بورتريه مبهر لعبقرية سينمائية
بقلم: أمير العمري
من الأفلام التسجيلية الكبيرة التي عرضت في الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي (9- 20 أكتوبر) الفيلم الإيطالي “برتولوتشي عن برتولوتشي” الذي كان قد عرض للمرة الأولى عالميا في مهرجان فينيسيا الأخير.
اشترك في إخراج الفيلم مخرجان هما لوكا جواداجنينو وولتر فاسانو. وليس من الغريب أن تصنف إدارة مهرجان لندن الفيلم ضمن قسم الأفلام التي تتناول “الحب” كتيمة من التيمات العديدة التي تنقسم إليها أفلام المهرجان حسب المنهج الذي أدخلته المديرة الفنية للمهرجان منذ العام الماضي، كلير ستيوارت. فهذا الفيلم أنتج أساسا بدافع الحب الذي يحمله مخرجاه لهذا السينمائي العظيم برناردو برتولوتشي، الذي يعد فنانا سينمائيا أوروبيا بالمعنى الثقافي للكلمة، أي أنه من النماذج السينمائية التي تعبر من خلال أفلامها عن الوعي الثقافي الأوروبي والنظرة لمحيطه المباشر في إيطاليا التي تقع في قلب أوروبا، أو خارجها في المحيط المباشر من حولها وفي علاقاتها بما يجري هناك، أو عن رؤية للعالم خارج حدود القارة العجوز، في مغامرات برتولوتشي الآسيوية في الصين والتبيت على سبيل المثال في كل من “الإمبراطور الأخير”، و”بوذا الصغير”. وبرتولوتشي في الوقت نفسه، فنان سينمائي أحب السينما وأخلص لها وأعطاها حياته.
الفيلم الذي يمتد زمنه إلى 105 دقيقة يقدم صورة سينمائية شخصية بليغة أقرب إلى ما يعرف في الفن التشكيلي بـ”البورتريه” أو الصورة القريبة، لبرناردو برتولوتشي الذي ظهرت موهبته السينمائية وتألقت منذ خمسين عاما: كيف كانت البدايات، كيف تطور وعيه وتطورت معه رؤيته السياسية عبر أفلامه، كيف إمتد طموحه إلى الخارج، إلى هوليوود التي يسخر منها في أحد حواراته عندما يقول إنه كان سعيدا بأن يحصل على ملايين الدولارات من بعض المنتجين الحمقى في هوليوود، لكي يصنع بها أكبر علم أحمر عرفته السينما في تاريخها، وذلك خلال الحديث عن فيلمه الشهير “1900” (1976) الذي يروي فيه قصة الصراع الإجتماعي والسياسي في إيطاليا وصولا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال العلاقة بين إبن ينشأ في أسرة من الفلاحين الفقراء في الريف، وابن آخر يولد في اليوم نفسه، لأسرة أرستقراطية من ملاك الأراضي، وكيف تنمو الصداقة بينهما وتستمر وتمتد، رغم الفارق الاجتماعي والطبقي الكبير، بينما يستمر أيضا الصراع بينهما ويتعمق مع ما يحدث من تطورات سياسية في البلاد.
عالم شخصي
فيلم “برتولوتشي عن برتولوتشي” ليس من تلك الأفلام التي يختار مخرجوها عادة تقديم رؤية “موضوعية” تعتمد على السرد التقليدي الذي يأخذ في الاعتبار آراء الفنان السينمائي الذي يوجد في بؤرة اهتمام الفيلم، مع استطلاع آراء كل من عملوا معه وكذلك نقاد عصره، والاستعانة بالكثير من اللقطات والمشاهد من أفلامه.
أما ما فعله مخرجا هذا الفيلم هنا فهو على العكس من ذلك، فقد آثرا أن يقدما لنا عالم برتولوتشي من خلال برتولوتشي نفسه، وفقط، أي من خلال ما يقوله ويرويه عن نفسه وعن أفلامه، ويعلق عليه في مئات المقابلات المصورة التي أجريت معه عبر سنوات حياته منذ أن كان شابا يافعا في الحادية والعشرين من عمره عام 1961، حتى اليوم بعد أن تجاوز الثالثة والسبعين من عمره.
يسعى الفيلم في البداية إلى استعراض تاريخ برتولوتشي السينمائي حسب الترتيب الزمني لأفلامه من خلال تقديم عرض لأفلامه من أول فيلم روائي طويل أخرجه عام 1962 وهو فيلم The Grim Reaper ثم التوقف مع برتولوتشي والانتقال بين مقاطع من أهم ما أجرى معه من مقابلات (بالأبيض والأسود أو بالألوان، وفي مراحل مختلفة من عمره حتى بعد سنوات طويلة من ظهور الفيلم الذي يجري الحديث عنه) وبلغات مختلفة أيضا، فبرتولوتشي يجيد الإيطالية والفرنسية والإنجليزية. ولكنه يقول في إحدى المقابلات المصورة معه أنه كان متعصبا للسينما الفرنسية كثيرا إلى حد أنه كان يفضل الحديث بالفرنسية مع الصحفيين الإيطاليين الذين كانوا يسألونه بدهشة” لماذا وأنت إيطالي وتتكلم الإيطالية؟ وكان يجيبهم بقوله إن الفرنسية هي لغة السينما!
ويعرب برتولوتشي عن ولعه الخاص بالفيلم الفرنسي ويتوقف بوجه خاص أمام جان رينوار الذي يعتبره الشاعر السينمائي الأول. ولكنه يتحدث أيضا عن جان لوك جودار بإعجاب شديد ويصفه بالمعلم. ويتخذ من فيلمه “على آخر نفس” أحد أوائل افلام حركة الموجة الفرنسية الجديدة عام 1959 الذي تأثر به كثيرا، علامة على بداية الثورة في السينما، ويترحم في مقاطع مسجلة مبكرا معه، على غياب حركة سينمائية موازية للموجة الجديدة في إيطاليا بعد نهاية حركة الواقعية الجديدة، ويبرر بذلك إتجاهه إلى تصوير الأفلام خارج فرنسا مثلما حدث مع فيلم “التانجو الأخير في باريس” (1972) الذي صوره في فرنسا. ويرى برتولوتشي أن روسيلليني هو أهم المخرجين الإيطاليين، ويقول إنه لم ينل ما كان يستحقه من تقدير وفهم في إيطاليا.

ويتحدث عن علاقته بالممثلين وكيف كان أصلا يرغب في إسناد الدورين الرئيسيين في “التانجو الأخير” إلى الممثلة الفرنسية دومنيك ساندا (التي قامت بعد ذلك ببطولة فيلمه “1900”) والممثل الفرنسي جان لوي ترنتنيان، لكن الأخير رفض متعللا بأنه لا يمكنه السماح بظهور الجزء السفلي من جسده عاريا في الفيلم، ويشرح كيف تمكن من إقناع مارلون براندو بالقيام بالدور بعد أن كان لا يتصور أبدا أن يعمل مع هذا العملاق. ويروي برتولوتشي بعض تفاصيل العلاقة المعقدة مع براندو أثناء التصوير لأن براندو “لم يكن فقط ممثلا عاديا بل مفكرا وصاحب فلسفة خاصة”- كما يقول. وعن ماريا شنيدر التي قامت بدور الفتاة في الفيلم يقول إنها وافقت على الدور الجريء لأنها كانت ترغب بشدة في إثبات نفسها كممثلة، لكنها أخذت بعد ذلك، أي بعد ظهور الفيلم وانتشاره، تهاجمه في كل تصريحاتها الصحفية وتتهمه باستغلالها. ويعترف برتولوتشي بأنه “سرق مشاعر ممثليه واستخدمها في الفيلم” لكنه يصر على أنه كان يعبر عن رؤية سياسية ولم يكن فيلمه من ذلك النوع الإباحي، ولم يكن يستحق ما تعرض له في إيطاليا من هجوم عنيف وصل إلى القضاء الذي حظر عرض الفيلم في سابقة يعتبرها الأولى في تاريخ السينما الإيطالية.
تأثيرات الطفولة ومعارك الشباب
يعود الفيلم إلى علاقة برتولوتشي بأهم شخصين تركا تأثيرهما عليه وهما: والده الشاعر الإيطالي المرموق أتيليو برتولوتشي، والمخرج الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني الذي كان شاعرا أيضا وصديقا مقربا من والده، ويروي عن قصة لقائه الأول ببازوليني ولم يكن برتولوتشي وقتها يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ويقول إن الإنطباع الأول الذي تركه عليه بازوليني عندما رآه برتولوتشي أنه “لص”، ثم يقول إنه ربما يكون قد “سرق مشاعره وعقله”. وقد عمل برتولوتشي مساعدا لبازوليني في البداية، ثم أخرج فيلمه الأول عن قصة من تأليف بازوليني.
وفي مشهد من المشاهد النادرة بالأبيض والأسود، نرى احتفالا ثقافيا في الجامعة ببرناردو الشاعر الموهوب وهو في الحادية والعشرين من عمره. وكان والده حاضرا ذلك الحفل إلا أنه يرفض الصعود ويتوارى عن الأنظار بعد أن يعلن مقدم الحفل عن وجوده ويطلب منه التقدم إلى المنصة. لكن برتولوتشي يقول إن الشعر لم يكن هاجسه الأول بل كانت السينما. لقد كتب الشعر فقط تأثرا بوالده ورغبة في محاكاته. وفي مقابلة في زمن آخر متقدم يقول إنه عندما جاء إلى السينما في الستينيات كان يرى أن الفيلم يجب أن يكون مثل القصيدة ولكنه أدرك خطاه فيما بعد!
ولا يعتمد الفيلم في استخدامه لمقابلات برتولوتشي وتصريحاته ومناسبات ظهوره في الإعلام المصور على منطق التراتبية الزمنية chronology بل يقفز من زمن إلى آخر، حسب منطق الفيلم في سبر أغوار مفهوم برتولوتشي للسينما وتوقفه أمام بعض التجارب المحددة في مسيرة عمله. ورغم أنه مثلا يشير إلى فيلمه “تراجيديا رجل سخيف” (1982) إلا أنه لا يتوقف أمامه بل ولا يهتم بمتابعة تجربته فهو أحد الأفلام التي لا ترسخ في ذاكرة جمهور برتولوتشي ونقاده.
برتولوتشي مثلا يتحدث في الثلث الأخير من الفيلم، عن أفلامه التي يعتبرها الأقرب إلى نفسه فيقول إنه يأسف لأن يقول إنها تلك التي حققت نجاحا جماهيريا، أي ليست بالضرورة تلك الأفلام التي يشيد بها نقاده بل ربما تكون قد تعرضت للهجوم مثل “الإمبراطور الأخير”!
وعن علاقته بجودار يقول إنهما اشتبكا بعد 1968 في جدل شديد بشأن ما يجب عمله سينمائيا وسياسيا، وإن جودار إتهمه وقتذاك بالانحراف عن السينما الثورية وإنه أصبح يصنع أفلاما بورجوازية. وكان جودار قد اعتنق الماوية (نسبة إلى الزعيم الصيني ماوتسي تونج) وأخذ يصنع أفلاما يصفها بالمنشورات، ويضيف إنه قرر وقتها الالتحاق بالحزب الشيوعي الإيطالي (المناهض للماوية) كرد فعل على موقف صديقه جودار الذي يراه موقفا متطرفا.
ويقول برتولوتشي إن فكرة الكاميرا سلاح التي كانت تلح على أبناء جيله من السينمائيين المتمردين في تلك الفترة، لم تكن واقعية. وفي مقابلة نادرة بالأبيض والأسود يقول بوضوح، إنه أدرك أنه سينمائي فقط وليس من الممكن أن يصبح مناضلا سياسيا، وإن الفيلم لا يمكنه أن يغير الحكومة ولا أن يتحكم في نتائج الانتخابات وإنه أصبح عندما يصنع أفلامه (في مقابلة أخرى تلحق بسابقتها) فإنه لا يفكر في الجمهور، وليس معنى هذا أنه لا يحترم الجمهور بل يفكر فقط فيما يود التعبير عنه، ما يريد استخراجه من الممثلين ووضعه على الشاشة.

خضوع برتولوتشي للتحليل النفسي في مرحلة لاحقة في حياته (بعد طرده من الحزب وتشككه في الكثير من الأفكار الأيديولوجية القديمة) في حقبة الثمانينيات وهي الفترة التي يرى أنها جاءت بعد اختفاء السينما السياسية الايطالية التي أبرزت صورة إيطاليا السينمائية في العالم لسنوات، إنعكس على أفلامه اللاحقة وخصوصا فيلم “لالونا” (أو القمر) الذي أخرجه عام 1979 وتعرض للكثير من الهجوم وفشل تجاريا رغم أنه كان قد حصل على تمويل من هوليوود. ويدافع برتولوتشي عنه دفاعا مريرا ويقول إن الكثيرين لم يفهموه. وفي معرض الحديث عن نقاد السينما يقول برتولوتشي في لقاء آخر معه إن أفلامه تعرضت للهجوم دائما من نقاد إيطاليا رغم إشادة نقاد فرنسا وأمريكا بها، كما حدث في مهرجان كان عندما عرض هناك فيلمه الأول (1962) وكتب أحد النقاد يقول إنه يتعين على برتولوتشي “تغيير المهنة”.. كما يتحدث عن فشل أفلامه في الحصول على اي جائزة في مهرجان فينيسيا وتعرض هذه الأفلام لهجوم نقاد ايطاليا هناك باستمرار.
وينتقل الى بحثه عن العالمية من خلال الانتاج الضخم في “الامبراطور الأخير” بدعم من المنتج البريطاني جيريمي توماس الذي أنتج له أيضا أفلاما تالية بعيدة عن الواقع الإيطالي مثل “السماء الواقية” عن رواية بول باولز الأمريكي الذي كان يقيم في طنجة بالمغرب (في الفيلم لقطات نادرة لبرتولوتشي مع باولز).
مفترق الطرق
يقول برتولوتشي إنه كان شديد الإعجاب باللقطة المتحركة الطويلة في فيلم أوروسون ويلز “لمسة الشر” (1958) وإنه أراد وهو يصور فيلمه الثاني “قبل الثورة” أن يتفوق على ويلز ويقدم لقطة متحركة tracking أطول من اللقطة الافتتاحية في بداية فيلم ويلز، لكن اللقطة التي تظهر على الشاشة وهي متحركة وطويلة بالفعل، هي لقطة لبرتولوتشي مع بازوليني وهما يسيران ويعبران الشوارع ويضحكان في حين تتابعهما الكاميرا. ويقول إنه يعتبرها أول لقطة “تراكنج” في تاريخ السينما!
برتولوتشي ينتهي إلى الحديث عن مرضه وعن العملية الجراحية التي أجريت له منذ سنوات في العمود الفقري وتسببت- بسبب خطأ من جانب الجراحين- في إصابته بالشلل والعجز. وقد أصبح الآن – كما نرى- يتحرك على مقعد خاص للمعاقين. ويقول برتولوتشي ضاحكا إنه اعتبر هذا في البداية “عقابا إلهيا” لأنه ربما يكون قد أفرط كثيرا في تصوير اللقطات المتحركة الطويلة. وكان عجزه عن الحركة السبب في توقفه لسنوات عن الإخراج منذ فيلم “الحالمون” عام 2003، لكنه تغلب على شعوره بالإحباط واليأس وعاد في 2012 بفيلم “أنا وأنت” الذي صوره في شقة في روما.

لا يشعر المشاهد لهذا الفيلم بالإرهاق رغم تلك الانتقالات المتعددة في الزمن، بل على العكس، تبدو هذه الانتقالات بين الأزمنة وبين مراحل العمر المختلفة ضرورية لخلق ذلك البناء الجدلي الذي يعبر عن مراحل تطور السينما الفنان ونظرته للسينما وللعالم، كما تتوقف أيضا، على نحو ما، أمام بعض المحطات في تاريخ السينما.
فيلم “برتولوتشي عن برتولوتشي” متعة خاصة لمن يعرفون ويتابعون منذ البداية أفلام هذا المخرج الكبير. لكن فيه أيضا الكثير من المتعة لمن لا يعرفون الكثير عنه وعن أفلامه، من الباحثين عن المعرفة السينمائية.
من المدهش أننا نرى برتولوتشي عندما كان لايزال بعد في الرابعة والعشرين من عمره عندما أخرج فيلمه الثاني “قبل الثورة” يتحدث في الفلسفة والشعر والفن والسياسة ومفهوم الشكلانية في السينما وجدل الواقع في بلاده، حديث رجل ناضج بفضل ما يتمتع به من ثقافة عميقة بدأت معه منذ وقت مبكر في حياته بتأثير من والده. ولا يملك المرء سوى أن يقول لنفسه: حقا إن العبقرية تولد في ربيع العمر… أليس كذلك!