الشيخ البهتيمي.. صوت من السماء يمثل جمالية القرآن

 

قبل حوالي أربعة عقود عندما كانت تتكرر على مسامعنا أسماء وأصوات القرّاء الكبار من أمثال الشيخ محمد رفعت وأبو العينين شعيشع ومصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوي ومحمد عبد الباسط عبد الصمد، لم يكن اسم الشيخ كامل يوسف البهتيمي (1922-1969) يتردد بين هذه الأسماء، ليس بسبب قلة في الموهبة أو تعذر في القراءة تمنحه رتبة ما بين هؤلاء الكبار، بل لأن عمره القصير حجب عنه شهرتهم.

وحسنا فعلت قناة الجزيرة الوثائقية، بأن بدأت منذ أول أيام شهر رمضان تقديم “إضاءات” عن هذه الأصوات القادمة من السماء، وكل إضاءة تقع في عشر دقائق تقريبا، وهي وإن لم تكن كافية، فإنها ترفع بعض الظلم الذي لحق بالبعض، كما هو حال الشيخ البهتيمي.

وهي بذلك إنما تبلي حسنا، لأنها تقدم للمشاهد العربي وغير العربي أصواتا لم تكن معروفة كثيرا في عالم القرآن، وبدأت من خلال حلقات متتالية بتعريف المشرقيين بقرّاء مغاربة كبار ما زالوا أحياء مثل الشيخ محمد الترابي الذي جمع بين عذوبة وحلاوة أسلوب المشارقة في القراءة، وحسن السبك ودقة اللفظ في أسلوب المغاربة.

“الرجل الذي يمثل بحد ذاته شيئا من جمال القرآن”

يقولون إنه كان له من اسمه النصيب الأوفر، وقد استطاع أن يأخذ من محمد سلامة ومحمد رفعت الحسنيين، ويأتي بهما على حنجرته الجميلة، ثم يأتي بجواب الجواب. يقول عبد المنعم رضوان جامع تراث البهتيمي: حينما يقرأ الشيخ يوسف كامل البهتيمي يغلق الشارع تماما من جميع أدوات المواصلات.

وقد تحدثت الباحثة المتخصصة في التلاوات القرآنية “كريستينا نيلسون” عنه قائلة: هذا الرجل الذي يمثل بحد ذاته شيئا من جمال القرآن وإبهاره، كان بوسعه أن يأخذ الجمهور، ويرفعه لينتظر تتمة ما سيقرأ، ثم يعود به إلى البداية.

كان الشيخ البهتيمي متميزا في أدائه، فحتى لو قرأ خمس دقائق، فإن صوته يجيء متين القرار ورفيع الجواب. تقول عنه د. هدى طعيمة: صوته يصنف بحسب التصنيف العلمي الموسيقي من فئة باريتون متوسط الحدة، لا هو بحاد ولا بغليظ، وكان بوسعه أن يقرأ آية كاملة من دون أي إجهاد، لأنه استطاع بالفطرة اختيار المقامات المناسبة ليتنقل بينها بصوته، وكأنه يعمل سياحة، ثم يرجع للمقام الأصلي حتى يقفل من خلاله على ما يريد.

“من بداية التلاوة تقف عند بوابة الجنة”

يقول محمود خليل مدير برامج علوم القرآن بإذاعة القرآن الكريم متحدثا عن الشيخ البهتيمي: لم يدرس في معهد قراءات، ولم يدرس دراسة نظامية، بل اكتفى بالتلقي على شيخيه الأثيرين الحبيبين الشيخ علي محمود والشيخ محمد الصيفي، فأُشرب عالم التلاوة شربا.

هناك أمر مختلف متعلق بالشيخ البهتيمي وبطبيعة تجربته، فهذه العذوبة في الصوت التي كانت تخلي الشوارع لحظة ذيوعها بين الناس “تجعلك بعد دقيقتين من بداية التلاوة تقف عند بوابة الجنة”.

تقول د. هدى طعيمة الأستاذة بكلية التربية الموسيقية معلقة: تأثر البهتيمي بالشيخين مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت، لكنه اختط لنفسه خطا منفصلا امتاز به عن بقية أقرانه، فالتمييز السمعي الموسيقي كان ممتازا عنده، وكان تركيزه دائما يتجلى في النغمات والقرارات والأجوبة، مما جعل صوته مريحا لسامعيه.

سياحة المقامات.. سفير فوق العادة في عالم التلاوة والإنشاد

كان الشيخ البهتيمي من القلائل الذين جمعوا بين تلاوة القرآن وإنشاد القصائد والتواشيح، ويقول محمود خليل مدير برامج علوم القرآن متحدثا عنه: كان سفيرا جيدا في عالم التلاوة، وسفيرا فوق العادة في عالم الإنشاد. الدنيا كلها تردد معه:

بذكر مُحمدٍ تَحيى القُلوبُ
وتُغتَفرُ الخَطايا والذُّنُوبُ

وربما لهذا أجمع الكل من حوله على أنه كان شهابا مرّ في عمر قصير، وكأن الله ادخر حياته ليزداد الناس إليه شوقا.

أصيب البهتيمي بفالج عام 1967 وعولج منه، إلا أن موهبته جنت عليه على ما يبدو، فبسبب المسلك العاطفي المتوهج الذي ميز سيرة حياته وتجربته، أصيب بسكتة دماغية كانت السبب الرئيس في وفاته عام 1969، كما هو حال أصحاب المواهب الكبيرة والفريدة.

يذكر أن الشيخ القارئ البهتيمي استطاع بموهبته دخول الإذاعة المصرية وهو ابن 17 عاما، وسرعان ما استضافته إذاعة الشرق الأدنى في فلسطين، والإذاعة السورية، لكن معظم تراثه ضاع وتبدد لأسباب مختلفة، وهو مع ما خلفه ظل يجمع في صوته العذب بين دقة الشيخ محمد خليل الحصري، وجلال وربانية قيثارة السماء محمد رفعت، وعذوبة وكمال الشيخ محمد صديق المنشاوي.

تراث البهتيمي.. صوت من السماء يواجه الضياع

تقول د. هدى طعيمة الأستاذة بكلية التربية الموسيقية: ترك ثروة كبيرة من التسجيلات، رغم أنه عاش فترة قصيرة، فقد ولد عام 1922 وتوفي عام 1969، أي أنه عاش 47 سنة فحسب.

وقد حافظ المخرج علاء المسعودي في إخراجه لهذه الإضاءة من “أصوات من السماء” على كُنه الحالة العاطفية والنفسية التي ميزت تجربة هذا القارئ الكبير الذي لم تطبق شهرته الآفاق، ولكنها لم تمنع تصنيفه بينهم.

وهو قد اختار أسلوبا مبسطا في محاكاة عوالمه بالاستناد إلى صوت شكّل هبة ربانية في عالم تلاوة القرآن، وظل حتى قبل وفاته بعامين يساور صوته بهذا المسلك العاطفي الذي ميز تجربته القصيرة، وهذا شكل سببا إضافيا -ربما- للعودة نحو عوالمه للتأكيد عليها، والبحث في بعض ما تبدد من صوته.

وربما تشكل هذه الإضاءة دعوة للعمل على جمع ما أمكن من تراث هذا الصوت الرباني العذب، فهو موزع في أمكنة عدة، ولا يفصلنا عن رحيله سوى أربعة عقود، وكأنه مقيم بيننا لم يغادر البتة، باعتباره موهبة كبيرة في عالم الأصوات القادمة من السماء.


إعلان