رضوان الكاشف.. الجنوبي الثائر

د. أمل الجمل

المخرج الرّاحل رضوان الكاشف

“أنا أصلي مليش في النكد، وأحب أعدي على النكد خطف. لما أبقى زعلان بأروح السيما، علاجي هو السيما، دُنيا تانية خالص، بأخرج منها حلو، خفيف وطاير.. أنت روحتي السيما قبل كدا؟”
الكلمات السابقة تُلخص نظرية البهجة عند منصور بهجت أو “الساحر” أحد الأبطال المهمشين الذين أثرى بهم الراحل رضوان الكاشف السينما المصرية والعربية، والذي انشغل بهم بأشكال وتنويعات جغرافية وإنسانية مختلفة في أفلامه الثلاثة “ليه يا بنفسج” و”عرق البلح” و”الساحر”. كان صاحب “الجنوبية” مشغولاً بما وراء السطح، وما تحت الجلد وفي الأعماق الذي يُحرك أبطاله الهامشيين، في حين كان الكثيرون يُطالبون بنسيانهم إن لم يكن قتلهم والتخلص منهم، مثلما قال عنهم أحد رجال البيزنس وأحد أكبر الموزعين السينمائيين في مصر بعد أن شاهد “عرق البلح”: “فيلمك يتحدث عن أناس يستحقون القتل، لا عمل فيلم عنهم”.
    تلك الكلمات تكشف التناقض الفج والهوة السحيقة بين رؤية ووعي وإحساس الكاشف وبين ذلك الوعي السائد سياسيا واجتماعيا وثقافياً بين الطبقات التي يمثلها رجل البيزنس هذا الذي يتخذ من نفسه وصياً على ذوق الجمهور فيتحكم فيما يراه، مانعاً عنه ما لا يتوقع أن يحقق له مكاسب خرافية تحت حجة أنه لن يُعجب الجمهور، ووراء هذه الحجة يتخفى المنتجون فيحجبوا أفلاماً مثل “عرق البلح” عن الجمهور المصري، والذي حتى قبل بدء عرضه قرروا له أسبوعاً واحداً فقط، مع ذلك لم يُسيء رضوان الكاشف الظن بهذا الرجل ولم يُحلل كلماته على أنها تعبير عن شر دفين فيه، ولكن أرجعها إلى نقص الوعي والثقافة السائدة فهو “بكل أنانية ابن المدينة لم يكن ينتبه أن علي تخوم مدينته وحول كل أطرافها، وبامتداد عميق في كل الاتجاهات يدور صخب عظيم هو فقط الذي لا يسمعه، يُجهز لعنف هائل سيكون هو أول المستهدفين به.”
 
لذلك لم يكن غريبا أنه بثلاثة أعمال روائية طويلة فقط – حصدت ما يقرب من 41 جائزة عربية ودولية ومحلية – صنع رضوان الكاشف اسمه الكبير، وحفر لنفسه مكانة لها سطوة ومهابة في تاريخ السينما المصرية والعربية. ففي عمليه الأول والثاني كان رضوان مهموماً بالخراب والفساد الذي يلحق بالناس والمكان حين يهجر أحدهما الآخر. هذا الهم الذي سيطر عليه منذ اجتاحت مصر موجة من الهجرة في منتصف سبعينيات القرن العشرين تحول على إثرها ميدان التحرير إلى وكالة سفر، ومنذ أن غيَّر الدولار كل معالم القطر المصري، فلم يترك قرية في الصعيد وإلا عمل على تشويهها بفعل ما أسماه الكاشف “خيانة الذاكرة وعدم القدرة على المحافظة على تراثنا وهويتنا”. أما في “ليه يا بنفسج” و”الساحر” فكان يتحدث عن الفئات الشعبية البسيطة التي تعاني من قسوة الواقع، وتحاول أن تُعيد ترتيب أوضاعها كي تحصل على أقصى قدر تستطيعه من بهجة الحياة رغم كل قسوتها. إنهما فيلمان عن قوة إرادة الحياة من خلال تلك الإضاءة التي تكشف الحِيَل التي يصطنعها الفقراء للتعايش مع ظروفهم غير الآدمية، تلك الحِيل التي تصنع الكثير من الغرابة ومناطق للدهشة.

فمن أين جاء الكاشف بكل هذا الوعي ومن أين تشكلت رؤيته للحياة؟ وهل حقاً دراسته للفلسفة وحدها هي التي منحته كل ذلك؟ ربما منحته الفلسفة الوِجهة التي ينظر بها إلى العالم، منحته الخلفية المعرفية والمنهج في التفكير، وإمكانية تحليل الظواهر والأحداث وربطها ببعضها البعض وصولا لجوهر الظاهرة، لكن المؤكد أن هناك المئات وربما الآلاف الذين درسوا نفس الكتب ومروا على نفس النصوص التي غاص فيها رضوان الكاشف، لكنهم لم يُصبحوا في وعي وقوة شخصية صانع “عرق البلح” المولود يوم 6 أغسطس عام 1952 بحي السيدة زينب، والذي ينتمي بجذوره ووعيه وكينونته إلى ثقافة الصعيد فهو من “كوم أشقاو” مركز طما محافظة سوهاج التي كان يزورها كثيرا في إجازاته، وهناك تشبع بحكايات جدته وأمه وأقاربه التي تمزج الخيال بالواقع بالأسطورة والتي انعكست في أفلامه. كما أن قراءته الأدبية أيضاً – للرواية وللقصة القصيرة والمسرح – ومشاهداته السينمائية، إلى جانب تجاربه الشخصية أضفت عليه مزيدا من هذا الوعي. من دون أن ننسى الجوانب الإنسانية التي تميزه والتي نكتشفها في أحاديثه وحواراته وحتى كتاباته النقدية عن البسطاء، والمطحونين والمهمشين العشوائيين والذي كان يحلو للبعض أن يناديه بـ”زعيم العشوائيين” ومنهم السيناريست سيد فؤاد الذي كان من المفترض أن يخرج له رضوان فيلمين من تأليفه هما: “آعدين ليه” و”عقبال عندكم” لكن الموت اختطفه قبل تصوير “عقبال عندكم” بيوم واحد.
كان رضوان الكاشف فنانا يمتلك الإحساس القادر على تفهم تصرفات الإنسان حتى في لحظات ضعفه وانحطاطه، قادراً على الولوج إلى أعماق الروح وسبر أغوارها. كانت محاولات فهم هذه الروح هي شاغله وهمه الشخصي ويريد التعبير عنها في أفلامه، كان يرغب في إعادة اكتشاف أنفس المصريين وجوهر شخصياتهم، لأنه كان يُدرك أن هناك “غمامة تخبئ أرواحهم” وهو كان يُريد بقوة أن يبعث هذه الروح ويُعيد اكتشافها؛ “ماذا يحركها.. ما الذى يُغني طموحها، أحزانها، مباهجها.” وفي أكثر من حوار له كان يُؤكد على رغبته في “إعادة الكشف عن هذه الروح التي تم حصارها والتغمية عليها وعلى حقيقة ما تتوثب إليه.”

ليه يا بنفسج

في شريطه السينمائي الأول “ليه يا بنفسج” الذي أهداه إلى “جيل الستينيات.. والفرح بالكتابة” كان رضوان الكاشف يمزج بين الهم والحزن والقدرة على الفرح من خلال ثلاثة أصدقاء جمع بينهم الفقر وحب الغناء في حي شعبي عشوائي، ثلاثة شباب لا يمتلكون مهنة أو وظيفة تضمن لهم الحياة الكريمة، لم يكن لهم حاضر، ويبدو أنهم من دون مستقبل. هنا تكمن الخطورة، لكنه ومع ذلك يجعل المتلقي لا يحكم عليهم أخلاقيا، ولكن يجذبه برقة وهدوء إلى منطقة التعاطف معهم، فيبتسم ويضحك عالياً معهم، فهؤلاء الثلاثة الذي يبدو وكأنما حُكم عليهم بالإقصاء والتهميش والإبعاد شبه القسري، يتحايلون علي الأوضاع كي يبقوا على قيد الحياة، وأثناء ذلك لا يكف بعضهم عن إثارة البهجة في المكان وفي نفوس الناس من حوله، وفي المتلقي القابع أمام الشاشة المندمج بكل كينونته وقلبه فيما يدور أمامه.
   لذلك لم يكن مصادفة أن يختار الكاشف تلك الأغنية الشهيرة “ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين؟” لتكون عنوان ومضمون فيلمه الأول الذي ينتمي إلى الواقعية السحرية التي اشتهر بها كثير من أدباء أمريكا اللاتينية. استمرت كتابته ثلاثة أعوام. انطلق السيناريو الذي كتبه رضوان الكاشف وسامي السيوي من رواية “باهيا” للكاتب البرازيلي “جورج آمادو.” وأثناء التفكير ورحلة الكتابة تخلصا من الرواية واقتربا من عالم “تورتيللا فلات” و”شارع السردين المعلب” و”خميس عذب” لشتاينيك، وبعد قليل أخذا يقتربان أكثر من عالم كتاب الستينيات في مصر ومنهم يحي الطاهر عبد الله فمشهد العربة الكارو وصاحبها مسعود العربجي مستوحى من “سكافي المودة”، مع ذلك ليس هو تماماً، إنه طيف من روحه، أو هي مجرد تحية للشخصية، ربما.
كان من المفترض أن يكون عمله الأول الأسطوري “عرق البلح” لكن رضوان الكاشف اضطر إلى تأجيله عشر سنوات لعدم وجود منتج يقبل به، كان جميع من يقرأه يقول: إنه نص رائع لكنه لن يجد منتجاً، والبعض نصح الكاشف بتعديل السيناريو لكن الجنوبي العنيد رفض وأصر على عدم التنازل، وفضل تأجيل حلمه ليُحققه وفق شروطه في زمن آخر، وعندما خرج للنور ظل يُعرض تجارياً في الخارج لما يقرب من ستة أشهر في فرنسا وبلجيكا وسويسرا بينما في مصر منحه الموزعون أسبوعاً واحداً فقط، وفاز الفيلم بـ22 جائزة من مهرجانات سينمائية مهمة بعضها في فرنسا وكندا وإيطاليا وبلجيكا.  

يحكي “عرق البلح” عن ذلك الكابوس الذي حط على قرية في صعيد مصر بعد هجرة رجالها من أجل المال والذهب، وكيف تركوا نسائهم يُعانين مأزق الوحدة والقهر، فهو من ناحية ينتقد هذا القهر ومن زاوية أخرى يبكي هذا الغياب، بل يرثيه بقوة، وهو ما يُؤكد وعي الكاشف المناصر لقضية المرأة وفي نفس الوقت المُدرك لأهمية وجود الرجل حتى ينهض المجتمع ويتطور بكلا عنصريه. لكن الحكي هنا أخذ طابعاً أسطورياً، أو بالأحرى مزج الواقع بالأسطورة، وكان رضوان على قناعة بأنه من الصعب الفصل بين الاثنين، فأسلوب السرد في ثقافة الصعيد يفرض نفسه وطابعه الأسطوري وكأنه واقع، كان يسمعهم يقولون: “جدك راح داخل من البوابة زي الجبل”، أو “الدم فضل سنين على الأرض ما نشفش.” كانت لهجتهم تحمل رنة الأسطورة ومفرداتها في أحاديثهم اليومية، وأيضاً لأنه كان يريد أن يتفادى الأزمنة الضعيفة درامياً. من هنا، ومن إيمانه بأن الأسطورة نقطة تماس بين الواقع والخيال في الحياة اليومية، كان اختياره للقالب الأسطوري في “عرق البلح”.  

التهميش والهزيمة

هل كانت شخصيات رضوان الكاشف – الهامشية أو المهمشة – تعتبر شخصيات سلبية أو مهزومة؟ لا.. صحيح أن شخصياته تعاني من ضغوط، وأوضاع سيئة خارجة عن إرادتها، لكنها لا تستسلم، وتحاول أن تتجاوز محنتها، حتى لو كان ذلك بطرق غير شرعية، أحيانا، لكنها تظل تحاول طوال الوقت، ولا تستسلم للهزيمة وأسباب البؤس المحيط بها، حتى لو فشلت لأسباب قدرية تراجيدية، أضف إلى ذلك النهايات عنده، وما بها من تفاؤل فمثلاً في الساحر: يعود الإبصار للطفل وتتزوج الابنة ويرتبط الساحر نفسه بشوقية. وفي “ليه يا بنفسج” تؤكد النهاية على الأمل والإصرار وسط إضاءة نهارية ساطعة قوية، ومن المعروف أن الإضاءة في أفلام رضوان الكاشف كانت في أوقات كثيرة تلعب دور بطولة لا يقل أهمية عن دور الشخوص، كانت تُشارك في البناء والتكوين الدرامي للعمل إلى جانب وظائفها الجمالية والتعبيرية. فاستخدامه لطبقة الإضاءة الخافتة وتوظيفها كان يحمل دلالة الحزن المرتبط بعالم المهمشين في المجتمع، ففي شريطه “ليه يا بنفسج” نجد الشخصيات إلى جانب التهميش تعاني من الإحباط النفسي، لعدم قدرتها على إكمال علاقات الحب، والزواج، أو العثور على شريك الحياة، وهى في ذات الوقت غير قادرة على توفير قوت يومها بشكل كريم، هنا نجد الإضاءة موزعة على الأماكن التي تنحصر في غرفة الشيخ عيد بنافذتها الحديدية التي تشبه قضبان السجن، وبين العشة والحوش أمامها، والمساحة أمام بيوت الحارة، وشقة سعاد التي قامت بدورها بثينة رشوان، وفي معظم المشاهد الليلية يُخيم اللون الأزرق على الإضاءة، في حين كانت تتجلى الإضاءة القوية والعالية في تلك المشاهد المتعلقة بالبهجة والفرح أو المواجهة، ثم يأتي مشهد النهاية بإضاءته النهارية الساطعة والقوية في هذه الصحراء الرملية والأصدقاء الثلاثة يواصلون العزف ليُؤكد المخرج على هذا التفاؤل والإصرار والاستمرار في المقاومة، وذلك رغم الجو العام الحزين وإخفاق أغلب الشخصيات في تحقيق أحلامها بدءا من موت ابن الحوذي، وهروب سعاد بعد رفض أحمد لها، وانفصال عباس عن زوجته التي هجرته من أجل رجل آخر، وعدم عثور سيد على عمل، ومقتل “علي بوبي” على يد أفراد العصابة ودفنه ليلا لئلا تعرف الشرطة، فرغم كل ما سبق تأتي النهاية في تقديري متناسقة مع طبيعة هذه الشخصيات. إنها محاولتهم وخط دفاعهم الأخير من أجل البقاء والمقاومة بالبهجة والغناء والعزف.

كان متوقعاً لرضوان أن يمتهن الفلسفة، خصوصاً بعد أن تقدم لدراسة الفن السابع بالمعهد العالي للسينما ولكن لجنة الاختيار رفضته، قيل وقتها أن نشاطه السياسي كان السبب، فاتجه رضوان لدراسة الفلسفة بكلية الآداب، وأصبح مندمجا بكل طاقته في الحركة الطلابية، وشارك في انتفاضة الخبز عام 1977، وتم القبض عليه مرتين كانت إحداهما عام 1981 عندما أمر السادات بالقبض على عدد من المثقفين.
رغم أنه اُستبعد من الدراسة في معهد السينما لكن الكاشف لم يبتعد عن الفن السابع، فكان يتابع ما تقدمه المراكز الثقافية السينمائية وكان يعلق ويشارك بالنقاش يكتب نقدا لما يراه، ويفكر في كتابة سيناريوات أفلام، إلى جانب دراسته الأساسية التي جعلته يتعمق في الفلسفة ويكتب بحوثه عن “ابن الفارض وابن العربي” مثلما انشغل فلسفيا بالواقع والثورة كما يظهر في بحثه “فلسفة عبدالله النديم”.. وتفوق رضوان وحصل على منحة للسفر لاستكمال دراسته العليا بالسوربون فتزوج على عجل من حبيبة قلبه لكي تلحق به بعد السفر لكنهم في المطار منعوه، وأعادته أجهزة الأمن من المطار، فكان لابد أن يبحث عن عمل ليُنفق به على أسرته، وأن يُعيد ترتيب مسار حياته، وأن يُعاوده التفكير في أن يلتحق بمعهد السينما الذي تخرج فيه بمشروع “الجنوبية” – نواة فيلمه العظيم “عرق البلح” – حاصلاً على درجة الامتياز وكان رئيس لجنة التحكيم شادي عبد السلام. ثم عندما خرج رضوان للحياة العملية التحق بالعمل مع يوسف شاهين كمساعد إخراج في “وداعا بونابرت”، و”إسكندرية ليه”. مثلما عمل مع مخرجين آخرين، وقدم مشاريع فيلمية تسجيلية للتليفزيون منها “الحياة اليومية لبائع متجول”، “نساء من الزمن الصعب”، و”يا ناس ياهو”. إلى جانب مشاريعه التي أُجهضت بوفاته، فقد كان عنده مشاريع كثيرة يبحث لها عن منتجين، منها عملان كان يرغب في تحويلهما إلى السينما من مؤلفات البساطي هما: “صخب البحيرة”، و”ليال أخرى”، إلى جانب مالا يقل عن ستة مشاريع سينمائية أخرى منها فيلمان من تأليف سيد فؤاد، وثمة مشروع فيلم ذي طابع سياسي بعنوان “نحن” عن المثقف وغربته وهزيمته في العالم الثالث.
كان رضوان الكاشف في أعماله يعكس حالات فنية شديدة الصدق، وشخصيات تبدو حقيقية من وقع تأثيرها وحيوتها، يعكس علاقة الإنسان بالمكان ويكشف إلى أي مدى تكون تلك العلاقة معقدة جداً ومحكومة بشروط قاسية، وقد ظل في الأعمال الثلاثة الروائية الطويلة التي قدمها قادراً على التعبير عن خصوصية الثقافة المصرية، جوهرها وهمومها، مفرداتها وجمالياتها. كان سيد اختيار الأزمنة القوية، القادر على إهمال كل زمن ضعيف. مثلما ظلت الطاقة التي كانت تميزه – وتدهش رفاقه – هي سره الخاص، حتى بعد رحيله.


إعلان