نور الشريف .. النجم المثقف
أمير العمري
يتساءل الكثيرون عن دور النجم: ما أهميته، ولماذا يتمتع بالنجومية، وما معنى أن تكون نجما، وماذا يترتب على هذا من مسؤوليات وواجبات. هذه التساؤلات كلها مشروعة ومفهومة فى ضوء أن النجم يلعب دورا بارزا فى حياة الآخرين، بل ومن الممكن أن يصبح بالنسبة للأجيال الجديدة، مثلا أعلى يحتذى في سلوكه ومواقفه، سواء بالنسبة لاختياراته الفنية أو فى نظرته العامة إلى قضايا الناس والمجتمع.
فى حياتنا نجوم كثيرون يتمتعون بالشهرة وتسلط الأضواء حولهم إلى درجة أن كل ما يقومون به في حياتهم الشخصية سرعان ما يتحول إلى بؤرة اهتمام من جانب الآخرين، وهذا أمر طبيعي، فالنجم يقوم بدور ما فى الحياة العامة. إنه شخصية تمتلك الكثير من القدرة على التأثير، ويصبح بالتالي من حق الجمهور أن يتساءل عن ما يفعله فى حياته الخاصة.
كان الممثل والنجم الكبير الراحل نور الشريف، أحد النجوم الذين لفتوا الأنظار فى الساحة الفنية منذ ظهوره الأول فى المسلسل التليفزيوني “القاهرة والناس” فى أواخر الستينيات، وتنبأ له الكثيرون وقتها بالتألق والوصول إلى النجومية. فقد كانت موهبته لا شك فيها، وكانت موهبة يتضح من بين ثناياها، مدى ثقافته وإلمامه الكبير بأصول الفن الذي يتعامل معه، أي فن التمثيل والتجسيد الدرامي.
نجم الطبقة الوسطى
لم يكن نور الشريف مجرد ممثل عبر حياتنا رغم تألقه الكبير في السينما والمسرح والتلفزيون على مدار ما يقرب من خمسين عاما، فقد كان نموذجا لأحد نجوم الطبقة الوسطى المصرية التي كانت، قبل أن تتهاوى بفعل ما تعرضت له من ضربات قاسية أدّت إلى هجرة الملايين من أبنائها للعمل في الخارج وانعكاسات تلك “الهجرة”على الحالة الاجتماعية، القوام الحي للمجتمع المصري.
وكما استطاع نور الشريف أن يعبر عن طموح شباب الطبقة الوسطى في مسلسل “القاهرة والناس″ (1967)، استطاع فيما بعد أن يعبر أيضا عن سقوط تلك الطبقة واغترابها في أكثر من فيلم لعل أشهرها “سواق الأتوبيس″ لعاطف الطيب، ثم “سكة سفر” لبشير الديك.
نور الشريف، لم يكن مجرد ممثل محترف، يجيد الصنعة، بل كان أساسا، هاويا عظيما لفن التمثيل، وعندما كان يتحدث عن أدواره، كان يبدو مثل العاشق المتيم الذي يتطلع إلى أن يبذل أقصى ما لديه لكي يجيد ويتألق.
وكانت روح الهواية هي التي جعلته يصعد ويصل إلى أعلى مراحل النجومية، لكنه ظل نموذجا للممثل- النجم، فنجومية نور الشريف نبعت من علاقته المباشرة بالناس، بقدرته على تجسيد كل الشخصيات “الشعبية” التي تجسد معاناة البسطاء.
استطاع نور الشريف خلال ما يقرب من خمسين عاما، أن يحافظ على نجوميته، ليس اعتمادا على الدعاية بأي طريقة وبكل الطرق، كما يفعل الكثير من النجوم في الساحة الفنية، بل اعتمد أساسا على التجويد والإجادة، وعلى التنويع فى اختيار أدواره بحيث نجح فى إثبات أنه ممثل جيد أولا قبل أن يكون نجما.
تعلم نور الشريف (أو محمد جابر) كثيرا من الأساتذة الكبار فى السينما المصرية: محمود المليجي وحسين رياض وشفيق نور الدين وزكي رستم. لقد تعلم منهم أن الإجادة الفنية في الأداء، والوصول إلى قلوب الجماهير، أمران يقتضيان الكثير من الصبر والتضحية وبذل الجهد فى فهم الدور والتدرب عليه، وتثقيف نفسه، ومشاهدة أعمال السينما العالمية واستيعابها والإقدام على الجديد.. وقد تعلم من جيل العمالقة أيضا فضلا عن كل ذلك، التواضع، فالغرور بالنسبة لأي فنان معناه النهاية.
قام نور الشريف بكل الأدوار: البطل الشرير، والبطل الطيب، والشاب الباحث عن الحقيقة، والرجل العائد من الخارج لكي يواجه فساد المجتمع، والصعلوك الذي يبحث عن الصعود السريع، والطالب الجامعي الثائر، والأب فاقد الذاكرة، والموظف الذي يريد العيش في أمان لكنه يجد نفسه منجرفا نحو قلب الواقع، والمخرج السينمائي الذي يعاني من تسلط البيروقراطية، والمفكر الذي يدافع عن أفكاره مهما كان الثمن، وغير ذلك من الأدوار التي تطورت مع تطور طريقة تعامل السينما مع الواقع في ضوء التقلبات والتغيرات الاجتماعية والسياسية المتعاقبة في مصر. كذلك أدى نور أدوار كثير من الشخصيات التي لا تزال تعيش فى وجدان الناس: طه حسين والعقاد والمتنبي وابن خلدون وعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد، كما بلغ قمة نجوميته وشهرته وقربه من الجماهير في العالم العربي كله، مع المسلسل الاجتماعي الذائع الصيت “عائلة الحاج متولي” (2001).
تعدد المستويات
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
تنوعت أفلام نور الشريف وتعددت مستوياتها. وقد أصبح نور الشريف في فترة من الفترات، وتحديدا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، القاسم المشترك لكل أفلام جيل الثمانينيات في السينما المصرية. فقد عمل مع علي بدرخان وسعيد مرزوق ومحمد خان وداود عبد السيد وعاطف الطيب وبشير الديك وعلي عبد الخالق، كما عمل مع أعلام الجيل السابق من المخرجين: عاطف سالم وحسن الإمام وكمال الشيخ ويوسف شاهين وصلاح أبو سيف. قام نور الشريف ببطولة فيلم “ضربة شمس” أول أفلام محمد خان، ثم “الصعاليك” أول أفلام داود عبدالسيد، و”أهل القمة” لعلي بدرخان، و”العار” لعلي عبدالخالق.
وكان يواصل أيضا العمل في الأفلام الشعبية أمام العمالقة مثل دوره في “قطة على نار” أمام فريد شوقي، و”الكرنك” أمام كمال الشناوي، و”السكرية” أمام يحيى شاهين.
ولايزال الجمهور يذكر تألقه فى فيلم “الكرنك” (1976) لعلي بدرخان الذي قام فيه بدور الطالب الذي يتعرض بسبب رفضه هزيمة 1967 لأبشع أنواع التعذيب على أيدي رجال المخابرات فى العهد الناصري، ثم كان دوره فى فيلم “السكرية” لحسن الإمام المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة، والذي قام فيه بدور كمال عبد الجواد.. أقرب شخصيات “الثلاثية” إلى قلب نجيب محفوظ. وهناك أيضا دوره فى فيلم “حدوتة مصرية” حيث قام بدور يوسف شاهين نفسه فى واحد من أعظم أدواره، وكاد أن يحصل عنه على جائزة التمثيل فى مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. وقد حصل على جائزة أفضل ممثل عن دوره فى فيلم “سواق الأتوبيس” (1982) لعاطف الطيب فى مهرجان نيودلهي السينمائي.
لكن نور الشريف لم يتوقف عند أدوار البطولة فى الأفلام الشعبية التي كانت ولاتزال، تلاقي إقبالا وتعاطفا من جانب المشاهدين، بل كثيرا ما تحمس أيضا للقيام ببطولة الكثير مما يعرف بـ “الأفلام الفنية” أي تلك التي لا ينتظر أن تحقق الكثير من النجاح التجاري مثل دوره فى فيلم “البحث عن سيد مرزوق” لداود عبد السيد، و”زوجتي والكلب” و”الخوف” لسعيد مرزوق” و”قلب الليل” لعاطف الطيب. في هذه النوعية من الأفلام، ترك نور الشريف لنفسه الكثير من الحرية فى الإضافة إلى الشخصية التي يجسدها على الشاشة، وكان يدرس خلفياتها ويعايشها فترة كافية تجعله قادرا على الإبداع والتجويد من فيلم لآخر. هناك مثلا دوره الشهير فى فيلم “سواق الأتوبيس” الذي اقتضى منه التردد يوميا على مواقف الباصات للتدرب على قيادتها ودراسة كل تصرفات السائقين وطريقتهم فى الحديث وارتداء الملابس.. إلخ والنتيجة أننا نشاهد فى الفيلم شخصية تطابق الواقع كما يجسدها نور الشريف بدلا من أن نشاهد نور وهو يتقمص شخصية غير شخصيته كممثل. وتلك هي عظمة الأداء حقا.
الشخصيات المركبة
وربما لم تكن أهم أفلام نور الشريف هي أفلام الاحتجاج السياسي الاجتماعي الميلودرامية المباشرة، بل تلك التي تتعامل مع البعد الفلسفي، والتي تخفي أكثر مما تكشف، وتحمل أبعادا مركبة وتلقي بظلال أبعد من الواقعي، طارحة تساؤلات وجودية كما في “الشيطان يعظ” و”قلب الليل” و”البحث عن سيد مرزوق”.
وكان نور الشريف يجد نفسه أكثر في مثل هذه الأفلام، فقد كان نموذجا للممثل المثقف الذي يضفي على الدور من ذاته، يتماهى معه ويمنحه من ثقافته ومن فهمه الخاص له، ولذلك برز أكثر في الأدوار المركبة.
من أهم الأدوار التي قام بها نور الشريف دوره فى فيلم “السراب” (1970) المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، وفيه يقوم بدور شاب عاجز جنسيا نتيجة لظروف اجتماعية قاسية ومعاناة نفسية مرتبطة بما يعرف فى علم النفس بـ “عقدة أوديب”. وكان نور وقت تصوير الفيلم لايزال شابا يافعا، لكنه أدى الشخصية بفهم كامل لأبعادها المعقدة.
وفى فيلم “الخوف” (1972) لسعيد مرزوق، نراه شابا يتطلع إلى الزواج من خطيبته (سعاد حسني)، يحلم بالسكن فى شقة فى عمارة سكنية لاتزال لم يكتمل بناؤها، لكنه فى حياته الخاصة يعمل مصورا فوتوغرافيا، بعد أن هاجر من إحدى مدن قناة السويس الي القاهرة بسبب ظروف الحرب في عام 1967، ولا يزال يعاني م�� الآثار النفسية للهزيمة. كان دوره في هذا الفيلم مركبا، مزيج من الحالة الفردية والتعبير الجمعي عن المأزق السياسي. وقد نجح نور فى الاختبار.
أما دوره فى فيلم “الصرخة” (1991) للمخرج محمد النجار، فهو دور شاب أصم أبكم يريد أن يعيش حياة مستقيمة، يتزوج وينجب، لكنه يقع أولا فى براثن امرأة تتزوجه طمعا فى ماله القليل الذي حصل عليه بشق الأنفس من عمله المتواضع فى “ورشة للسيارات”، ثم يتعرض للإغواء والغواية ويقاوم فى إباء وشمم، وتكون النتيجة أنه يدفع الثمن غاليا. هنا برع نور فى تقديم شخصية الأبكم الذي لا يتكلم مؤديا الدور بعينيه وحركات يديه ووجهه فى صورة أخاذة، وربما كان دوره فى هذا الفيلم هو ما كفل للفيلم الصمود والنجاح الجماهيري رغم ضعف السيناريو، فقد كان نور من نوعية الممثلين القادرين على الإضافة إلى الأدوار التي يؤدونها، من ثقافته وخبرته في الحياة، وعلاقته الوثيقة بالشخصية التي يدرس كل جوانبها كما أشرنا.
من الأدوار الاجتماعية إلى التاريخية إلى الكوميدية الخفيفة كما فى فيلم “غريب فى بيتي” (1982) لسمير سيف، إلى المسرح الذي كان وراء تجارب طليعية جادة فيه مثل مسرحية “بكالوريوس فى حكم الشعوب” التي أنتجها وقام ببطولتها، ثم فى مسرحية “سهرة مع الضحك”، إلى التليفزيون الذي قدم له أحد أهم المسلسلات وهو مسلسل “أديب” الذي جعل شهرته تطبق الآفاق فى العالم العربي، لدرجة أن الناس ظلوا ينادونه لفترة بـ “أديب” بدلا من اسمه الذي عرف به كممثل، وهو بالطبع غير اسمه الحقيقي “محمد جابر”.
المستوى الشخصي
على المستوى الأخلاقي، عُرف عن نور الشريف أنه كان انسانا شديد التواضع، يرحب بالمناقشة مع الآخرين، يحترم الرأي الآخر ويقدره، يقبل العمل مع المخرجين الشباب المبتدئين دون أن يتعالى عليهم. ولم يعرف عنه فى أي وقت انغماسه فى الشللية التي تسود الوسط الفني، أو تقريبه لأشخاص معينين على حساب آخرين. وكان نور أيضا واضحا فى مواقفه، يحترم تعهداته ويفي بوعوده الفنية، بل ويبذل أقصى جهده لإنجاح العمل الذي يشترك فيه، ولا يقلل أبدا من قدر العاملين معه سواء من زملائه الممثلين، أو من الفنيين، صغارا وكبارا.
وشأن أي فنان حقيقي مهموم بقضايا وطنه لم يكن نور الشريف من نوعية الممثلين (المتماثلين) مع السلطة، الذين يهللون ويطبلون للحكام والمسؤولين، فقد كان مستقلا في مواقفه التي كانت تميل إلى اليسار، وإلى النقد السياسي وقول كلمة الحق عندما يقتضي الأمر. كان نور في هذا الموقف، متسقا أولا مع نفسه ومع أصوله الطبقية وانتمائه الفكري كمثقف مستقل، كما كان جزءا من قطاع عريض من المثقفين والفنانين المصريين الذين صنعوا بعد هزيمة 1967، ما يمكن أن نطلق عليه “تيار الوعي الجديد”.
لا شك أن نور الشريف سيبقى في ذاكرة عشاق السينما في العالم العربي طويلا، تماما كما ظلت ذاكرة عبدالحليم حافظ باقية في عالم الغناء.