“صبي الإنترنت”.. شاب متمرد قتلته طموحاته التكنولوجية

 

كان يُمكن للأمريكي الشاب “آرون سوارتز” أن يكون بمقام واحد مع مؤسس الفيسبوك “مارك زوكربيرغ”، أو جماعة “غوغل”، أي من مجموعة القادة الشباب بوادي السيليكون في كاليفورنيا، الذين يقودون ويخططون لمسارات الشبكة العنكبوتية، فلم يكن ينقصه الذكاء أو الابتكار أو الطموح، لكنه فَضّل أن يأخذ طريقاً آخر.

لقد أراد أن يُغيّر العالم نحو الأفضل عن طريق الإنترنت، فدخل في حروب كثيرة مع مؤسسات قوية لا ترحم، واصطدم مع القضاء الأمريكي، وحوصر في عمله ونشاطه حتى ضاقت عليه الطرق، فاختار يوم 11 يناير/ كانون الثاني 2013 أن ينهي حياته شنقاً ولم يبلغ وقتها ربيعه السادس والعشرين.

يُقدم المخرج “براين نابينبيرغر” السيرة القصيرة الحافلة لواحد من أكثر مُتمردّي الإنترنت طموحا وذكاء في فيلم “صبي الإنترنت.. قصة آرون سوارتز” (The Internet’s Own Boy: The Story of Aaron Swartz).

عرض الفيلم.. إنتاج الوثائقيات في عصر السرعة الرقمية

بداية يُشير الفيلم لسرعة إنتاجية صارت تطبع كثيرا من الأعمال الوثائقية التي تتناول أحداثا مُعاصرة من السنوات الماضية، ففي خلال ما يقرب من العام والنصف من انتحار “آرون سوارتز” اكتمل تصوير الفيلم وبدأ عرضه.

يقدّم الفيلم لقاءات مع عائلة الشاب، رغم ما تكتنزه من صعوبة عاطفية كبيرة على الأهل، كما وصل بسرعة كبيرة جدا إلى العرض الجماهيري، فهذا الأمر الذي لم يكن ممكناً في الماضي، هو اليوم جزء من طبيعة الإنتاج الوثائقي في عصر الديجيتال، بعد تخلصّه من قيود الشركات السينمائية الكبيرة المُنتجة أو الموزعة، وهو الأمر الذي سهّل تسويق الفيلم الوثائقي على الصالات السينمائية.

كما يمكن التخمين أن السرعة في إنجاز الفيلم، لها علاقة أيضا بالرسالة التي كرّس “آرون سوارتز” حياته القصيرة لها، لكنها لم تكتمل، ليكون الفيلم الوثائقي ما يُشبه “تَكمِلة” لتلك المسيرة، رغم أن هذه السرعة أثرت قليلا على المُحصلة النهائية للفيلم وإحاطته النهائية بالأحداث التي قدّمها، بسبب عدم قدرته على إقناع خصوم “آرون سوارتز” بالحديث للفيلم، ربما لأنهم ما زالوا في خضم تلك الأحداث، ولم يمر الزمن الكافي لتصبح العودة إليها مُمكنة، كما لا يستبعد أن يكون للجانب القانوني دور في رفضهم الحديث للفيلم، خوفا من ملاحقات قضائية مُحتملة.

أرشيف العائلة.. ولع بالتصوير لإرهاصات طفولة مبهرة

من الأمور الملفتة في الفيلم وفرة المواد الأرشيفية عن شخصية الشاب الراحل، وذلك أحد مميزات عصرنا هذا، لولعنا بتسجيل لكل شيء من حولنا على كاميرات صغيرة أو كبيرة.

توفر عائلة “آرون سوارتز” أرشيفها العائلي المصوّر لمخرج الفيلم، ومنه مشاهد عدة كانت تتنبأ بموهبة وذكاء كبيرين، فهناك أفلام فيديو قديمة يظهر فيها وهو يجلس خلف حاسوب قديم ولم يتعد عامه الخامس من العمر.

وقد استطاع “آرون” كتابة برنامج إلكتروني للعبة، قبل أن يتجاوز عشرة أعوام، أما سنوات مراهقته فسيقضيها متنقلا بين مؤتمرات علمية تخص الإنترنت، وسيُعامل فيها كالبالغين وسط دهشة العائلة أحيانا، فقد كانت تراه مراهقا عاديا.

الملصق الخاص بالفيلم

يبدأ حقل المبتكرين في عالم الإنترنت بالانتباه لذكاء وطموحات “آرون” مع دوره في تطوير برامج (RSS)، وهي تقنية تنقل أهم أخبار المواقع الأخرى أحيانا بشكل شريط مُتحرك، وبعدها تبدأ سيرة شديدة التميز والتنوع للشاب الأمريكي في عالم الإنترنت.

تسلل إلى مبنى المكتبة العلمية.. بداية انهيار النابغة

ليس من الواضح تماما أسباب التغيير الطارئ الذي قاد “آرون” للانشغال بتحقيق العدالة على الشبكة العنكبوتية، فبعد نجاحات كبيرة قبل بلوغه العشرين، وانتقاله إلى وادي السيليكون، قرر “آرون” أن عالم أثرياء الإنترنت لا يناسبه، فترك عمله في الشركة العملاقة ليواصل دراسته الجامعية في مدينة بوسطن الأمريكية. وقد بقي هذا التغيير غامضا في الفيلم، رغم محاولات بعض الذين تحدّثوا في الفيلم تفسيره.

يواصل “سوارتز” في المقابل نشاطه الكبير، ويشترك في عشرات المبادرات، وأغلبها لمحاربة الذهنية التي تشترط دفع مبالغ لمواقع إلكترونية، مقابل قراءة وثائق قانونية وعلمية يرى أنها يجب أن تتوفر مجانا، وهذ هو ما سيقود إلى أول مواجهة له مع القضاء في بلده.

“سوارتز” وهو طفل أمام حاسوبه

يتسلل “آرون” إلى مبنى مكتبة علمية أمريكية لتحميل البحوث العلمية الموجودة على نظامها الإلكتروني، من أجل توفيره للراغبين مجانا، وقد سجلته كاميرات الحماية للبناية، وعرضه الفيلم الوثائقي مقطع تسلله، وقد قبض عليه بعدها، ولم تزل تطارده تبعات تلك القضية حتى اليوم الأخير من حياته.

“روبن هود”.. مثال النبل في عصر التكنولوجيا

رغم شبح الجنحة القضائية الذي كان يفسد أيامه، فإن نشاطه لم يتوقف، فكان أحد الناشطين البارزين الذين تصدّوا لقانون جديد كانت الحكومة الأمريكية تنوي تشريعه لتنظيم الإنترنت، يعرف باسم (SOPA)، وسيتذكره كثيرون لدوره في وقف ذلك القانون الجدلي.

ترك “سوارتز” مجموعة كبيرة من المقالات والمقابلات التلفزيونية، لذلك لم يواجه الفيلم مشاكل كبيرة مع المواد الأرشيفية، كما كان تعاون عائلته وأغلب رفاقه من مميزات هذا العمل الوثائقي الذي يحاول أن يقدم بورتريها لشخص عاش زمنا معقدا، وواجه عقليات وذهنيات ما زالت تهيمن على زمننا.

ما فعله “سوارتز” في حياته القصيرة يقترب من الأفعال المنسوبة للشخصية الأسطورية “روبن هود”، فقد حاول أن يجعل الإنترنت ساحة مفتوحة من دون قيود ومجانية للجميع، وهذا لم يتحقق في حياته، لكن الفيلم يقدم مجموعة من الأدلة والمؤشرات بأن كثيرين قد تأثروا برسالته، وأنه في طريقه للتحول إلى مثال للنُبْل في عصر التكنولوجيا.


إعلان