“داردين”: توثيق الحياة والعجز عن رسم الابتسامات

أحمد مجدي رجب

(1)

الأخوين داردين

قبل عام 1999 لم يكن العالم يعرف شيئًا عن الأخوين البلجيكيين “جان-بيير داردين” و “لوك داردين”. قبل ذلك العام لم يكونا سوى مخرجين محليّين، محدودي الشهرة من بلجيكا. التي لم يكن لها أهمية سينمائية تُذكر. فقط كانا قد صنعا بعض الأفلام الوثائقية عن حياة العمل في بلجيكا، وبعض الأفلام الروائية محدودة النجاح. ولكن مع العام 1999، كان فوز فيلمهما “روزيتا” بجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان. ومعه بدأت المسيرة الحقيقية لأحد أهم صنَّاع السنيما في العالم الآن. ومنذ ذلك الحين وهما من المدعوين الدائمين للمهرجان. فقد تم ترشيح جميع أفلامهما بعدها للمسابقة الرسميّة. وفازا بالسعفة الثانية لهما عام 2005 عن فيلم “الطفل”. كما فازا بالجائزة الكبرى للمهرجان عام 2011 عن فيلم “الطفل ذو الدراجة”.

 

في دورة هذا العام من المهرجان تم ترشيح فيلمهما “يومان وليلة” للمسابقة الرسميّة للمهرجان كالعادة. الفيلم من بطولة الممثلة الفرنسيّة “ماريون كوتيار”. وقد تم عرض الفيلم للمرة الأولى ضمن عروض المهرجان. وعُرض متأخرًا نوعًا في أوروبا وأمريكا الشماليّة. وتم عرضه مؤخرًا ضمن فاعليات مهرجان “أبو ظبي السينمائي” في الإمارات العربية المتحدة. وعُرض كذلك في مصر.
ربما يكون هذا الفيلم هو الأنجح على المستوى الجماهيري من بين أعمال الأخوين. نظرًا لاعتمادهما للمرة الأولى على ممثلة شهيرة – ماروين كوتيار-. ولكنه لا يقل أبدًا من الناحية الفنيّة عن بقيّة أفلامهما. وعلى الرغم من اختلافه في بعض التفاصيل عن أفلام الأخوين داردين، إلا إنه ينتمي إليهما بشدة.
يعرض هذا المقال نظرة عامة لسينما الأخوين. ونبيّن بعد ذلك الاختلاف في فيلمهما الأخير.

(2)

الأخوين داردين مع الممثلة ماريون كوتيار

في أربعينيات القرن الماضي وقف المخرج الإيطالي “روبرتو روسيلليني”، يطلب من صناع السنيما في أوروبا أن يخرجوا من الإستوديوهات، وأن يُعلقّوا كاميراتهم في الميادين، وأن يطاردوا حياة الناس عبر الشوارع الضيقة والأزقة. كي ينقلوا واقعهم بصدق شديد إلى السينما. كان “روسيلليني” يرى أن هذه هي الطريقة الوحيدة لصناعة أفلام تمسّ حياة الناس المطحونين تحت ظروف الحرب التي تجتاح أوروبا، والمشغولين فقط بمواجهة الصعوبات التي تمنعهم من الحصول على قوت يومهم.
بعد مُضي الحرب اختفت هذه المدرسة. لأن حياة الناس اختلفت نظريًا، وأصبحت أكثر راحة وسهولة. وهذا هو ما يرفضه الأخوان داردين في أفلامهما بشكل قاطع. فهما ينظران إلى حال المواطن الأوروبي الآن، فيجدان ذات الظروف الطاحنة لم تتغير فيها سوى الصور الخارجية. لكن النتيجة النهائية، من جعل حياة الناس سعيًا وراء الحصول على قُوْتهم، مازالت سارية.

 

ستة أفلام هي حصيلة أفلام الأخوين داردين قبل فيلمهما الأخير (يومان وليلة)، تلك الأفلام التي لا نرى فيها أي أثرٍ لضوء الشمس، ولا نرى فيها إلا الألوان الباردة لعالمٍ معادٍ لأبطالهما، الذين لا يشعرون إلا بالوحدة والحياة في دنيا تقاتلهم بإصرار. لا يشعرون فيها بأي مشاعر إيجابية أو عون إنساني. أبطال الأخوين داردين هم نماذج للبشر في هذا العصر الذين يدفعهم الخوف لاتخاذ قرارات غير أخلاقية في بعض الأحيان ثم يشعرون بعدها بالذنب والندم، لأنهم ليسوا أشرارًا يستطيعون التعايش مع أفعالهم السيئة. فقط هم مدفوعون لها من هذا العالم المادي الذي اختفت فيه المعاني الإنسانية. هؤلاء هم أساس سينما الأخوين داردين. على مدى عقدين استمر الأخوان في تقديم حياة هؤلاء بواقعيّة شديدة. إلى درجة تقترب من توثيق هذه الحياة في صورة فيلم.

(3)

لقطة من فيلم “روزيتا”

عام 1999 قدّم الأخوان داردين فيلمهما (روزيتا). الذي يمكن اعتباره النموذج الذي يوضح كافة خصائص سنيما الأخوين. ليس فقط على مستوى الصورة ولكن أيضًا على مستوى الحكاية والإيقاع والمضمون.
(روزيتا) هي البطل الذي يتكرر في جميع أفلام الأخوين، فهي فتاة فقيرة. نراها في بداية الفيلم وهي تتعرض للطرد من قِبَل صاحب المكان الذي تعمل فيه. ولكنها تتصف بهستيريا وترفض الخروج إلا أن تأتي الشرطة إلى المكان.
تعد هذه هي البداية التي تتكرر في معظم أفلام الأخوين؛ حيث نرى البطل يصطدم بعقدة الفيلم في مشهده الأول. ويواجهها بغضب وبعض العنف إلى أن ييأس في النهاية. وبعدها نبدأ في استكشاف عالم البطل؛ عالم خريفيّ تمامًا، باهت الألوان، بارد الطقس، سماؤه غائمة. لا تشعر فيه روزيتا بأي صلة مع أي إنسان، سوى والدتها التي تعيش معها في عربة معيشة بأحد الأماكن الفقيرة.

 

 ولا ترى روزيتا في هذه الأم إلا كل ما يدعو للاحتقار والاشمئزاز. تدور أحداث الفيلم، وتلتقي روزيتا بشاب يعمل بعربة لبيع الحلويات في الشارع. ينجذب إليها هذا الشاب ويعاملها بمودة. ولكن روزيتا التي لم تعتد على الرفق من العالم، لا تستطيع أن تتجاوب مع هذا الشاب. وتؤدي بها استماتتها للحصول على مصدر للدخل إلى الوشاية به لدى صاحب العمل. لكنها لا تستطيع أن تتعايش مع هذا الفعل فتترك العمل في النهاية. وينتهي بها الحال وحيدة في هذا العالم الذي لا يُبالي.
الإيقاع البطيء للفيلم، وخلوّه من الموسيقى، والمشاهد الطويلة، والبطل المتوحد .. هذه هي أهم ملامح سينما الأخوين. والتي تتكرر إلى درجة التطابق أحيانًا منذ فيلم “الوعد” عام 1996 وحتى فيلم الطفل ذو الدراجة عام 2011. وعلى الرغم من قدرتهما على استخدام هذه الأدوات بمهارة شديدة في خلق عالمهم، إلا أنهما لا يسلما من الانتقادات بسبب التكرار. ربما يكون هذا هو السبب وراء الاختلافات التي شهدها فيلمهما الأخير (يومان وليلة).

(4)

لقطة من فيلم “يومان وليلة”

من قبل مشاهدة الفيلم نستطيع أن نلاحظ ببساطة أنهما، وللمرة الأولى، يعتمدان على ممثلة شهيرة (ماريون كوتيار) على خلاف كل أفلامهم السابقة. ولكنهما على سبيل العادة اجتهدا في إخفاء كل ما يميز مظهرها، لتصبح أحد البطلات الكلاسيكيات لكل أفلام الأخوين. يبدأ الفيلم كالعادة بالبطل يواجه عقدة الحكاية. حيث تتلقى (ساندرا) مكالمة هاتفية، تخبرها بأن نتيجة تصويت زملائها لبقائها في العمل قد ظهرت. وأنهم قد اختاروا الحصول على العلاوة. مما يعني طردها من العمل.
ندرك بسهولة هذه المرة أن الأخوين داردين لم يتركا بطلهما وحيدًا. ولكنهما جعلا له دعمًا إنسانيًا متمثلًا في إحدى زميلاتها التي أقنعت صاحب العمل بإعادة التصويت. لتبدأ رحلة طويلة تذهب فيها (ساندرا) إلى منازل زملائها واحدٍ تلو الآخر. تطلب منهم أن يصوّتوا إلى صالحها. وأن يتخلّوا عن العلاوة لأنها تحتاج إلى البقاء في هذا العمل من أجل أولادها. تتباين ردود أفعالهم بين من يقبل مساعدتها، ومن يتعلل بحاجته إلى هذه العلاوة، ومن يتهرب من لقائها، أو من يخبرها أنه يخشى أن يُطرد من العمل إن صوّت لصالحها.

 

يُمثل الفيلم الرحلة الاعتيادية لأبطال أفلام الأخوين، امرأة يائسة تحاول البقاء في هذا العالم. لكنها هذه المرة محاطة بدعم زوجها وبعض الزملاء الذين قرروا مساندتها. تدور أحداث الفيلم وتجد (ساندرا) نفسها في مواجهة سؤال واحد: ماذا تصنع لو انقلب الحال وأصبحت ممن يصوّتون لطرد أحدهم؟ وكانت إجابتها أنها بالتأكيد سوف تختار العلاوة. تمثِّل هذه أعلى نقاط اليأس التي وصلت إليها بطلة الفيلم. مما يدفعها لمحاولة الانتحار. ربما لأنها لا تستطيع أن تواجه هذا الإحباط في العالم. أو ربما لأنها لم تستطع أن تواجه إجابتها لهذا السؤال. لكنها تجد أن بعض زملائها قد قرروا التصويت لبقائها. وينتهي الفيلم بمشهد إعادة التصويت الذي تغيّرت نتيجته. ولكن النتيجة كانت تعادل بين من صوّت للعلاوة ومن صوّت لبقاء (ساندرا). وكأن الاخوين داردين قد قررا التخفيف قليلًا من حدة تشاؤمهما من هذا العالم. وأنه كما يحوي الأنانية، فهو كذلك لا يخلوا من قدرة البشر على الترابط والدعم.

ينتهي الفيلم بمشهد أخير لـ (ساندرا) مع صاحب العمل. يخبرها أنه قد قرر استعادتها للعمل لديه، في مقابل عدم تجديد التعاقد مع أحد زملائها. لكنها ترفض هذا العرض. لتجد (ساندرا) أن إجابتها على السؤال الذي شغلها كانت عكس ما توقعت.
منذ بداية الفيلم نلاحظ أن المخرجين العجوزين قررا أن يريا بعض الأمل في هذا العالم. وقررا التعبير عن ذلك بالألوان الدافئة وبعض الموسيقى. ونهاية تخبر فيها البطلة زوجها، وهي مبتسمة، أنها سوف تواصل البحث عن عملٍ جديد. وللمرة الأولى في أفلام الأخوين يظهر البطل مبتسمًا في اللقطة الختامية وتغمره أشعة الشمس.


إعلان