“فيفيان ماير”.. مصورة عظيمة عاشت تحت الظل وكشفتها الصدفة

 

من بين الأفلام الخمسة المرشحة لجائزة الأوسكار عام 2016 لأفضل فيلم وثائقي طويل الفيلم الأمريكي “العثور على فيفيان ماي” (Finding Vivian Maier) الذي اشترك في إخراجه “جون مالوف” و”شارلي سيسكل”.

لكن “مالوف” هو صاحب الموضوع والفكرة والبحث المرهق الطويل، بل هو من وجد نفسه داخل مغامرة البحث عن شخصية مجهولة، حين عثر صدفة على ما خلفته وراءها بعد وفاتها من صور فوتوغرافية مدهشة، رغم أنها لم تكن مصورة معروفة، بل ولم يسبق لها أن عرضت صورها في أي معرض من معارض العالم.

سمسار العقارات.. صدفة تكشف كنزا فوتوغرافيا مدهشا

كان “جون مالوف” شابا يعمل سمسار عقارات في شيكاغو، وقد قرر ذات يوم أن يصدر كتابا عن منازل الحي الذي يعمل فيه، وهو الذي يقدم لنا الفيلم بصوته ويظهر بصورته من حين إلى آخر، لكي يربط بين المواقف المختلفة، ويروي لنا تفاصيل قصته مع تلك المرأة المجهولة.

يقول “مالوف” إنه كان يبحث عن صور قديمة تصلح لكتابه، فاشترى في أحد المزادات عام 2009، صندوقا عثر في داخله على بضعة آلاف من النسخ السلبية للصور (النيغاتيف)، فألقى بالصندوق ومحتوياته جانبا، وبعد عامين دفعه الفضول للعودة إلى الصندوق، لكي يستخرج بعض النسخ السلبية ويقوم بتحميضها وطباعتها.

يجد “مالوف” نفسه أمام مجموعة من الصور المدهشة (بالأبيض والأسود)، للناس والشوارع والأطفال والعربات والملابس والمحلات، وكل ما يخطر على البال من تسجيل أمين لنمط الحياة في شيكاغو في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فقرر نشر 200 صورة من هذه الصور في مدونته على الإنترنت لكي يختبر رد فعل الناس، فجاءت الردود حماسية تشيد بالصور، وتبدي إعجابا كبيرا بمن صورها.

مربية الأطفال.. صناديق تخزن أسرار الغرفة المحصنة

اندفع “جون مالوف” يبحث عن المرأة التي قامت بتصوير تلك الصور، بعد أن وجد داخل الصندوق كثيرا من القصاصات والبطاقات التي تكشف اسمها، وهو “فيفيان ماير”، وعند البحث عنها علم أنها توفيت عام 2009 قبل فترة قصيرة من اكتشافه تلك الصور، وأنها كانت تعمل لسنوات طويلة مدبرة منزل ومربية للأطفال في منازل عدد كبير من العائلات الثرية في شيكاغو.

بورتري للمصورة فيفيان ماير التقطته لنفسها

أخذ “مالوف” يجري مقابلات مع كل من استطاع الوصول إليهم ممن عرفوها وعملت لديهم، ومعظمهم كانوا أطفالا، وأصبحوا الآن رجالا ونساء لديهم أسرهم، ومن هنا جاءت فكرة عمل هذا الفيلم المعتمد على البحث الذي يشبه عمل الصحافة الاستقصائية، أي صحافة البحث والتحري والكشف.

لكن أساس البحث هو التركة الهائلة من الصور والمتعلقات الأخرى، فقد أوصله البحث إلى اكتشاف مخزن مستأجر بالمدينة، فيه كل متعلقات “فيفيان” مخزنة في صناديق، لم يكن أحد يعرف أبدا ما بداخلها. ويذكر كثيرون ممن عملت لديهم، أنها كانت تحرص كل الحرص على هذه الصناديق، ولم تكن تسمح لأحد بدخول الغرفة المخصصة لها، ولكن من أتيحت لهم فرصة التسلل إليها وجدوها مليئة عن آخرها بأكوام من الصحف.

مئة ألف صورة..  إزاحة الستار عن التركة السرية الغامضة

اشترى “مالوف” الكمية الأكبر من تراث “فيفيان ماير”، وأقام غرفة لتحميض الصور في بيته، واستعان بمن يساعده على تحميض آلاف الصور التي يقول إنها بلغت أكثر من 100 ألف صورة، معظمها لأشخاص هامشيين، ممن يجوبون الشوارع، أطفال مشردون ونساء ودمى أزياء مقطوعة الرأس أو الساقين داخل واجهات المحال التجارية التي كانت تبيع الملابس، وواجهات البيوت القديمة، والشوارع والحوانيت في الأحياء الفقيرة، صحف تحمل عناوين مثيرة تدور حول جرائم ترتكب ضد الاطفال، أناس يتجمعون أمام منزل الطفل الضحية، كلب يطل من فوق سطح إحدى البنايات.. وغير ذلك الكثير.

لم تطبع هذه الصور الفوتوغرافية أبدا من قبل، وهي تعرض للمرة الأولى في هذا الفيلم، حتى أن المصورة الغامضة التي التقطتها لم ترها، وإلى جانب هذه الصور كثير من شرائط التسجيل الصوتي، والأفلام من مقاس 8 و16 مم التي التقطتها.

مجموعة من الشرائط التي اكتشفها المخرج والتي تخص فيفيان

يقول كثيرون ممن عرفوها إنها كانت سيدة طويلة شديدة التكتم، تميل لارتداء قمصان رجالية، وكانت ترفض الحديث عن نفسها، وترفض أن تكشف اسمها الحقيقي للباعة في المحلات القريبة التي تشتري منها الأشياء، بل كانت تزعم أن اسمها هو “لي سميث”.

غريبة الأطوار.. فرنسية من نيويورك تجوب أقطار العالم

يُجمع كل من سألهم “مالوف” على أن “فيفيان” فرنسية، ويقول بعضهم إنها ربما كانت تتعمد الحديث بلهجة فرنسية، ويقول أحد الذين كانوا أطفالا ترعاهم في الماضي إنها قفزت لتصوير أخيه الطفل عندما سقط على الأرض، وسط فزع الأم من ذلك، بل إنها كانت تستوقف الكثير من المارة، وتستجوبهم وتسجل لهم، وتطلب تصويرهم.

وكانت تحمل معها دائما كاميرا على شكل صندوق، كان يمكنها استخدامها من زاوية منخفضة وهي تحملها بين يديها لتصوير المارة والواقفين دون أن ترفعها إلى وجهها، وبالتالي لم يكن كثير من الناس يلحظون ذلك السلوك الذي يقول أحد الشهود في الفيلم إنه كان من الممكن أن يكلفها حياتها.

بحث المخرج وذهابه إلى الأرشيف الوطني يكشف أن “فيفيان” أمريكية من نيويورك، من مواليد 1926، وأنها كانت من أصول فرنسية، وقد اختفت ذات يوم -كما تقول إحدى النساء- بعد أن تركت لها رسالة تقول إنها ستغيب لمدة ثمانية أشهر في عطلة خارجية، وأنها سافرت إلى مصر واليمن والمكسيك وتايوان وكل بلدان أمريكا اللاتينية، وعادت بكثير من الصور نشاهد بعضها في الفيلم. كانت تلك الرحلة في عام 1959.

ذات القمصان الرجالية.. جاسوسة تعيش في ثياب شخصية أخرى

إننا نشاهد فيلما وثائقيا يعتمد على قصة مثيرة، يستدرجنا راويها ومخرجها، إلى الدخول في أغوارها تدريجيا، يستخدم كثيرا من المواد المتاحة له من تراث “فيفيان” المرئي والمسموع، من شرائط التسجيل والصور الفوتوغرافية البديعة التي تكشف عن موهبة خاصة جدا في التصوير، وكذلك الأفلام المصورة بالكاميرا السينمائية التي تعتبر وثائق على تلك الفترة من الخمسينيات والستينيات.

ورغم ظهور “جون مالوف” المتكرر في الفيلم، فإنه ليس البطل الحقيقي، بل هو مجرد معلق على بعض أجزائه، فالبطلة الحقيقية الحاضرة الغائبة هي “فيفيان” نفسها، ويشعر “مالوف” في لحظة ما بالذنب، لكونه يسمح لنفسه بإماطة اللثام عن حقائق في حياتها لم تكن ترغب في الكشف عنها.

ويجمع كل من يتحدثون في الفيلم أنها كانت شخصية شديدة السرية والتكتم، وأنها قالت ذات مرة عندما حوصرت بالأسئلة عن ماضيها ومن أين جاءت، بأنها “امرأة غامضة” أو “جاسوسة”. لقد كانت على الأغلب، ترغب في أن تحيا في ثياب شخصية أخرى غير شخصيتها الحقيقية.

تقول امرأة عجوز تعمل في محل بالمدينة، إنها ترى أن اللغز المحيط بها أكثر إثارة للاهتمام من عملها، أي مما تركته خلفها، وأنها ترغب في معرفة المزيد عنها، وهو ما لن تكشف عنه الصور التي تركتها خلفها، رغم أنها تركت كثيرا من الصور الشخصية لها، وكانت تميل إلى ارتداء قمصان الرجال.

صور الستينيات.. مطاردة الجذور في قرى الجنوب الفرنسي

يتوصل “مالوف” إلى أن أصل أسرة “فيفيان” في قرية بالجنوب الفرنسي، وقد قضت فيها بعض الوقت، فيسافر إلى هناك يجري المقابلات مع من يرى أنهم يمتّون لها بصلة أو التقوا بها، ثم يطلعهم على الصور التي التقطتها في القرية في الستينيات.

يقارن المخرج بين الصور الحقيقية الحديثة للمكان وبين صور “فيفيان” لنفس الأماكن في نفس القرية، كما يتعرف كثير من السكان على أنفسهم أو على آبائهم في كثير من الصور، ويعثر أيضا على كهل يقول إنه كان يعرف والدة “فيفيان”، ولديه صندوق الكاميرا التي كانت تستخدمها.

يتحدث في الفيلم أيضا بعض المصورين المحترفين المعروفين، يبدون إعجابهم الكبير بتصوير تلك المرأة التي تتضارب الأقوال حول هدفها من التصوير، فهل كانت تلتقط الصور لكي تدفنها داخل تلك الصناديق، أم أنها كانت تود أن يراها الآخرون؟

صورة من الصور التي التقطتها فيفيان ماير

يعثر “مالوف” على ما يشبه الوصية، وهي قصاصة مكتوبة بخط يد “فيفيان”، توصي فيها من سيتولى تحميض وطبع الصور التي تركتها بضرورة إتقان العمل، أي أنها كانت تتوقع أن تقع تلك النسخ السلبية في يد أحد يقوم بطبعها وتكبيرها.

لغز المرأة المجهولة.. حياة صامتة وتراث يضج بالحياة

السؤال الذي يظل دون إجابة شافية هو: من هي فيفيان ماير؟ هل كانت طيبة أم شريرة؟ هل كانت تساعد الأطفال على معرفة أشياء جديدة، وتصحبهم إلى أماكن لا يعرفونها ولم يكن ممكنا أن يأخذهم إليها آباؤهم عادة؟ أم كانت تقسو عليهم؟

تقول امرأة كانت طفلة ترعاها “فيفيان” في الماضي إنها أرغمتها ذات مرة على تناول كل محتويات صحنها من الطعام بالقوة، كما تعرضت للضرب على يديها، ولكنها تتساءل أيضا: ربما تكون “فيفيان” نفسها ضحية في طفولتها، خصوصا أنها كانت دائما تحذرها من الرجال، وتقول إن كل ما يريدونه هو الجنس، وكانت تخشى الرجال والتلامس الجسدي، وربما تكون قد تعرضت لاغتصاب أو لاعتداء ما في طفولتها. لكن امرأة أخرى ترى أنها عاشت حياتها كما كانت تريد، وأنها كانت تؤكد لها ذلك.

لا تزال المؤسسات الرسمية التي ترعى الفنون -كما يقول “مالوف”- ترفض قبول أعمال منسوبة لامرأة مجهولة ليست على قيد الحياة، لكنه ينجح رغم ذلك في تنظيم معارض خاصة لمئات الصور في نيويورك ولندن وألمانيا ولوس أنجليس والدنمارك، وتمتلئ هذه المعارض بالناس بمستوى من الزحام. يقول أحد المعلقين المتخصصين، إنه لم يحدث من قبل بالنسبة لأي مصور في العالم. بل لقد أصبح كثيرون يعتبرون الآن “فيفيان ماير” من أهم مصوري القرن العشرين.

صورة التقطتها فيفيان ماير

إننا نعرف كثيرا عن ما أنجزته “فيفيان ماير” من صور بديعة لكل نواحي الحياة، ويستخدمها المخرج ببراعة في الفيلم مع موسيقى البيانو الإيقاعية، ويمزج بينها وبين لقطات من الطبيعة، ويضاهي أحيانا بينها وبين الأماكن الحقيقية التي التقطت فيها كما تبدو اليوم، ويصل إلى المقعد الخشبي الذي كانت مغرمة بالجلوس فوقه على شاطئ البحر، في لحظات الهدوء والاسترخاء.

ورغم كل ذلك، ومع نهاية الفيلم تظل المرأة المجهولة لغزا أكبر مما كانت، فلا أحد يعرف لماذا لم تتزوج ولم تنجب ولم يكن لديها أصدقاء، ولماذا اختفت عن أهلها جميعا تماما، ولماذا صورت ما صورته، ولماذا أخفته عن عيون الآخرين، وما الذي جعلها تعمل مربية للأطفال.

وربما تبقى هذه الأسئلة دون جواب إلى الأبد.


إعلان