“مايكل هانكه” .. رُعب السينما الواقعية
Published On 10/10/2016

آية عبد الحكيم
“الفيلم يعني أن تكذب أربعًا وعشرين مرة بالثانية الواحدة، لتُقدِّم الحقيقة”
ربما لم يحدث أن اختلف النقاد – والمشاهدون كذلك – حول مخرجٍ اختلافهم حول النمساوي (مايكل هانكه). الأسباب جلية ولا تحتاج للبحث، يكفي أن نشاهد فيلمًا أو اثنين من أعماله لندرك أنه بقدر الرعب الذي يثيره بداخلنا، إلا أنه يضرب على أوتارٍ لم يقربها أحدٌ غيره، ويتركنا نتطلّع بانجذاب ممسوس للشاشة متسائلين عشرات الأسئلة التي لن يجيب عنها. لا يطرح هو الأسئلة، ولا يقدم الإجابات، بل ولا يعرفها – كما يدّعي – ويؤكد أن كل الإجابات صحيحة وممكنة.
العجوز السبعيني، الذي لم يبدأ الإخراج السينمائي إلا في عقده الخامس، يبدو للوهلة الأولى متلذذاً بما يعانيه أبطاله ومشاهديه على حد السواء، لكن بالمشاهدة المتأنيّة نجده مبدعًا ومفكراً حقيقيّ، يكتب عن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يصدق وجودها، فيقدم سينما مخيفة ومختلفة.
الكتابة
لا يشرع (هانكه) في كتابة أعماله إلا حين تكون الفكرة قد اكتملت تمامًا برأسه. يبدأ الأمر بفكرة بسيطة، يبحث هانكه في أمرها جيداً، يرسم شخصياته ويعرف مصائرها، ويكتب. لا يحب أن يشاركه أحد في هذه العملية، وينقب عن الأفكار الأصيلة، خاصةً تلك التي تبحث في أعماق المشاعر الإنسانية.
في فيلمه الأول (القارة السابعة) يستعرض الحياة اليومية العادية جداً لأسرة متوسطة الحال. ببساطة يتنقّل بين روتينية أفعالهم: التسوق، غسل السيارة، إعداد الطعام، كتابة الخطابات للوالدين البعيدين. فقط حين تبدأ الشعور بعاديتهم، تنقلب الأحداث تمامًا وتبدأ الأسرة الهادئة في تحطيم المنزل وحياتهم بأكملها. الأب يحطم الأرفف، يمزق الكتب، يدمر حوض السمك لتتناثر الأسماك الصغيرة على الأرض وتموت بين صرخات الطفلة الصغيرة التي مزقت منذ قليل كراساتها وكتبها المدرسية، والأم تمزق النقود ليدفعها الأب داخل المرحاض وتختفي تحت دفعات الماء، ثم يُقدم ثلاثتهم على الانتحار!

وفي فيلمه الأخير (Amour) ابتعد عن العنف والحوادث الغرائبية في أفلامه، واختار أن يكتب عن الموت. اختبر (هانكه) الموت حين انتحرت خالته التي قامت بتربيته منذ الصغر. كانت الخالة مصابة بالروماتيزم وطلبت منه أن يمسك يدها حين تبتلع حبوب المنوم، لكنه رفض. بعدها ابتلعت الحبوب بمفردها لكنه عثر عليه�� وأنقذها، لكنها بعد عام آخر انتحرت بالفعل. في فيلمه لم تُقدم العجوز على الانتحار لكنها ألحّت في طلب الموت من زوجها الذي يرعها. المرض، الذبول، إرهاق الآخرين بالرعاية والتعاطف، الهاجس المرعب الذي ينتاب كبار السن، في إطارٍ هادئ ومرعب في الوقت ذاته، وتحت عنوان “الحب”.
في الفيلمين يقتل شخص أحد أحبائه، يسمع صوته متحشرجًا منتظراً الموت الذي أراده، لكن الطرق المختلفة التي سلكها كل شخص منهم وصولاً لتلك النهاية هي ما يهم (هانكه)، وما يقدمه. كيف تبدو الأشياء شديدة العادية وهي تخفي في بواطنها رعبًا سيكولوجيًا لم يتصوره أحد. لا يقدم الكثير من المبررات لتصرفات أبطاله، بل ولا يعرف هو ذاته. يسأله ممثلوه عن تاريخ الشخصية كما يتخيله، فيجيب بأنه لا يعرف، وأنه على كل ممثلٍ أن يفترض ما يرتأيه مناسبًا، لكنه في الوقت ذاته لا يسمح لهم بالارتجال على الإطلاق.
العنف
أبطال (هانكه) يرتكبون العنف لأنهم يستطيعون ذلك. هذا ما أكد عليه في فيلميه (فيديو بيني)، و(ألعاب مسليّة) بنسختيه النمساوية والأمريكية.
بالفيلم الأول يصادق (بيني) فتاة صغيرة تقاربه عمراً صادفها في متجر شرائط الفيديو، يصطحبها لمنزله ويريها كاميرا الفيديو الخاصة به ونظام التسجيل والعرض الذي يمتلكه، يقدّم لها الطعام والشراب على مائدة العائلة وهما يتسامران، ثم يريها سلاح قتل الخنازير الذي أخذه خلسة من مزرعة والده، ثم يقتلها.
الضربة الأولى ربما كانت عن طريق الخطأ، لكن (بيني) – الذي يتمتم (أنا آسف، أرجوكِ) – يعود لإعادة تعبئة سلاحه ليطلقه مرة أخرى على الفتاة التي تصرخ في ألم، فتصمت للأبد. لا توجد أية أسباب تدفع الفتى المراهق لارتكاب جريمة القتل، ولا ما لحقها من شرٍ غير مبرر يُرتكب بهدوء وبساطة شديدين، لكنه يفعل ذلك لقدرته عليه ولثقته في الهرب من عواقبه.

بعدها بخمسة أعوام عاد بطل (فيديو بيني) مع (هانكه) في الفيلم الأكثر عنفًا بين أفلامه (ألعاب مسلية) ربما في تصوّرٍ لما سيؤول إليه حال (بيني) حين يصير شابًا، يعاونه صديقه ويستخدمان العنف لترويع عائلة صغيرة في منزلهم الريفي.
الأمر بالنسبة للشابين لعبة مسليّة، ورهان بينهما وبين الزوجين إن كانا سيتمكنان من البقاء على قيد الحياة حتى التاسعة صباحًا. الشابان قادران تمامًا على القتل بعد أن أقعدا صاحب المنزل، لكنهما لا يرغبان في قتل العائلة بسرعة وسهولة، بل يستمتعان بترويعهم. حين يسأل الزوج أحدهما عن السبب يجيب في بساطة: “لأنني أستطيع”.
كره الكثيرون الفيلم، استهجنوا العنف غير المبرر، حتى وإن كان بعيداً عن الشاشة، أصابهم الرعب لما يمكن أن يفعله الشابان، لكن (هانكه) استنكر غضبهم وعلّق بأنه صنع الفيلم ليخرج من كرهوه من الصالات دون إتمامه، وعلى من أكمله أن يتحمّل عاقبة استمراره في مشاهدة اختلالٍ نفسي بهذا القبح (!)
السياسة
درس (هانكه) الفلسفة وعلم النفس والدراما بجامعة فيينا، ما جعله أكثر اهتمامًا في أعماله بما يتعلق بالنفس البشرية وطبيعتها ومكنوناتها، ولا يهتم بالسياسة أو التاريخ إلا إذا تقاطعا عرضا مع فكرته.
في عام 2005 قدّم فيلم (Caché) والذي اقترب قليلاً من أزمة التعايش بين الفرنسيين والمهاجرين، لكن قلب الفيلم هو الشعور بالذنب الذي يعود ليطارد رجلاً بعد أعوامٍ طويلة من خدعة ارتكبها بحق صديق طفولته الجزائري الصغير. يعود الماضي في رسوم طفلٍ وشرائط مراقبة تُرسل لمنزل الرجل وتذكره بما فعله، وحين يبحث عن صديق الطفولة ويعثر عليه، ينفي الرجل علاقته بالأمر.
السؤال الذي يطرحه هانكه أو يرغب في أن يطرحه مشاهديه هو كيف سيتعامل المرء مع شعور الذنب ذلك، وكيف يمكن لادعاءٍ بسيط ادعاه طفل أن يغير حياة أشخاصٍ عديدين، ولم ينبغي أن يشعر بالذنب حياله.
عاد وقدّم فيلمًا آخر تقاطع مع السياسة بشكل عابر هو فيلم (الشريط الأبيض). بدأت الفكرة لديه بصورة تراود عقله منذ عشرينياته عن فتياتٍ في قرية ألمانية شمالية في القرن التاسع عشر، بشعرٍ ذهبي معقوص في ضفائر أو كعكات. بعدها بدأ في القراءة عن تاريخ تلك الفترة وتطرق أكثر لأساليب العقاب والتأديب في المدرسة وبين العائلات المحافظة. هكذا قدّم فيلمًا عن قرية صغيرة قبيل الحرب العالمية الأولى، تحدث بها بعض حوادث العنف الغامضة التي لا نعرف مرتكبيها. لم تُذكر السياسة إلا عرضًا، ولم يهتم هانكه بالفروق الطبقية بين العائلات أو يستعرض أثرها على الأحداث، ما كان يعنيه هو أثر أساليب التربية المتزمتة على الأطفال، والعلاقات بين الأفراد في القرية وكيف يتأثرون بما يحدث.

الصورة والصوت
لا يعرض (هانكه) عنفه على مشاهديه مباشرة، لا تتفجر الرؤوس على الشاشة، تُسمع أصوات الطلقات النارية في خلفية كادرٍ آخر وحين يعود بكاميرته تخبرنا الدماء المتناثرة بحقيقة ما حدث.
في أغلب الوقت يثبّت الكادر تمامًا، يترك لنا الوقت كاملاً لاستيعاب التفاصيل دون حركة زائدة أو لقطات مقرّبة. يصنع باستخدام الصوت/الصمت مع الصورة ثنائية تضع مشاهده في قلب المشهد، دون موسيقى تصويرية، ودون مؤثرات صوتية عدا الأصوات الطبيعية بالمحيط الذي يعرضه: أصوات التلفاز، الراديو، الموسيقى التي يسمعها أبطاله فقط. ينتقي مقطوعات الموسيقى من مجموعته الخاصة بدقة، حريصًا على أن تلائم شخصياته.
في فيلم (مدرّسة البيانو) والذي اقتبسه عن رواية بنفس العنوان كان طبيعيًا أن تشغل الموسيقى مكانًا بالفيلم، وعلى الرغم من غرابة بطلته، وعلاقتها المعقدة بأمها، وبتلاميذها، وكل الخلل الذي يحيط بتصرفاتها، إلا أن الموسيقى الكلاسيكية التي استخدمها (هانكه) تضفي هدوءًا وطبيعية، وتعادل من مشاعر النفور التي قد تصيب المشاهد، فتصبح المشاهدة تجربة مهيبة بين الكراهية والحب.
(مايكل هانكه) – أحببنا ما يقدمه أم كرهناه – مخرجٌ كبير، حصد سعفتين ذهبيتين، جائرة أفضل مخرج، جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان (كان)، وأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وعشرات الترشيحات الأخرى التي تشيد بأعماله كتابة وتنفيذ. يميل للتطرف في تقديم دراما صادقة كأنها قطعة من الحياة الطبيعية لأشخاصٍ عابرين، يعني بأن يقدم أبطالاً ميسوري الحال، مثقفين، ويعرض لنا الجوانب الخفية في حيواتهم، ليصدمنا بما لا نرغب في معرفته، فنكرهه، ويبتسم هو في تفهّم وثقة من يعرف أكثر.