“سيرغي أيزنشتاين”.. شكسبير السينما الذي أعاد تشريح الفن السابع
ربما لا يوجد في تاريخ الفن السينمائي كله سينمائيٌّ له شهرة ومكانة الروسي “سيرغي أيزنشتاين” (1898- 1948)، فهو لم يكن مجرد مخرج سينمائي، بل كان أيضا أستاذا ومنظرا ومفكرا سينمائيا كبيرا، وقد ساهم في إرساء وتطوير فن السينما، وأثار بأفلامه ونظرياته وكتبه وأبحاثه وتجاربه السينمائية جدلا عميقا حول علاقة السينما بالفكر الإنساني، وعلاقتها بالفنون الأخرى، كما طرح كثيرا من التساؤلات حول جمالياتها وخصائصها المميزة ووظيفتها، وهو جدل لا يزال قائما حتى اليوم.
يجمع معظم النقاد والمشتغلين بالبحث في الجوانب النظرية المتعلقة بفن السينما، على أن “أيزنشتاين” هو أعظم وأهم السينمائيين في تاريخ السينما، رغم أنه لم يقدم عمليا سوى تسعة أفلام، غير أن فيلما واحدا منها هو فيلم “المدرعة بوتمكين” (Battleship Potemkin) الذي أخرجه عام 1925 يعتبر نموذجا للكمال الفني النادر.
وهو لا يزال يلهم آلاف السينمائيين في العالم بأسلوبه الخاص المميز في التصوير والمونتاج، وقدرته على تكثيف الجماليات الجديدة التي ولدت مع التغييرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها روسيا في مطلع القرن العشرين.
“شكسبير السينما”.. مقاتل الجيش الأحمر الذي قلب التاريخ
في وصفه لـ”أيزنشتاين”، يقول الباحث البريطاني “ريتشارد تايلور”: إذا كان هناك أحد يستحق أن يوصف بأنه “شكسبير السينما” فمن الواجب أن يكون “سيرغي أيزنشتاين”. إن مكانته ودوره في تطوير السينما كشكل فني، تشبه من جوانب عدة، تجربة شكسبير في تطوير الدراما الحديثة.
ولكن على العكس من “شكسبير” كان “أيزنشتاين” أكثر من مجرد ممارس رائد لفنه، بل كان أيضا المنظر الأساسي له، ولذلك لم يكن فقط “شكسبير السينما”، بل كان أيضا “ستانسلافسكي” و”بريخت”، وربما أيضا “ميرهولد” على نحو ما.
ولد “سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين” في 23 فبراير 1898 في مدينة ريج بمقاطعة لاتفيا، وكان ينتمي إلى أسرة ميسورة الحال، وقبل أن يبلغ عامه العاشر أصبح يجيد اللغة الروسية والألمانية والإنجليزية والفرنسية، واتجه إلى الرسم، ثم درس الهندسة نزولا عند رغبة والديه. ومع اندلاع الثورة البلشفية في روسيا هجر الهندسة وعمل رساما بإحدى الصحف قبل أن يلتحق بالجيش الأحمر، في حين كان والده يقاتل في صفوف الجيش “الأبيض” قوات الثورة المضادة.

بعد أن ترك “أيزنشتاين” الخدمة في الجيش أسس فرقة مسرحية وبدأ في إخراج المسرحيات. وشارك أيضا في تصميم قطارات الدعاية الشهيرة للثورة، كما عمل لفترة مصمما للديكور المسرحي. وقد انحاز في تجاربه المسرحية إلى جانب الاتجاه الطليعي الذي كان يرفض مفهوم الواقعية التقليدية، في وقت كان الصراع فيه قد بلغ أشده بين أنصار الواقعية من جهة، وأعضاء فرقة المسرح الطليعي بموسكو من جهة أخرى.
تفكيك اللقطة لأجل سيمفونية الفيلم.. ثورة طلائعية
في ذلك الوقت تبنى أعضاء المسرح الطليعي النظرية التركيبية، وكانت ترى ضرورة تقديم تفتيت جوانب العمل المسرحي إلى قطع صغيرة يمكن ضم بعضها إلى بعض، حسب رغبة المخرج ورؤيته وتصوراته عن العمل.
وفي السينما أدرك “أيزنشتاين” أن الوحدة الأولية للفيلم -وهي اللقطة- لا تختلف عن درجة اللون أو الصوت في أهميتها، فهي تستولي مباشرة على عقل المتفرج وذهنه وحواسه، وكان يرى ضرورة أن يمنح المخرج السينمائي نفس القوة التي يتمتع بها الرسام أو المؤلف الموسيقي، كما رأى ضرورة “تحييد” اللقطات، أي جعلها عناصر شكلية أولية يمكن أن يقوم السينمائي بتوليفها معا في النظام أو النسق الذي يريده حسب ما يناسب موضوع الفيلم، وحسب المعنى المراد توصيله للمشاهدين.
في كتاباته الأولى يرى “أيزنشتاين” أن كل لقطة تحدث تأثيرا نفسيا معينا يمكنه أن يتوحد مع ما ينتج عن اللقطات الأخرى المجاورة، لكي يبنى الفيلم من هذه الوحدات النفسية التأثير. ثم اهتم “أيزنشتاين” بعد ذلك، بقدرة العناصر الأخرى الموجودة داخل اللقطة وما يمكنها أن تولده من مشاعر متناقضة.
وبشكل عام أدرك “أيزنشتاين” أن الفيلم لا يوجد كفن إلا إذا صار “حزما” من الجاذبيات، تماما مثل النغمات الموسيقية التي يمكن أن تشكل إيقاعا معينا من نسيج ثري من التجارب الكاملة. ولم يعتبر أن مجرد تسجيل الحياة هو من وظيفة الفيلم السينمائي، ولكنه كان على قناعة بضرورة تدخل السينمائي في الصورة لأحداث تأثيرات جمالية من عنده.
وبشكل عام أدرك “أيزنشتاين” أن الفيلم لا يصبح فنا إلا إذا صار حزمة من الجاذبيات، تماما مثل النغمات الموسيقية التي يمكن أن تشكل إيقاعا معينا من نسيج ثري من التجارب الكاملة. ولم يعتبر أن مجرد تسجيل الحياة هو من وظيفة الفيلم السينمائي، ولكنه كان على قناعة بضرورة تدخل السينمائي في الصورة لإحداث تأثيرات جمالية من عنده.
“مونتاج الجاذبية”.. تركيب الصورة المستوحى من فنون العالم
يصف “أيزنشتاين” السيناريو بأنه مجرد وصفة تلخص التأثير العاطفي العام للفيلم على الجمهور، أو الضغط الذي سينشأ بالضرورة على نفسية الجمهور، ويرى أن دور كاتب السيناريو محدود بالقياس مع دور المخرج الذي سيتعامل مع هذا السيناريو.
أطلق “أيزنشتاين” على نظريته الخاصة في توصيل اللقطات معا بغرض تحقيق تأثير نفسي معين اسم “مونتاج الجاذبية” أو “مونتاج الصدمة”، ومعناه ببساطة أن المونتاج يسمح للقطة المنفصلة أن تصبح جزءا من نسيج مشهد معين، هو الذي يمنحها المعنى. أما جاذبيتها لعين المتفرج ثم إعادة ترتيبها مع غيرها من اللقطات داخل عقل المتفرج، فهي التي تمنح الإحساس المطلوب من المشهد، ثم من الفيلم كله.
كانت نظريات “أيزنشتاين” المتعلقة بالمونتاج السينمائي ودوره وليدة دراسته عن قرب لمسرح “كابوكي” الياباني، ثم انبهاره باللغة اليابانية وأشكالها المصورة، كذلك كانت وليدة دراسته لأشعار “هايكو”، وكان أصلها بالطبع كامنا في مدرسة التركيبيين، رغم أنها لم تطور تماما نظريته السينمائية بشكل عام.

ومن الواضح أن “أيزنشتاين” تأثر في بناء نظريته الخاصة بـ”المونتاج الفكري” أو الذهني أو مونتاج الصدمة، بنظريات الفكر الجدلي عند “هيغل” و”ماركس”، إلى جانب تأثره بالكثير من نظريات علم النفس الحديث في عشرينيات القرن العشرين على أيدي “فرويد” ثم تلميذه “يونغ”، وكان “أيزنشتاين” أيضا ملما بآراء العالم السويسري “جان بياجيه” الذي تخصص في علم نفس الأطفال.
“جان بياجيه”.. آثار طبيب النفس على السينما
قرأ “أيزنشتاين” ما كتبه “ليف فيكوتسكي” عن أبحاث الدكتور “جان بياجيه”. وقد عاش “فيكوتسكي” في نفس الفترة التي نشر خلالها “بياجيه” أبحاثه، وكانت تربطه بالعالم السويسري صداقة وطيدة. ولعل من المهم هنا أن نذكر بعض العوامل المشتركة بين فكرهما:
التمركز حول الذات: في نظام “بياجيه” يمارس الأطفالُ في سن 2-7 التفكيرَ قبل المبادرة العملية. ولا يمكنهم الفصل بين ما يملكونه وما يمثلونه وبين ذواتهم. وكان “أيزنشتاين” يرى أن المشاهدة هي نوع من النشاط المتمركز حول الذات، فالمتفرج يتبنى الصور التي يراها وكأنها تجسيد لتجاربه الإبداعية السابقة. الرمز المحسوس: وجد “بياجيه” أن الأطفال في المرحلة الأولى يسيطر عليهم الرمز المحسوس كعملية تنظيمية. وهذه الرموز أيقونية للغاية في التطبيق، فالرمز يحاكي السمات المادية لما يرمز إليه. ويسوق “بياجيه” مثالا على ذلك بالطفلة التي تفتح فمها، ليسهل عليها أن تتعلم كيف تفتح صندوقا. وهذا المثال له أهمية خاصة في دراستنا لنظرية “أيزنشتاين” فقد أشار في كتابه “الشكل السينمائي” إلى إعجابه بقبيلة في الفليبين تمنح تأثيرها الروحي لأي فرد فيها أثناء ولادته بأن تفتح له كل أبواب القرية. التفكير المونتاجي: اكتشف “بياجيه” أن الأطفال يعيشون المعنى باختبارهم الفرق بين حالتين نهائيتين لعملية ما، دون الانتباه على الإطلاق للمرحلة الوسيطة التي تربط بين الحالتين. وعلى سبيل المثال يشاهد الطفل الماء وهو يصب من إناء ما، في إناء آخر أكثر طولا وضيقا، فيستنتج أن الماء زاد في كميته، دون أن يأخذ في الاعتبار عملية الصب نفسها، أي دون أن ينتبه إلى أن نفس الكمية هي التي تصب بالضبط. من نواح عدة تهتم نظرية “أيزنشتاين” في المونتاج بالحالات النهائية، ولعل هذا كان من أسباب هجومه على المشاهد الطويلة، فقد كان يفضل تصوير لقطات قصيرة أو شذرات ثابتة في الحدث، ثم توليفها معا من خلال المونتاج الديناميكي.

“بيلا ينسى المقص”.. مقال ينقد نظريات السينما الغربية
من أهم المقالات التي كتبها “أيزنشتاين” في عشرينيات القرن العشرين مقال بعنوان “بيلا ينسى المقص” ومقال آخر بعنوان “جمجمتان للاسكندر الأكبر”.
في المقال الأول يرد “أيزنشتاين” على مقال الناقد المجري “بيلا بالاش” الذي يؤكد فيه على دور المصور السينمائي باعتباره أساس الفيلم، أما “أيزنشتاين” فهو يهاجم هذه الفكرة، ويعرف ما يصفه بـ”النجومية” بأنه الفردية السائدة في البلدان البورجوازية عموما.. ويقول: إنهم لا يفكرون خارج هذا الإطار في الغرب، فلا بد من وجود نجم ما، شخص ما يصبح في بؤرة الأضواء. بالأمس كان مثال النجم هو المصور، وغدا سيصبح مهندس الإضاءة.
ويكرر “أيزنشتاين” رأيه الذي يعتبر المونتاج أساس الفيلم، وأنه هو ما يميز السينما عن غيرها من الفنون.
وفي المقال الثاني يعيد اختبار العلاقة بين المسرح والسينما، مقارنا بينهما وبين جمجمة الإسكندر الأكبر في فترات عمره المختلفة، فالسينما جاءت من المسرح، لكنها جاءت أيضا لكي تجهز على المسرح بشكل ما، وأن الدور القديم للمسرح سيتحقق في المستقبل عن طريق مسرح آخر “هامشي” أو طليعي.
“أكتوبر”.. صدمة التجربة التي رفضها السوفيات
حاول “أيزنشتاين” صاحب النظرية الخاصة بالسينما أن يطبق نظريته على أفلامه تطبيقا عمليا، ويعتبر فيلمه “أكتوبر” (October) أبرز مثال على نظريته الخاصة في المونتاج، لكن المشكلة أن هذا الفيلم تحديدا لقي هجوما شديدا داخل الاتحاد السوفياتي في العهد الستاليني، مما أصاب “أيزنشتاين” بالإحباط والاكتئاب الشديد. فقد اتهمه النقاد السوفيات بالإغراق في القيم الشكلانية، والمبالغة في الاهتمام بالجماليات في الصورة، على حساب الرسالة السياسية والمضمون.
وقد أرغم “أيزنشتاين” على تقديم اعتذار رسمي قرأه أمام مؤتمر اتحاد السينمائيين السوفيات التابع للحزب الشيوعي، واستغرق بعد ذلك في التعمق في دراسة تاريخ وسيكولوجيا الفن. وراجع بعض أفكاره وطور البعض الآخر، إلا أن أساس نظريته ظل يدور حول إعلاء دور المونتاج السينمائي.
تأثير المونتاج.. صناعة الإحساس المطلق بالصورة والحركة والضوء
رغم أن بعض النقاد يطلق على مبدأ “أيزنشتاين” في المونتاج اسم “المونتاج الذهني” أو “الفكري” فإن نقادا آخرين يرون أنه لا علاقة له بالعقل أو بالذهن بل إن طريقته في استخدام المونتاج -كما يقولون- تشبه في تأثيرها تأثير الصور البسيطة على الأطفال بشكل عاطفي للغاية.
غير أن الأمر ليس على هذا النحو من التبسيط فقد نجح “أيزنشتاين” في جعل الفيلم مثل المقطوعة الموسيقية، حيث تنتظم كل النغمات الممكنة في الكون، لكي تأخذ شكل السلم الموسيقي الذي تمكن صياغة أصوات متناغمة منه.
لقد أراد “أيزنشتاين” سلما موسيقيا للفيلم حتى يمكن للمخرج أن يستغل كل عنصر فيه، إما على حدة، أو في اتحاده بالعناصر الأخرى، ويكون واثقا من النتيجة.
نعم كانت تجارب “أيزنشتاين” تعتمد على الذهنية البسيطة التي تأثرت دون شك بتجارب العالم الروسي “بافلوف”. لكن أليس هذا كله له علاقة بالذهن البشري أيضا، وهو ينتقل من مستوى الحواس البدائية إلى مستوى الإحساس المطلق بالصورة والحركة والضوء؟ أليس هذا كله هو جوهر السينما؟