“تيرانس مالك”.. المخرج الشاعر الذي تجاوز بأفلامه حدود السينما

يعلمنا الأمريكي “تيرانس مالك” أن مخرجي السينما ينقسمون إلى نوعين، الأول هو ذلك المخرج الروائي المعروف والمنتشر في كل سينما بالعالم، وهو يلتقط قصة ويقدمها في صور متحركة على الشاشة، ويقدم من خلالها مقولة فلسفية أو أخلاقية.

أما النوع الثاني الذي يكاد “مالك” ينفرد به فهو “المخرج الشاعر”، ولكن الشاعر “تيرانس مالك” لا يكتفي باختزال العالم في جمل بصرية قصيرة فقط، بل يتجول بعمق ورقة ورهافة تتحول معها الأنشودة البصرية التي يقدمها إلى حالة من الشفافية الخالصة، وتتوحد مع المعاني التي تقدمها وتخرج بمشاهدها من عوالم السينما التقليدية إلى عالم خاص جدا يمسّ جوهر الأشياء.

تيرانس مالك.. حفيد لبنان الذي غير مفاهيم السينما

ولد “تيرانس مالك” في 30 نوفمبر 1943 في أوتاوا التابعة لولاية إيلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ذو أصول لبنانية، وينحدر من أصول آشورية، وهو ابن “إميل مالك” الذي هاجر والده إلى الولايات المتحدة قبل قرن من الزمان.

تخرج “تيرانس” من جامعة هارفارد بامتياز مع مرتبة الشرف بعد دراسة الفلسفة عام 1965، وبدأ مساره الفني بكتابة السيناريوهات لأعمال فنية متنوعة، ثم تحول لمرحلة أخرى في مسيرته الفنية، فبدأ إخراج سيناريوهاته، ومنها فيلم “الأراضي الوعرة” (Badlands) عام 1973، وفيلم “الخط الأحمر الرفيع” (The Thin Red Line) عام 1998، وقد أنتج عدة أفلام أيضا، وترشح لجائزة الأوسكار كأفضل مخرج وأفضل سيناريو عن فيلمه “الخط الأحمر الرفيع”، كما حصل على السعفة الذهبية من مهرجان “كان” عن فيلمه “شجرة الحياة” (Tree of Life).

تزوج “تيرانس” مرتين، وكان زواجه الأول مع “ميشيل موريت” عام 1985 وانفصلا في 1998، والثاني مع “ألكسندرا إيكي” التي تزوجها في عام 1998.

كان “تيرانس” طالب فلسفة ومدرسها في مقتبل شبابه، وكان مترجما لبعض أعمال الفيلسوف الألماني “هايدجر”، وكان يكسب رزقه من إصلاح سيناريوهات أفلام متواضعة يرفض أن يذكر عليها اسمه، وقد حققت أفلامه القليلة شهرة واسعة، لكنه أبى أن يكون له في هذه الشهرة نصيب، فهو يفضل أن ينزوي ويختفي عن أنظار الصحافة الفنية، ولا يحضر أبدا استلام أي جائزة تحصل عليها أفلامه.

لقطة من فيلم “خط أحمر رفيع”
هذه الاختيارات الحياتية التي قررها لنفسه -وهي بالطبع لا تشبه مناخ العمل السينمائي بشكل عام- لا تنفصل بأي حال عن تلك الاختيارات الفنية التي قررها لإبداعه، وتظهر في أعماله القليلة عبر أكثر من خمسة وأربعين عاما من العمل السينمائي، فهو ينفذ إلى الحقائق بجرأة مدهشة، متجاوزا الحكاية التقليدية للفيلم والحوار والزوايا المعتادة لتصوير المشاهد المتنوعة، ويضرب عرض الحائط بموروث سينمائي أصبح شبه مقدس حتى عند المبدعين من السينمائيين، ليُقدِّم زوايا تصوير مختلفة نبعت بالتأكيد من زاوية رؤية مختلفة للعالم وللمعاني الإنسانية أيضا.

ملاعبة الأدوات السينمائية.. قلم جارح وريشة شديدة الحساسية

تظهر شخصية “تيرانس مالك” منذ أول أفلامه، فهو وإن كان يقدم العمل الإبداعي في إطار الحكاية السينمائية، فإنه لا يقع أسيرا للشكل، بل يتجاوز أدوات العمل السينمائي ليحوِّل الكاميرا إلى ريشة شديدة الحساسية، وقلم جارح بمشاهده التي يصلح كل منها للضغط على زر يوقف جهاز العرض، لتأمل المعاني الغزيرة والثراء الذي يحتويه الكادر والمشهد.

يكاد “تيرانس” يكون بطل كل أفلامه، إذ يظهر جليا ذلك الصوت المتأمل بعمق ورقة وحساسية في صورة معلق، وهي تقنية وثائقية بالأساس لا يتخلى عنها في أفلامه، وهو في ذلك التعليق الصوتي المصاحب للعمل لا يحكي ولا يشير إلى حكمة فعل قام به البطل فقط، بل إنه يطرح الأسئلة العميقة الجارحة التي يبدو فيها جليا أن همّ “المعلق” هو نفسه همّ “صانع العمل”.

“تيرانس” شخص شديد الحياء والزهد في الوقوف أمام عدسات المصورين، فلم تلتقط عدسة مصور فني له صورة واحدة لأكثر من 30 عاما، ولولا تلك الصفة لتحول إلى بطل لكل أفلامه، فثمة تشابه بينه وبين يوسف شاهين و”وودي آلان” اللذين امتلك كل منهما رؤية أراد توصيلها عبر أفلامه، ووجد في الأغلب أن وجوده وأداءه في العمل قد يساعد في توصيل هذه الرسالة أو الرؤية، لذلك فقد ظهرا في كثير من أفلامهما.

ورغم ذلك يبدو “تيرانس” بعد نهاية كل عمل يقدمه وكأنه البطل الفعلي رغم وجود عدد من كبار نجوم هوليود في أعماله القليلة وخاصة فيلمه “الخط الأحمر الرفيع” (The Thin Red Line)، فالحساسية والرقة والعمق في التعليق الصوتي تعلق بذهن المشاهد، وتؤكد على تساؤلات محيرة للمبدع نفسه.

نحن أمام مخرج مسكون بالجمال ومهوس به، لكنه ليس ذلك الجمال الشكلي لامرأة شقراء أو سمراء أو قوام رشيق، بل هو مشغول بجمال آخر يلفّ الوجود الإنساني في صراعه مع الفناء ثم العودة للحياة مرة أخرى باسم آخر وصورة أخرى، وهو يشبه طفلا بدائي الطبائع.

لقطة من فيلم “شجرة الحياة”

إنه مشغول أكثر بتلك الثنائيات التي نعايشها، وبينما يجدها مفارقات ويغرق في الانشغال بها نجدها نحن عادية تماما، إذ تبقى فعلا يوميا بالنسبة لنا، وهي ثنائيات الموت والميلاد والهزيمة والانتصار والحزن والفرح، بينما يقف “تيرانس” بحياد تام بين كل معنى ونقيضه، متأمِّلا جمالياته الشريرة أحيانا والطيبة أحيانا، الشرسة والهادئة، إذ يشغله التناقض وليس الانتصار لطرف على حساب آخر.

 

“الأراضي الوعرة”.. بداية الغوص في مفاهيم الأبطال

في فيلمه الأول “الأراضي الوعرة” (Badlands) 1973 يتناول “تيرانس مالك” قصة قاتل شرس وسادي يعاني من أزمة في تفسير العنف المندفع في داخله، مما يجبره للصدام مع العالم الخارجي بشكل انتقامي. تدور أحداث الفيلم في منتصف القرن الماضي، وهي الفترة التي دارت أحداث أغلب أفلامه خلالها، وهي فترة شباب مالك نفسه.

إحدى أهم ملامح اختلاف “تيرانس مالك” عن غيره من مبدعي السينما في العالم تتجلّى بوضوح في طريقة معالجته لحالة القاتل، إذ لا يستعرض تفاصيل هذا العنف أو أسبابه، بل يبحر في مفهوم الغربة والعزلة وعدم الانتماء إلى المجتمع، ويتحول الشخص الطبيعي بموجب ذلك إلى قنبلة قابلة للانفجار والفتك بالآخرين.

وفي فيلم “أيام النعيم” (Days of Heaven) عام 1978 يبحث عن الأصل في السلوك المتطرِّف والمتحلل من كل القيود الأخلاقية وغير الأخلاقية، بعيدا عن المدرسة الفرويدية.

أما فيلم “العالم الجديد” (The New World) عام 2005 فقد قدم فيه “تيرانس” صورة للفردوس الأرضي أو الطبيعة العذراء، وهي الولايات المتحدة الأمريكية قبل اكتشاف “أمريغو فيسبوتشي” لها وهجرة الأوروبيين، ويستعرض كيفية التواصل معها روحيا وعشائريا من خلال السكان الأصليين، ثم يستكمل قصة تحولّها إلى أرض مشبعة بدماء سكانها بعد غزو الإنجليز لها عام 1607 الذي تلوثت معه طهارة الروح الحرة الطليقة هناك، ودمرّت الأسطورة التي أطلق الغزاة عليها اسم “الهنود الحمر”.

“خط أحمر رفيع”.. أعظم وثيقة سردية سينمائية عن الحرب

قدم “تيرانس مالك” في فيلمه الملحمي “خط أحمر رفيع” أعظم وثيقة سردية سينمائية عن الحرب، فلم يتناول قط مخرجٌ سينمائي الحربَ بكل قبحها بهذا العمق والشاعرية، وبينما نالت المخرجة الأمريكية “كاترين بيجلو” الأوسكار مرتين عن فيلمين تمجد خلالهما الجيش الأمريكي في حربه ضد عدو عراقي مرة وضد أسامة بن لادن مرة أخرى، فإن “تيرانس” الأعمق والأكثر إنسانية وبلاغة يُقدِّم العدوّين في الحرب باعتبارهما ضحايا للحرب ذاتها ويظهر مدى عبثيتها.

وفي فيلمه “شجرة الحياة” يطرح “تيرانس” فكرة الرباط المقدس بين الكائنات الأرضية وبين الأكوان المحيطة بنا، عبر استعراض لحزن أُمّ على فقد طفلها، ونرى التناصّ واضحا بين تمحور نص العمل السينمائي بقصته حول أم حملت طفلا في رحمها، وبين أرض حملت بشرا في طبيعتها، وبين كون يحمل أرضا في كينونته.

تدور قصة الفيلم حول أسرة أمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي، يتحول الابن مع بداية الأربعين من العمر إلى رجل مليء بالتساؤلات الداخلية التي نبعت من أسلوب تربيته المرتبك، فقد حمل تناقضا بين حنان الأم وقسوة الأب وجديته، ومن ثم يستعرض حال الأم حين رحل أخوه الأصغر في سن المراهقة.

يصور “تيرانس مالك” بسخاء ما يلفت نظره، وقد يوقف برنامج التصوير في منتصف اليوم إذا رأى ما يعتقد أنه يستحق ويبدأ في تصويره، وقد قدم فيلما جديدا هو “نحو التساؤل” (To the Wonder)، ولكنه لم يهتم بتصويره، فقد صوره سابقا من مادة فيلمه السابق “شجرة الحياة” الذي كان ينبغي -طبقا لتصريحات من الشركة المنتجة- أن يكون زمنه الدرامي ست ساعات، ولكن هذا الأمر مستحيل تجاريا، فقرر مالك تقديم فيلمه الخامس، وإن قرر أن ثمة ثلاثة أفلام أخرى قد يقدمها بإيقاع سريع جدا.