليه”، ثم تلاه “يوم حلو ويوم مر” مع محمد خانو، تحول بعدها من كومبارس صامت إلى متكلم، وظلّ على هذا المنوال حتى لفت الأنظار إلى خفة ظله في فيلم “بخيت وعديلة” مع عادل إمام، حيث قدم دور سائق تاكسي سيئ الحظ.

صعود إلى حين ثم بداية الأفول

كان الفيلم التالي لمحمد هنيدي بطولة مطلقة يعاونه فيها عدد من الممثلين الذين صاروا نجوما فيما بعد، وبينهم هاني رمزي وأحمد السقا والممثلات مثل منى زكي وغادة عادل، لكن هنيدي اعتمد على إيرادات الفيلم السابق، وأصبح هو نفسه مشروعا واعدا للمنتجين والموزعين، وبالفعل وصلت إيرادات فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” إلى ثلاثين مليون جنيه، فتشكلت ملامح موجة “الكوميديا الجديدة”، وبدأ كل ممثل ممن شاركوا في الفيلمين السابقين البحث عن بطولته الخاصة.

اعتمدت الموجة الشبابية على الكوميديا اللفظية، مستبعدة تماما كوميديا الموقف التي تعتمد على التناقضات المجتمعية، واكتفت بالتناقض والمفارقة اللفظية، واقتربت من القضايا بحساسية مفرطة تجاه المحرمات المجتمعية من جهة ومحرمات السلطة السياسية من جهة أخرى. واكتملت ملامح الموجة بهنيدي وعلاء ولي الدين وهاني رمزي ليصبح كل منهم رمزا للإيرادات الضخمة.

لكن هنيدي أخفق بعد “صعيدي في الجامعة الأمريكية” في الوصول إلى رقمه السابق، وانحدر بعد “همّام في أمستردام” لتصبح إيراداته أقل في “جاءنا البيان التالي”، ويبدأ في فقد رصيده الجماهيري مع “عسكر في المعسكر” و”خميس وجمعة” و”وش إجرام” وغيرهم، مع إفاقات فجائية بـ”فول الصين العظيم” و”رمضان مبروك أبو العلمين حمودة”.

وطُرحت التساؤلات عن سبب عدم احتفاظ هنيدي بنجوميته، واجتهد الجميع للبحث عن أسباب تتعلق بالسيناريو تارة، وبالجمهور وتوقيت عرض أفلامه تارة أخرى، بينما لم يسأل أحد “هل يصلح هنيدي بموهبته الكوميدية وشروطه الشكلية للنجومية؟”، ولم يسأل أحد “لماذا أصبح نجما من الأصل؟”.

تشير المقولة التأسيسية إلى أن “الفن هو الواقع تقريبا”، وتشير المقولة الثانية إلى أن “السينما هي انعكاس للواقع المجتمعي وتحولاته ومنظومة قيمه السائدة”. وإذا أردنا أن نرصد صفات النجم منذ كان رشدي أباظة بشروطه الشكلية والشخصية نجما وفتى أولا للسينما المصرية، ثم عمر الشريف ومن ثم جيل نور الشريف ومحمود ياسين ومحمود عبد العزيز ثم أحمد زكي، فإننا نلاحظ تحولات على مستوى القبول بالنجم صاحب الصفات الشكلية التي تتميز بالوسامة في البداية، ثم القبول بتخفيض هذه الصفات، وصولا إلى عدم طرح الوسامة شرطا أساسيا للنجومية.

وعبر هذه الأجيال مرّ المجتمع المصري بتحولات اجتماعية أدت إلى تحول “الذوق”، وتحولات اقتصادية أدت إلى القبول بشروط أقل للتعايش مع الحياة، كما نما الوعي المجتمعي وأصبحت الموهبة رقما أهم في معادلة النجومية، ففرض أحمد زكي نفسه، خاصة في ظلّ امتلاكه لملامح مصرية يستطيع المشاهد المصري بشكل خاص أن يتوحد معها دون انزعاج أو تردد.

وإذا كان المعروف أن قبول “الممثل” كنجم يعتمد على مدى إمكانية قبول المشاهد لفكرة التوحد معه كبطل ضمن أحداث العمل الفني وتقمصه، فإن الشروط التي تردّت حتى تصل لنجوم “موجة الكوميديا الشبابية” تكون قد وصلت إلى حالة تستحق الدراسة، خاصة أن أول شروط البطولة والنجومية جسد متناسق وملامح مقبولة، لكن نجوم الموجة تراوحوا بين قصير بشكل واضح وطويل بشكل واضح وبَدين بشكل واضح، فكيف يقبل الجمهور بمثل ذلك التوحد؟!

وتأتي الإجابة على السؤال الأخير ببساطة، لأن الكوميديا تتطلب تلك المفارقات، وهي حقيقة تنفذ إلى قلب الموقف المجتمعي الذي أفرز حالة من الضحك على الذات، ومن القبول بالكوميديا اللفظية التي لا تحيل المشاهد إلى أية مفارقة مجتمعية أو إنسانية يمكن النفاذ من خلالها لنص إنساني يستحق التفكير فيه.

هنيدي.. نجومية صنعتها تحولات مجتمعية

ويتضح أن ثمة تحولا اجتماعيا بالأساس هو السبب في نجومية هنيدي ورفاقه، وهو تحول “السنيد في السينما” إلى بطل، وفي تلك الفترة بالتحديد اقتصر الإنتاج السينمائي المصري تقريبا على أفلام الكوميديا، وبالتالي كان النجم كوميدياً، لكن الموجة انقلبت بسرعة، ورغم ذلك حاول الممثل “محمد سعد” بسلسلة “اللمبي” أن يعيد سيناريو “موجة الكوميديا الشبابية”، فلقي مصير هنيدي نظرا للتحول الاجتماعي الذي مهّد لثورة يناير.

قدم هنيدي في “إسماعيلية رايح جاي” دور صديق البطل (السنيد)، وأضفى أجواء المرح والكوميديا على الفيلم، وكانت الشخصية طبيعية تنتمي لواقعها الاجتماعي في اللحظة، رغم أن أحداث الفيلم كانت تدور في الفترة بين 1967 و1973، ورغم ذلك تم قبولها باعتبارها صورة لنماذج مجتمعية سائدة. وبالعودة إلى عام 1997 فإن تلك المرحلة في التاريخ الاجتماعي لمصر شهدت انسداد الأفق الاقتصادي والسياسي، وانعدام الأمل في مستقبل أفضل، وذلك بعد سيادة قيم الوساطة والمحسوبية وتوقف التوظيف، إضافة إلى تدني المرتبات ووصول نسبة كبيرة من الشباب إلى حالة من اليأس والاستسلام في انتظار معجزة، وساند “هنيدي” صديقه ثم استند عليه وعمل مديرا لأعماله، ومنح الدور بعض الأمل في حدوث المعجزة بالتحقق وبعض الضحك.

أما في “صعيدي في الجامعة الأمريكية” فقد وجد المشاهد نفسه أمام شخصية فلاح ذكي ومتفوق دراسيا، لكنه ساذج وعديم الخبرة في الحياة، حيث يُصدم بمجتمع الجامعة الأمريكية فيحاول أن يتكيّف محتفظا بقيمه القادمة معه من الريف المصري، وينجح بعد صدمات ومعاناة ومواجهة لنموذج “متأمرك” قام بدوره هاني رمزي، وآخر منسحق قام بدوره “أحمد السقا”.

ينتقل “هنيدي” في فيلمه “همام في أمستردام” إلى مرحلة جديدة واختيارات فنية مغايرة، إذ يقرر الهجرة بحثا عن النجاح، وذلك بعد أن جرّب المحاولة اليائسة داخل مصر في “إسماعيلية رايح جاي”، ثم نجح في الدراسة بالجامعة الأمريكية في “صعيدي”، ويسافر في فيلمه الجديد إلى “أمستردام” بحثا عن مستقبل آخر، وذلك بعد أن فشل في توفير الحد الأدنى لمتطلبات الحياة في مصر، وهناك يواجه العنصرية والشقاء، لكنه يجتهد ويحقق طموحه بامتلاك مطعم خارج الوطن.

وفي “جاءنا البيان التالي” يقدم دور إعلامي يتحرى الصدق والموضوعية في عمله، لكنه يطارَد من قبل إعلامي آخر فاسد، ويحاول الأخير قتله للتغطية على جريمة فساد كبرى.

وينتقل هنيدي في “بلية ودماغه العالية” إلى أطفال الشوارع والمشردين، محاولا تبني أزمتهم ومعالجتها بشكل ساذج بدلا من تناول ناضج يورط المجتمع في علاج الظاهرة، وكانت سذاجة السيناريو وسطحية الفكرة والمعالجة غير المنطقية كفيلة بسقوط الفيلم.

وتبعه “عسكر في المعسكر” الذي لقي المصير نفسه، وذلك بعد أن انتقل للصعيد ليُجنّد في الخدمة العسكرية، ويصبح زميلا لمجند يقوم هو وزميله بحماية بعضهما في المعسكر، بينما يحمل أحدهما للآخر وعدا بالثأر، ويحاول “هنيدي” إنقاذ النجم والممثل الذي لم يعد يحقق التوقعات، فيلجأ للمخرج الكبير شريف عرفة الذي قدم معه فيلم “فول الصين العظيم”، ليقدم شخصية شاب مصري يسافر إلى الصين ليحقق أحلامه.

هنيدي.. محاولات استعادة النجومية

وهكذا يدور هنيدي في سلسلة أفلامه “الناجح” منها و”الفاشل” حول “كراكتر واحد” (شخصية واحدة)، يسافر للخارج مرات ويبقى في الداخل مرات، لكنه في كل الأحوال يقدم في البداية ذلك الشاب المنسحق القادم من قاع المجتمع المصري ليبحث عن التحقق.

ولم يحاول هنيدي أن يخاطر بإظهار جوانب خفية في موهبته عبر أدوار مختلفة، والأزمة أن أداءه “كإعلامي” لم يختلف كثيرا عن أدائه كصعيدي ساذج، أو مجند يهرب من مطاردات صديقه الذي يرغب بقتله ثأرا، ولعل اختيارات هنيدي قد تعاونت مع التحول الاجتماعي العكسي الذي حدث في الإطاحة بتلك النجومية الخاطفة فأعادته إلى حجمه الفني باعتباره كوميدياً أو سنيداً.

ويبدو هنيدي وكأنه استنفد كل الحيل التي حاول بها استعادة نجوميته التي انطلقت بعد النجاح المفاجئ لفيلم “إسماعيلية رايح جاي” ثم “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، وخاصة بعدما أعلن عن تقديم جزء ثان من فيلمه الناجح “صعيدي في الجامعة الأمريكية” واستعداده لعرض مسرحي.

ويحاول هنيدي استعادة لحظة نجاحه في ذاكرة جمهور لم يشهد هذا النجاح من الأصل، بل قد يكون أغلب جمهور السينما الحالية وُلد بعد عرض “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، والذي كان ذروة نجومية لم تتكرر، وجاءت التجارب التالية بمثابة درجات سُلم ينزل بصاحبه من أدوار النجومية العليا إلى الدور الأرضي، لولا استحالة تقديمه لأدوار الكومبارس الصامت والمشهد الواحد في الأفلام كما بدأ مشواره قبل 35 عاما.