خوردوفسكي : الساحر يعود بـ”رقصة الواقع” 1/2
أمير العمري
لم يكن عرض الفيلم الجديد “رقصة الواقع” La Danza de La Realidad للمخرج الشيلي الكبير أليخاندرو خودوروفسكي Alejandro Jodorowsky في مهرجان كان أمرا عابرا يمكن أن يمر مرور الكرام، فالأفلام كثيرة، ومتعاقبة، وهي لا تترك لك فرصة لالتقاط الأنفاس.. بعضها يذهب سريعا طي النسيان، والقليل جدا يبقى في الذاكرة طويلا.
أما فيلم خودوروفسكي الجديد فهو “حدث” سينمائي كبير يحتفي به عشاق السينما الحقيقيون، عشاق سينما الفن الرفيع والرؤية والفكر والفلسفة، سينما الفنان الذي يبدع فيلمه يحاول تجسيد عالمه الخاص، ويضفي عليه من خياله الخصب، دون تكلف أو اصطناع، يطوع السينما لمفهوم الشعر وقدرته على التعبير المجازي، ويتأمل في مسار الحياة، مع روح غنائية خلابة تسري عبر أجزاء الفيلم. وخلال رحلة المشاهدة، يكشف لك الفنان عما يكمن في خياله الخاص، لترى ما لا تراه عادة في غيره من الأفلام.
ولكن لماذا يعد عرض هذا الفيلم “حدثا” وليس مجرد فيلم سينمائي؟
لأننا أمام مخرج سينمائي من ذلك العصر الذي نطلق عليه “عصر السينما”، أي العصر الذي كانت السينما فيه تمتلك القدرة السحرية على التأثير الفني، سينما التعبير الذاتي عن العالم، سينما الشعر، الهواجس العنيفة، سينما فيلليني وبونويل وبرجمان وجودار وريفيت ورينيه وكيروساوا. هذه السينما التي تتلاشى تدريجيا بحيث لم تعد توجد سوى في التاريخ.. وخودوروفسكي من بقايا هذه النخبة التي كانت تبدع الأفلام للتعبير عن رؤيتها للعالم، وليس من أجل الشهرة أو المال أو تحقيق الرواج التجاري.
سينما خودوروفسكي
ينتمي هذا المخرج إلى أسرة يهودية من أوكرانيا هاجرت واستقرت في شيلي، وقد عمل خودوروفسكي في المكسيك وفرنسا، لكنه لم يخرج حتى الآن سوى سبعة أفلام بما فيها فيلمه الجديد. وهو يبلغ من العمر أربعة وثمانين عاما، وكان كثيرون يعتقدون أنه هجر العمل السينمائي نهائيا واكتفى بأفلامه الستة السابقة، التي دخلت تاريخ السينما. لكنه يعود بفيلمه الجديد “رقصة الواقع” La Danza de La Realidad من الإنتاج الفرنسي- المكسيكي، بعد أن توقف عن الإخراج لمدة 23 سنة، لم يقف خلالها مرة واحدة وراء الكاميرا، بعد فشل مشروع تلو آخر من المشاريع السينمائية التي كان يعتزم إخراجها، وآخرها مشروع فيلم “كنج شوت” King Shot الذي كان يعتزم إخراجه قبل أربع سنوات لكنه توقف بسبب تقاعس المنتجين عن تمويله، متشككين في إمكانية تحقيق أرباح. وقبله كان المشروع الطموح “الجحيم” Dune الذي تراجع المنتج الفرنسي ميشيل سيدوكس عن إنتاجه في أواخر السبعينيات بعد أن فشل في العثور على التمويل الكافي (كان مطلوبا وقتها تدبير 15 مليون دولار) ثم أخرجه فيما بعد ديفيد لينش (1984).
والطريف أن برنامج “نصف شهر المخرجين” الذي عرض الفيلم الجديد لخودوروفسكي “رقصة الواقع”، عرض أيضا فيلما تسجيليا طويلا بعنوان “جحيم خودوروفسكي” يبحث في تعثر ذلك الفيلم الذي كان يحمل طموحا كبيرا لصاحبه، كما يتوقف أمام ما كان قد أنجز من تصميمات وديكورات صممها وأشرف عليها مجموعة من صناع الخيال الذين لمعوا فيما بعد في الكثير من الأفلام الأمريكية الخيالية الكبيرة.
طموح خودوروفسكي من النوع الذي لا يعرف المساومة أو الحلول الوسط، ولذلك وقع دائما في الكثير من المشاكل مع منتجي الأفلام، وهو ما ترك، دون لاشك، غصة في حلقه يعبر عنها في بداية فيلمه الجديد، عندما يتحدث بصوته عن قيمة المال، وعن إفساده للروح، وعن معنى الفن.. عن الحاجة البشرية للمال، ولكن دون أن يسمم حياتنا وأرواحنا.

الفيلم الجديد يمكن اعتباره خلاصة عمل المخرج الكبير الذي ذاعت شهرته في العالم عندما أخرج فيلمه الثاني “الطوبو” El Topo عام 1970 وسرعان ما حقق نجاحا كبيرا وظل يعرض يوميا لمدة ستة أشهر في نيويورك في دار للعرض كانت تعرض الأفلام في منتصف الليل، وكانت القاعة تمتلئ كل ليلة بنحو ألف متفرج، كانت صيحاتهم إعجابا تتصاعد وسط جو احتفالي خاص، وتحول الفيلم إلى إحدى أيقونات السينما الجديدة التي كانت تعلن التمرد على كل اشكال السرد التقليدية القديمة.
لم يكن “الطوبو” فيلما يمكن تصنيفه بسهولة، فهو يجمع بين طابع أفلام “الويسترن”، مع لمسات سريالية واضحة مشبعة بالميثولوجيا الدينية والأساطير القديمة. وقد رحب الجمهور به بجنون، لأن جمهور نيويورك في ذلك الوقت بعد ثورة الشباب في الستينيات، كان مؤهلا لاستقبال عمل بصري خالص يعتدي بقسوة على الـ genre التقليدي لأفلام الغرب الأمريكي.
أخرج خودوروفسكي بعد “الطوبو” فيلم “الجبل السحري” (1973)، الذي عرض في مهرجان “كان” في تلك السنة، ثم أخرج بعد ذلك ثلاثة أفلام هي “توسك” Tusk عام 1980، ثم “الدماء المقدسة” Santa Sangre عام 1989 من الإنتاج الإيطالي، ثم “لص قوس قزح” Rainbow Thief (1990) من تمثيل عمر الشريف وبيتر أوتول وكريستوفر لي، ويقول خودوروفسكي إنه لم يكن حرا وهو يعمل في فيلمه هذا، بل فرض عليه العمل مع النجمين الكبيرين في حين أنه يكره العمل مع النجوم. وكان هذا الفيلم الذي تبرأ منه خودوروفسكي وهجره قبل إتمام المونتاج، سببا في توقفه عن الإخراج لمدة 23 عاما إلى أن عاد اليوم إلى مهرجان كان وإلى السينما، بفيلمه الجديد “رقصة الواقع”.
عودة إلى الماضي
في الفيلم الجديد المدهش، يعود خودوروفسكي إلى الماضي، إلى طفولته لكي يروي الفصول الأولى من حياته وهو في العاشرة من العمر، تلك الفترة التي تركت تأثيرها الكبير عليه، ويصور علاقته بوالده القاسي، العنيف، الذي كان معجبا بشخصية ستالين وكان يتقمصها، يريد لابنه الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، أن يكون قويا، صلبا، يقهر الألم، يصمد أمام المخاطر، لا يبكي، ولا يضحك، يتحمل العذاب وهو صامد. وتعكس المشاهد الأولى من الفيلم هذه العلاقة التي ستترك تأثيرها القوي على شخصية خودروفسكي: الأب يصفع ابنه مرة ومرات بأقصى ما يملك من قوة، ويطلب منه ألا يبدي أي إشارة تنم عن الشعور بالألم، ينكسر أحد أسنان الصبي فيصطحبه إلى طبيب الأسنان، وهناك يطلب من الطبيب ألا يستخدم المخدر حتى يعتاد ابنه تحمل الألم.
لكن الفيلم ليس مجرد سرد واقعي صارم للسيرة الذاتية لخودوروفسكي، بل عمل سينمائي خلاب ينتمي للواقعية السحرية التي تميز الأدب والفن في أمريكا اللاتينية، أدب ماركيز، وسينما راوول رويز، تختلط فيه التداعيات السيريالية من الذاكرة، بأجواء السيرك التي تشيع في معظم أفلام المخرج الكبير، وتتقاطع مناظر ومواقف ولحظات من التاريخ، تاريخ شيلي موطن المخرج، مع عرض لما يطلق عليه خوردوروفسكي “السيكوماجيك” psychomagic أو العلاج النفسي لعقد ومشاكل نفسية ترتبط بالصلات العائلية أو تكون وراثية.. مع نوع من التخاطر العقلي بين الإبن والأم، كما نرى في هذا الفيلم. إنه نوع من التحكم والسيطرة على النفس ينبع عن طريق الإيحاء، وقد يجد فيه البعض سحرا غير أن خودوروفسكي يؤكد أنه ليس بسحر!
وكما في “الجبل المقدس” و”الطوبو” يبرز الحس الديني بقوة في هذا الفيلم، وهو يتلخص في الإيمان بوجود الله، مع رفض ممارسات القساوسة ورجال الدين والسخرية من عجزهم عن تقديم حل لمأساة الإنسان وضعفه وحيرته، كما يكشف فساد السياسيين، وبراءة البسطاء، وعجز اليسار عن تقديم يد المساعدة للفقراء وإدانة ذاتيتهم وعجزهم عن الفعل.

نحن نرى أيضا كيف يصبح الخيال بديلا عن الواقع، فالحقيقة أن “رقصة الواقع” يمتلئ بالخيال: مقابل جنازة الفيل في فيلم “الدماء المقدسة” (1989) نرى هنا جنازة رجل الإطفاء الذي تتراءى جثته المتفحمة لبطلنا الصغير بل ويرى رأس الرجل المتفحمة وقد تحركت واتجهت إليه، مما يجعل الطفل يهرع إلى والده في فزع، يقول له إنه يشعر أنه قد مات!
ينقسم الفيلم إلى قسمين: في القسم الأول تتركز الأحداث حول شخصية الطفل أليخاندرو في علاقته بأبيه خاييم، في بلدة خودوروفسكي الأصلية “توكوبيلا” بشمال شيلي، وهي البلدة التي عاد إليها للمرة الأولى منذ أن غادرها قبل 74 عاما، حيث أعاد بناء المنزل الذي كانت تقيم فيه أسرته، وأعاد تصميم واجهات الشارع الذي يوجد فيه دكان والده والذي أطلق عليه “كازا أوكرانيا” أي بيت أوكرانيا.
أما القسم الثاني من الفيلم فيتركز حول رحلة الأب (خاييم) إلى سانتياجو وبحثه عن التحقق أولا عن طريق ممارسة العنف وهو ما يفشل فيه، ثم البحث عن اليقين، والتعرض خلال ذلك للتعذيب الوحشي والمرور بتجربة التجرد والقرب من الله، ثم العودة إلى الموطن بعد أن تتغير ملامحه، من صورة الرجل الصلب الذي يفتقد للضعف الإنساني (على شاكلة ستالين) إلى صورة الرجل الضعيف الذي يحمل خطاياه (أقرب هنا بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وضعفه وهزاله إلى صورة المسيح).
الرموز الدينية التي سبق أن استخدمها خودوروفسكي في أفلامه السابقة، تتراءى لنا هنا في أشكال جديدة، ففي مشهد بديع نرى يلتقي أليخاندرو الصغير بشحاذ على شاطئ البحر، يقوم بحركات راقصة وقد وشم جسده كله، يعطيه الرجل ثلاث علامات ذهبية ترمز للأديان الثلاثة: الهلال والصليب ونجمة داوود، ويقول له: إنك إذا قمت بوضعها معا وإذابتها، فسوف تحصل على سائل يتركز في نقطة واحدة تلخص النفس الإنسانية. يعود أليخاندرو إلى والده سعيدا فرحا يطلعه على السر الذي اكتشفه، فينتزع الأب الرموز الثلاثة ويلقي بها في المرحاض، ويردد بخشونة: “ليس هنالك إله.. ليس هنالك إله.. الله غير موجود.. لا شيء هناك بعد الموت”.
صدمة الإنكار تبقى في ذاكرة الفتى. ولكن تبقى يقينية خودوروفسكي في أن أصل الأديان الثلاثة واحد، وأن الإيمان بها جميعا واجب.. وهو يعبر في فيلمه “الجبل المقدس” (1973) عن هذا اليقين عندما نرى رسوما للرموز الثلاثة مرسومة على أجساد الراهبات بالعبرية والعربية تحمل كلمات مثل الله، محمد.. وغير ذلك.
على النقيض من الأب، تأتي شخصية الأم (ساره)، وهي إمرأة قوية، فارعة، ممتلئة القوام، تكشف ملابسها عن جسد مغر، تؤدي دورها كله في الفيلم من خلال الغناء الأوبرالي. فهي تنتمي للمنطقة الواقعة بين الواقع والخيال، بين العقل والفن المنطلق الذي لا يعرف حدودا، بين المادي الذي يتمثل في استعراض الجسد المثير، وبين الروحاني والديني الذي يعبر عنه من خلال إيمانها العميق الذي يوحي بأنه سبب من أسباب قدرتها على التخاطر العقلي مع ابنها بل يجعلها أيضا تأتي بمعجزة الشفاء.

وعلى حين يمكن اعتبار الشحاذ رسولا للسلام، يمكن النظر إلى ساره- لاحظ دلالة الاسم- على أنها من روح الله، وخاييم (الأب) هو الإبن الضال الذي سيرحل لكي يكفر عن ذنوبه من خلال ما سيتعرض له من عذاب قبل أن يعود تائبا نادما مستغفرا.
ومن خبرته الطويلة في مسرح السيكودراما في باريس خلال الستينيات، يمزج خودوروفسكي في فيلمه، بين الأسطوري (الميثولوجيا) والديني والنفسي (السيكولوجي) وينتقل بين هذه الأركان الثلاثة في سلاسة وبراعة، فهو يستخدم أسلوب التداعيات الشعرية، التي قد تبدو كما لو لم يكن هناك رابط فيما بينها، لكن العلاقة غير المباشرة، بين هذه الجوانب تأتي من خلال لغة الشعر، الصورة العابرة، التي قد تقطع الحدث، أو تتداعى في ذهن البطل الصغير، أو تأتي من الماضي، أو تتجسد له في شكل حلم أو هاجس عابر أو متخيل.. ومن هذه المفردات الشعرية يتآلف البناء السينمائي، دون أن يفقد البوصلة الموجهة، أي الشخصية المحورية التي تتداعى لنا الأحداث من خيالها في القسم الأول، أو شخصية الأب التي تدور حولها الأحداث في القسم الثاني. إن ثنائية الأب- الإبن، تقابلها هنا ثنائية أخرى مركبة بين الإبنة (ساره) و”الأب” الغائب.. أي أبوها من خلال ما يشبه “عقدة إليكترا” في الفرويدية.
عندما يرغم الأب خاييم ابنه أليخاندرو على قص شعره والتخلص من ذلك الشعر الأشقر الطويل المنساب البديع الذي يجعله يشبه الملائكة، تبكي الأم وتصرخ في لوعة، لقد كانت هي التي لصقت تلك الباروكة الشقراء فوق شعر ولدها الأصلي المجعد، فقد أرادته أن يكون صورة من أبيها الذي ضحى بنفسه من أجلها وهي صغيرة، لقد إغتالته أيادي الغدر العنصرية. يعود أليخاندرو إلى أمه ساره بعد أن فقد باروكته الشقراء يبكي ويشكو، لكنها تنهار وتصرخ في لوعة تبعده عنها، ترفض أن يقترب منها صارخة: لقد قتلتم أبي.. لقد أردتك أن تكون تعويضا لي عنه.. لقد كنت أبي.. لكن اليوم فقط مات أبي!
إن “ساره”، على العكس من خاييم، رقيقة، عذبة، حنونة، تؤمن بالتواصل مع الله من خلال تلك الشفافية الروحية التي تتمتع بها، وتلجأ لما يسميه خودوروفسكي “السيكوماجيك” أي الإيحاء النفسي السحري. إنها تملك القدرة على أن تجعل الآخرين لا يرون إلا ما تريدهم أن يروه. يلقى الإبن معاملة سيئة داخل حانة البلدة التي تمتليء بمجموعة من الرجال من شذاذ الآفاق، تصطحبه إلى هناك، وتقول له إنك إذا أردت أن تصبح غير مرئي فيمكنك ذلك.. وتدخل الفكرة إلى رأسه وتقوم بالتركيز والإيحاء ثم تخلع ملابسها وتدخل إلى الحانة تسير عارية بين الرجال دون أن يلحظها أحد، يراقبها أليخاندرو مبهورا.