نجيب عياد.. عاش بالسينما وعاشت به

محمد علال

ترتسم اليوم دمعة وابتسامة على فعاليات مهرجان “أيام قرطاج السينمائية”، إنها حالة من الحزن في الساحة الثقافية التونسية الممزوجة بمشاعر الوفاء، كما يوحي ملصق الدورة الثلاثين للمهرجان التي جاءت هذه السنة تحمل صورة مديرها المنتج التونسي الراحل نجيب عياد.

غيّب الموت نجيب عياد بتاريخ 16 أغسطس/آب 2019 عن عمر ناهز الـ66 عاما، وقد‎ ترك خلفه تلك اللحظات التي تقفز إلى ذهن كل من يمر الآن على باب فندق “أفريقيا” وسط العاصمة التونسية، كما ترك خلفه جيشا من الشباب التونسي يعملون بكل وفاء لإنجاح فعاليات الدورة، تماما كما سطّر خطوطها العريضة قبل نحو ثلاثة أشهر فقط، حيث كان مبرمَجا أن يلقي كلمة الافتتاح، لكنه عاد كذكرى مُكرما في الأيام التي تحبه ويحبها، فمن هو نجيب عياد الذي أحبته تونس؟

بفضل "أيام قرطاج السينمائية"، يتحول شارع الحبيب بورقيبة إلى محطة هامة ينزل فيها قرابة مليوني شخص لمدة أسبوع
بفضل “أيام قرطاج السينمائية”، يتحول شارع الحبيب بورقيبة إلى محطة هامة ينزل فيها قرابة مليوني شخص لمدة أسبوع

يملأ الأجواء بهجة

بفضل “أيام قرطاج السينمائية”، يتحول شارع الحبيب بورقيبة إلى محطة هامة ينزل فيها قرابة مليوني شخص لمدة أسبوع، يتجولون بين قاعات السينما الثماني التي تنعم بها تونس وفق البرنامج الذي سطره نجيب عياد قبل رحيله، في وقت لم يكن أحد يتوقع أن يرحل ويصبح جزءا من قائمة المكرمين عن استحقاق وجدارة، وأن يتم نشر صوره على امتداد شارع الحبيب بورقيبة.

في أقل من عامين، تحول نجيب عيّاد إلى حلقة هامة في تنظيم المهرجان، ففي عام 2017 استقبل السينمائيون التونسيون خبر تعيينه مديرا لأيام قرطاج بكثير من البهجة والتفاؤل، فالراحل حائز على درجة الماجستير في الأدب الفرنسي، وعمل في بداية مشواره ناقدا سينمائيا في صحيفة “الوقت” بين عامي 1975 و1977، ثم رئيسا للقسم الثقافي في صحيفة “الحقيقة” لثماني سنوات من عام 1978 إلى عام 1980، وبين عامي 1973 و1979 كان أمينًا عامًا ثم رئيسًا للاتحاد التونسي لأندية السينما، ثم مديرا للشركة التونسية للإنتاج والتوسع التي ساهمت في إنتاج العديد من الأفلام التونسية.

تولى نجيب عياد إدارة المهرجان وفق عقد مدته سنتان، غير أن بصمته الناجحة جعلت وزارة الثقافة التونسية تطلب منه الاستمرار لسنة ثالثة، وقد وافق على ذلك بشرط أن تكون آخر سنة له مع المهرجان مديرا، وكأنه كان يشعر بموعد رحيله وهو يقول “هذه الدورة الأخيرة لي مع مهرجان أيام قرطاج”، ليرحل إثر أزمة قلبية وقد سطر تقريبا كل شيء في الدورة التي انطلقت بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

نجيب عياد في ذاكرة السينما التونسية هو أكبر من كل المناصب التي تقلدها
نجيب عياد في ذاكرة السينما التونسية هو أكبر من كل المناصب التي تقلدها

راعي المواهب

نجيب عياد في ذاكرة السينما التونسية هو أكبر من كل المناصب التي تقلدها، يُنظر إليه دائما على أنه المنتج السينمائي الذي ارتبط اسمه بدعم المواهب الشابة منذ أن قام بتأسيس “شركة الضفاف للإنتاج” عام 1998 ونجح من خلالها في إنتاج العديد من الأفلام التونسية الهامة، لعل أبرزها فيلم “أوديسة” عام 2003 للمخرج إبراهيم باباي، و”ملائكة الشيطان” عام 2007 للمخرج أحمد بولان، و”مملكة النمل” عام 2012 للمخرج الراحل شوقي الماجري، و”الحي يروح” عام 2013 للمخرج أمين بوخريص.

وفي الدراما كان لنجيب عياد بصمة أكثر تميزا حيث أشرف على إنتاج أشهر الأعمال التلفزيونية التونسية على غرار “فلاش باك” بجزأيه عامي 2016 و2017، و”ناعورة الهواء” و”يا زهرة في خيالي” و”قمرة سيدي محروس” و”الريحانة”.

في أقل من عامين، تحول نجيب عيّاد إلى حلقة هامة في تنظيم المهرجان
في أقل من عامين، تحول نجيب عيّاد إلى حلقة هامة في تنظيم المهرجان

مهرجان في كل عام

توليه منصب مدير أيام قرطاج السينمائية خلفا للمخرج إبراهيم لطيف؛ رافقه قرار تنظيم دورة المهرجان بشكل سنوي، وهي خطوة هامة في تاريخ المهرجان الذي يتصدر قائمة المهرجانات العربية من ناحية عدد الجمهور، وكان هاجسه دائما العودة إلى ثوب المهرجان كالبعد العربي الأفريقي والبعد الخاص بثلاثي القارات بين أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

حاول المنتج إعادة المهرجان إلى السكة الصحيحة بعدما ابتعد عنها سنوات، فقد كان من المهم بالنسبة لنجيب عياد أن يعود المهرجان إلى عهده وقد بلغ من العمر 53 سنة وتعاقبت على إدارته العديد من الوجوه السينمائية التونسية، بداية من الناقد الطاهر شريعة الذي أسس المهرجان عام 1966 حين كان رئيس جمعية نوادي السينما التي كانت عصب نوادي السينما بالجامعة التونسية.

خطوات أولى نحو الفن السابع

في الوقت الذي كان فيه الطاهر شريعة يرسم خارطة تأسيس مهرجان قرطاج كان نجيب عياد طفلا يبلغ من العمر 14 عاما، ولم تأت الفرصة لابن حي قصر هلال بتونس ليشارك في فعاليات المهرجان إلا بحلول عام 1970، ومنذ ذلك التاريخ حرص الراحل على حضور أكبر عدد ممكن من دورات المهرجان، وقد نشأت علاقة قوية بينه وبين هذا الحدث السينمائي وبين الجمهور الذي يعتبر أهم عامل في نجاح “أيام قرطاج” كما يقول نجيب عياد في آخر حواراته الصحافية “الجمهور هو عصب مهرجان قرطاج، ويجب أن نفكر دائما فيه عبر توفير أحسن الظروف له من أجل دخول القاعات”.

كما تعكس طريقة تسيير نجيب عياد للمهرجان عقلية المنتج المثابر الذي يعرف أهمية التخطيط عن طريق التكوين، وهو ما نلمسه من خلال حرصه على نجاح برنامج “قرطاج المحترفين” الذي يضم خمسة أقسام هي: “شبكة للإنتاج المشترك” و”تكميل” و”الندوة الدولية” و”حوارات قرطاج” و”الماستر كلاس” والفكرة الجديدة الخاصة بـ”الواقع الافتراضي”.

ضد مقص الرقيب

في مساره منتجا وناقدا خاض نجيب عياد معارك عدة ضد البيروقرطية ومقص الرقيب تحديدا اللتين كان يلقبهما بشرطة وزارة الثقافة، فقد حاول نجيب عياد تحرير السينما فراهن على الإنتاج الخاص، ودعم نوادي السينما في السبعينيات.

كما يذكر الشاعر التونسي المنصف المزغني الخطوات الأولى لنجيب عياد عندما كان شابا يتردد على نوادي السينما في تونس قائلا: أتذكر إقامته لأعراس سينمائية في صيف قليبية، وقدرته على التفاوض مع “شرطة وزارة الثقافة”، فقد كانت لدى نجيب عياد موهبة التسيير الإداري، وإدارة الأعمال التي مكّنت جيلا كاملا من السينمائيين من البروز.

سينما نجيب عياد في عيون النقاد هي سينما الشباب والحرية والهوية التونسية
سينما نجيب عياد في عيون النقاد هي سينما الشباب والحرية والهوية التونسية

سينما الشباب والحرية والهوية

سينما نجيب عياد في عيون النقاد هي سينما الشباب والحرية والهوية التونسية، كما قال نائب رئيس جمعية المخرجين التونسيين الحبيب المستيري في تصريح لقناة “الغد” حيث يقول “السينما بالنسبة لنجيب عياد هي تونس واستعادة الهوية والتعبير عن ثقافة شعبها، إنه يعطي مجالا لحرية التعبير والإحساس، ويوفر مناخ الإبداعات لجميع من يعمل معه على اختلافهم”، فلقد قام نجيب بدعم العديد من الأفلام دون أن يضع اسم شركته في الجنريك، والأفلام التي أنتجها ودعمها على هذا النحو تتجاوز مئة فيلم تونسي.

لقد آمن نجيب بالاستثمار الثقافي وحارب الرقابة، فهو عندما يتحدث عن السينما التونسية يشدد على أهمية الإنتاج، وفي آخر حواراته الإعلامية التي أجراها على هامش مشاركته في فعاليات دورة مهرجان كان السينمائي ركز على ذلك قائلا: أهم شيء في العمل السينمائي هو الجودة، الموهبة وحدها لا تكفي بل نحتاج إلى التكوين، والسينما تعيش في كنف الإنتاج والدعم ومن أشد أعدائها الرقابة.

وكثيرا ما كان نجيب يردد هذه القاعدة كما نجده يتحدث بنفس الحرقة في حوار أجراه عام 2018 مع إذاعة “موزاييك أف أم” التونسية قائلا: لا يجب منع الأفلام، أنا ضد الرقابة، ولكن يجب إعلام الجمهور بمحتوى الفيلم وفق التصنيفات.

أحلام كبيرة

أمر آخر مهم آمن به نجيب عياد كمنتج وهو دعم السينمائيين العرب في الخارج، أولئك الذين اضطرتهم الظروف للهجرة، كما هو شأن فيلم “ظل الأرض” للمخرج التونسي المغترب الطيب الوحيشي الذي أنتجه عام 1982، وتجارب مختلفة مع مخرجين تونسيين مغتربين منهم المخرج التونسي عبد اللطيف كشيش وشوقي الماجري، فقد أنتج نجيب لهذا الأخير آخر أعماله السينمائية “مملكة النمل” عام 2012.

كما اهتم نجيب عياد بأبناء الجيل الرابع وما بعد الرابع للمهاجرين التونسيين وأولئك الذين ابتعدوا قليلا عن الهوية التونسية ولم يعد لديهم فرص للتواصل مع بلد أجدادهم وحتى من ناحية الوثائق لا يملكون جنسية تونسية.

ويبقى الحلم

رحل نجيب عياد قبل أن يحقق الكثير من أحلامه، خاصة تلك التي تحاول الوقوف في وجه العزلة التي تفرضها اليوم تقنيات العرض الجديدة على قاعات السينما وتحديدا “نتفليكس” التي تحولت إلى العدو الأول لقاعات السينما.

وهناك أمر آخر ظل نجيب عياد يحلم به وهو أن تحافظ السينما التونسية على صدارتها أمام الأفلام الأجنبية في قاعات السينما بتونس، حيث تشير الأرقام إلى أن أقل فيلم تونسي اليوم يحقق أرباحا تتجاوز أضعاف مداخيل أي فيلم أمريكي يُعرض في قاعات السينما التونسية خلال السنة.