شادي عبد السلام .. الفلاح الفصيح
بقلم: حمّادي كيروم
“ليس سهلا على كل واحد أن يعبر إلى هذا المقام، إلا من كان شاعرا، فالعبور ليس سهلا إلا على العابرين ” هيديغر.
إن حياة الإنسان لا يمكن إن تقرأ بكاملها، على ضوء الأعمال التي ينتجها، غير إنه من الممكن رسم أتوبيوغرافيا فنية وفكرية لهذا المسار الحياتي المتعدد الذي يتميز به المخرج شادي عبد السلام.
إذا كان فلليني يمثل السينما الإيطالية، وبرجمإن يلخص السينما السويدية وربما الاسكندنافية، وبريسون يعتبر روح السينما الفرنسية، وتاركوفسكي يرمز إلى السينما السوفياتية، فإن شادي عبد السلام يمثل السينما المصرية أو العربية . وقد حاز شادي عبد السلام هذه الهالة الفنية العالمية من خلال فيلم المومياء، هذا الفيلم الظاهرة، الذي كان ولايزال يُختار من بين أهم الأفلام العربية والعالمية عبر تاريخ السينما. إن محاولة الاقتراب من المنجز السينمائي لشادي عبدالسلام لن يتأتى إلامن خلال وجوه متعددة:
المهندس المعماري
عرف تاريخ السينما المخرج السوفياتي شيرغي أزنشتاين، الذي يكفيه فخرا أن أخرج الفيلم الخالد ” المدرعة بوتمكين “، هذا الفيلم الذي حرمه النقد الأيديولوجي قيمته الجمالية لعقود من الزمن، لأن قوة هذا الفيلم تكمن في النبوغ الهندسي الذي نفذه مهندس القناطر أزنشتاين . لهذا لايمكن القبض على عمق وقوة وصلابة البناء الفني لأعمال شادي عبد السلام الوثائقية والروائية القصيرة والطويلة، دون الأخذ بعين الاعتبار نبوغه كمهنس معماري وكمصمم للديكور وللملابس. فبعد دراسته الجامعية بمصر وبإنجلترا بدأ شادي عبدالسلام حياته الفنية كمهندس ديكور في عدة أفلام أجنبية صورت داخل مصر وخارجها، كما صمم ديكور وملابس مجموعة من الأفلام المصرية كإن لها نجاح كبير على مستوى الوطن العربي، من أهمها “الناصر صلاح الدين “، ” بين القصرين “، “السمإن والخريف “، ” رابعة العدوية “.
إن عظمة وخلود فيلم ” الناصر صلاح الدين “ليوسف شاهين تأتي من مناخات هندسة الديكور ، وقوة التكوين ، وضبط الإيقاع المرئي الذي أعطى للبطل صلاح الدين الذي جسده الممثل أحمد مظهر ، مجده وهبته وقدسيته المحررة .كما إن بناء شخصية سي السيد التي يجسدها وباقتدار الممثل يحي شاهين في فيلم “بين القصرين “، وترسيخها في المتخيل الجمعي العربي، جاءت من التماثل بين اللباس والإكسسوارات والتفاصيل، التي تؤثث الفضاءات و الأجواء التي يتحرك فيها صلاح عبد الجواد بطريقة إمبراطورية.
إن نظرية المهندس شادي عبد السلام تتماهى مع نظرية نظيره شيركي أزنشتاين ، التي تعتبر أن الإنسان عبارة عن مسكن وملبس، فبيت الإنسان وشكله الخارجي، علامات تعبيرية أساسية في الفنون البصرية. ويدعم كاستون باشلار في كتابه ” شعرية الفضاء ” نظرية شادي عبد السلام ويعطيها أبعادا نفسية ووجودية متعددة.
إن نبوغ شادي عبدالسلام وعقليتة الهندسية والشعرية، جعلا منه صاحب مدرسة في بناء معمارية الفيلم، كما أن معرفته ، المبنية على البحث والتنقيب والحفر الأركيولوجي في تصميم اللباس وتفصيله على النفس البشرية وعلى الشخصيات، ساعدته على فك الإشكالية المرتبطة بفن الإخراج السينمائي، والبحث عن تأصيله كلغة صافية، ترى أن مأزق التعبير السينمائي، يكمن في كون السينما فن الدواخل الإنسانية ،ولكن ليس لها إلا الخارج للتعبير عن ذلك. إن ذكاء شادي وعبقريته حققت الجدلية بين الداخل والخارج الإنساني أي بين المحتوى والشكل بمعناه الهيجلي .
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
الرؤية الوثائقية
يعلمنا شادي عبد السلام من خلال أفلامه الوثائقية كيف نرى وكيف ننظر وكيف نكتشف الحقائق المنسية. إن رؤيته للعالم المسندة بالتنقيب والبحث في المتاحف ودراسة المنمنمات وفن العمارة، هي رؤية جمالية ، تتجاوز المحاكاة، لتجعل من صور الواقع ، التي تؤزمها الكاميرا، من خلال التنظيم والمونتاج ، انعكاسا لواقع يعيش على حافة الخطر المتربص: خطر العدو الصهيوني في فيلم “جيوش الشمس”، خطر السلطة في فيلم “كرسي توت عنخ آمون “، خطر انهيار المجد وكسوف الحضارة المصرية في فيلم ” الأهرامات وما قبلها ” وفيلم “رع مسيس الثاني ” ، وخطر اندثار التراث والسعي إلى المحافظة عليه في فيلم ” آفاق”. إن الرؤية التشكيلية عند شادي عبد السلام هي في نفس الوقت رؤية تأملية، تبني بالتفاصيل لوحات وأروقة لوقائع وأمكنة وأحداث، وتستغرق في تفاصيل الوجوه والأيادي والحركات والنظر، لتتفوق على الواقعي وتتجاوزه، من أجل استعادة المجد الحضاري الفرعوني المصري، واستشفاف المستقبل الذي يستحقه الإنسان المصري المعاصر حفيد هذه الحضارة ووارثها.
شادي عبد السلام .. المصري الفصيح
لو أن شادي عبد السلام أنتج فيلم ” الفلاح الفصيح ” فقط ، لكان كافيا بأن يدخل به إلى المجد السينمائي من بابه الواسع، ويكون شادي عبد السلام بإبداعه لهذا الفيلم القصير شبيها بالشاعر الفرنسي أرثير رامبو، الذي كتب قصائد قليلة جعلته في مصاف الخالدين، وسكت قبل أن يصل سن العشرين، وظل صمته لغزا بليغا.
يعتبرفيلم ” الفلاح الفصيح ” من الأفلام الخالدة التي أعطاها الزمن قيمتها التاريخية والراهنية. استوحى شادي عبدالسلام فيلمه القصير هذا من إحدى البرديات الفرعونية القديمة والمعنونة “بشكوى الفلاح الفصيح “. يحكي الفيلم قصة فلاح مصري سرق منه ماله ومتاعه أثناء رحلة الطريق، وشد عزمه إلى مقابلة فرعون مصرالذي خاطبه وجها لوجه:
“أيها الحاكم خلصني من شقائي
أيها الإله ذوالوجهين، يا ابن الشمس الخالد المخلد
إن إقامة العدل كالتنفس
أقم العدل
فالعدل أخو الخلود “
يثبت هذا الفيلم من خلال لغته المبتكرة ، أن السينما كانت في حاجة إلى مخرجين شعراء قادرين على الخروج بهذا الفن من بدئها الحكائي. وكأن العدل يحتاج إلى لغة الشعر ليكشف عن الكائن الموجود وعن مقام الوجود.
اعتمد شادي عبدالسلام في إخراجه لهذا الفيلم التحفة ، بناءات بصرية وفرت له المطابقة بين الماهية والتعبير، حيث العين ترى وتسمع وتتعلم الاستبصار، من أجل اكتشاف العدل والحق. إن سينما شادي عبد السلام، تشعرك بالوجود ، بعد أن تستعيد بالشعر سؤال الوجود، من خلال تمثيل وتشخيص فرعون الإله، ينصت إلى شكوى فلاح مصري فصيح، وستصبح هذه الشكوى دستورمملكة الفرعون من أجل أن يحيا العدل ويستتب الأمن.
كتاب المومياء وصية شادي عبد السلام الأخيرة
يحس المتفرج أثناء مشاهدة فيلم المومياء، وكأنه يدخل إلى مغارة أفلاطون، ليشاهد الظلال والخيالات وهي تنعكس على الجدران الحجرية ، فينتابه شعور بأن السينما خلقت مع هذا الفيلم “يوم أن تحصى السنين “
استوحى شادي عبد السلام حكاية الفيلم من قصة اكتشاف مخبأ المومياوات بالديرالبحري سنة 1881، فبنى الصراع والتوتر الدرامي من خلال الخلاف القائم بين أفراد قبيلة الحربات، المكونة من الأب المتوفى والابن ونيس ( أحمد مرعي) والأخ المقتول والأم والعم وأبناء العم (القتلة) والأفندية والرجل الغريب، والبحث عن سر المقبرة، وسرقة وتهريب الكنوز الفرعونية.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
يبدأ الفيلم بمسح بانورامي للتصاوير الجدارية المنحوتة بدقة فائقة على المادة الصخرية، يرافقه صوت يتلو ما تيسر من “كتاب الموتى ” :
“أعطني اسمي في البيت الكبير…
فضياع الاسم يساوي ضياع الشخصية “
تلج الكاميرا بطن الأرض لتكشف عن سر المقابر الفرعونية. “لقد كان الإنسان المصري القديم يعتقد في فكرة تولد الحقيقة من الصورة ، فصورة الشخص يمكن أن تصبح وسيطا للخلود، ولذا أخذ الفنان في اعتباره انتقاء المادة الأكثر صلابة، والأقدر على البقاء . ومن هذه الوجهة استخدم الحجر في نحت التماثيل وتشييد المعابد “. غير أن أبناء عم ونيس بعدما اغتالوا أخاه وتربصوا به هو كذلك وأجبروه على الفرار، دنسوا المعابد ونهبوا المقابر وأتلفوا المومياءات ، بحثا عن الذهب ، من أجل بيعه للمهربين الأفندية .
راهن شادي عبدالسلام في فيلم المومياء، على شجاعة ومغامرة التصوير، من خلال النظرة المشهدية وتعدد زوايا النظر والبناء المعماري، الذي يوحي بالحس اللمسي للكتلة الصخرية، ليؤسس بذلك بعدا احتفاليا بجمالية الاستبصار والشهادة، من أجل اختراق وفضح النهب التراجيدي المنظم لتاريخ مصر العظيم ، ومن أجل مقاومة الهدم والدمار والتخريب الذي يحصل للتراث والحضارة المصرية.
يتميز فيلم المومياء بالعناية الفائقة بالصورة، إلى حد أن الصورة- اللوحة، تصبح هي بطلة المشهد ، وفي اهتمام شادي عبد السلام بالصورة، يكمن سر اهتمامه بالمكان والإنسان وما يكشفانه من صراع وتفاصيل هذا الصراع الأبدي. تتحول الشخصيات في هذا الفيلم إلى نظرات، حيث تنتقل العيون بين الصخور والسراديب والأعمدة لتتبادل الأسرار والأخبار، في لعبة الاختفاء والتجلي، وبين تناقض الأبيض والأسود ، لخلق مناخات تراجيدية جنائزية، تكشف هول وخطورة الفعل المقترف وأثره على المستقبل.
نستنتج من خلال ما سبق أن هذا ” الفرعون الأخير “، الذي استعمل لغة الضوء، ليستنهض السينما، لتقول وتعرض تاريخ مصر وحضارتها، يهدف من وراء ذلك، إلى بعث هذه الحضارة من جديد من أجل تعريف المصريين بتاريخهم وبحضارتهم، بواسطة لغة القرن العشرين، لأنه يؤمن أن المستقبل رهين باستنهاض النفوس والضمائر، من أجل البعث والخلود، الذي حلم به الفراعنة القدماء ،الذين آمنوا به ووضعوا له العدة العلمية والعقائدية، التي أفسدها الأبناء والحفدة : “قضيتي هي التاريخ الغائب إن المفقود …..لا بد أن نوصل بين إنسان اليوم وإنسان الأمس لنقدم إنسان الغد “
تعتبر الأعمال غير الكاملة لشادي عبد السلام مشروعا حضاريا مكتملا، فهو ينتمي بمشروعه هذا إلى طينة السينمائيين الشعراء المفكرين، الذين يعتبرون، من خلال لغتهم التعبيرية والفكرية، أن مهمة الإبداع هي استعادة سؤال الوجود.
فقد حقق بالسينما وفي السينما تاريخية الإنسان ، وبهذا فهو ينتمي إلى السينمائيين المستقبليين، وهم سينمائيون عابرون يأتون في ظروف خاصة، سابقة إن متأخرة، يلقون كلمتهم إن صورتهم فينا ثم يرحلون .
رحل شادي عبد السلام كشخص، ولكنه لا زال حيا كفكر وكروح مصرية. وقد ترك لورثة هذا الفكر مشروع “إخناتون”الفرعون العظيم. ولا شك أن في قول الفنان محمد صبحي : “شادي عبد السلام علمني أن أكون مصريا ….لكنه تخلى عني بموته ” ، ما يكفي من حرقة الغياب ، لنقرأ ما تيسر من كتاب الموتى ..
“انهض
فلن تفنى
لقد نُوديت باسمك
لقد بعثت “