“نتنياهو في حرب”.. إرث من الكراهية والعنف والصدام مع العدو والصديق

 

من وحي تاريخ رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” المليء بالصراعات والحروب، يقترح المخرج “مايكل كيرك” فكرة إنجاز بورتريه شخصي عن “نتنياهو”، يوجز خلاله بصريا جوانب من حياته الشخصية وتكوينه الفكري، لمعرفة طبيعة المحرك الداخلي الذي يدفعه على الدوام لإشعال الصراعات، وتفسير التزامه بخط سياسي متشدد متوافق مع نظرة متشائمة إلى العالم، وإحساس قهري بخطر دائم يهدده ويريد النيل منه ومن يهوديته.

لم يكتفِ الوثائقي الأمريكي “نتنياهو في حرب” (Netanyahu at War) بتناول كل تلك الجوانب فحسب، بل توقف متأملا السجالات والتعارضات الحادة بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” وإدارته، ومن بين أبرزها الموقف من البرنامج النووي الإيراني، والاتفاق الذي أبرمه “أوباما” مع طهران.

يبحث الفيلم في صراعات المنطقة، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي، ويحاول تكثيفه بشكل مذهل، بالرغم من المساحة التاريخية الواسعة التي عمل عليها، وجنّدها لتفسير وتحليل أكثر أحداثها دراماتيكية. وقد ساعدته الإمكانات الإنتاجية الكبيرة على إشراك شخصيات مهمة في الفيلم، والحصول على أشرطة فيديو شخصية نادرة، تحمل معلومات ظلت محصورة سنوات طويلة على دوائر ضيقة، لكنها بفضل الفيلم غدت معروفة للعالم، وساهمت في رفع مستواه من وثائقي باحث في الجانب الشخصي إلى مُنقّب في التاريخي التحليلي.

“الرجل الذي أوقف الخطر المدمر لإسرائيل”

ينطلق المخرج “مايكل كيرك” من خطاب “نتنياهو” أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي الذي راح يؤلبهم فيه بشكل موارب ضد الرئيس “أوباما”، ويشجعهم على منعه من تنفيذ خططه ومشاريعه السياسية المتعارضة مع مصالح إسرائيل، وخاصة تلك المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، لكون هذه الخطاب يكشف جانبا من طبيعة شخصيته العدائية وصلافته السياسية، ويلخص الإشكال الذي سيبني عليه معمار نصه السينمائي، ثم ينطلق منه إلى مجالات حيوية شديدة الصلة بالشخصية (البورتريه) وبالمدارات التي يتحرك وسطها.

يحيل كثير من الخبراء السياسيين والمستشارين السابقين المشاركين في الفيلم خطاب “نتنياهو” المتغطرس الذي تجاوز فيه الأعراف الدبلوماسية وفروض احترام الدولة الصديقة الأقوى في العالم، إلى طبيعة تكوينه وقناعته المطلقة بصحة الدور التاريخي الذي يلعبه، ويريد من خلاله كتابة مجده الشخصي.

خطاب نتنياهو أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي الذي راح يؤلبهم فيه بشكل موارب ضد الرئيس أوباما

لقد دفعه هاجس الحصول على لقب “الرجل الذي أوقف الخطر المدمر لإسرائيل” إلى أقصى حد، فلم يعِر اهتماما لغضب “أوباما” منه، ولا لنفرة فريق عمله الذي وجد في تصرفاته ما يدعو لوقفها، وقفة قصيرة على منبر أمريكي تبعها تأزم شديد بين رجلين مختلفي التكوين والمرجعيات، أحدهما رضع مع حليب أمه الخوف وكراهية الآخر، والثاني -رغم ما يمثله من نفوذ إمبراطوري- اقتدى بتجارب قادة كبار امتازوا بالحكمة والأمل، مثل “نيلسون مانديلا” و”مارتن لوثر كينغ”.

ستكشف التطورات اللاحقة تصرفات كل من الرجلين إزاء الآخر، وما حققه “نتنياهو” من نتائج في حرب أشعلها ضد رئيس أمريكي تميز بالتماسك والإحساس القوي بالتفوق النابع من قوة الدولة التي يقودها، بحسب شهادات خبراء استعان بهم الفيلم الوثائقي لرسم تخطيطات تمهيدية لكلا الرجلين، يمكن إضافتها إلى بقية عناصره الفنية لتقوية متنه الروائي، وتعزيز حيوية تحركه في الحقول الشخصية، بوصفها خيارا سينمائيا أراده لنفسه.

ابن أستاذ التاريخ السوداوي المتشدد.. جينات الكراهية

مثلت مشاركة “نتنياهو” في الوحدة الخاصة التي اقتحمت طائرة “سابينا” بعيد اختطافها من قبل أعضاء منتمين إلى منظمة “أيلول الأسود” الفلسطينية عام 1972، علامةً فارقة في تاريخه العسكري والشخصي، لقد جعلته الرصاصات التي أصابت ذراعه أثناء الاقتحام بطلا قوميا يستقبله رئيس الدولة ويمنحه وساما، وستعزز تلك الرصاصات إسرائيليته بعد انقطاع عنها، بسبب وجوده الطويل في الولايات المتحدة الأمريكية.

بينما يرسم “نتنياهو” بقية مسار حياته، يرجع الوثائقي الأمريكي “نتنياهو في حرب” إلى طفولته التي قضى قسطا كبيرا منها في أمريكا بصحبة والده، بعد تركه إسرائيل غاضبا، بسبب رفض جامعاتها تعيينه فيها أستاذا لمادة التاريخ، لمواقفه المتشددة والمتشككة.

الوثائقي يسجل فترة نتنياهو بعشرات المواد البصرية النادرة

لقد انتقلت نظرة والده السوداوية للعالم إليه وإلى بقية إخوته، فآمن بنظرية المؤامرة الدائمة ضد الشعب اليهودي، واعتبر العالم كله كارها لهم ولساميّتهم، متحيِّنا الفرصة المناسبة لإبادتهم، لم يقتنع بوجود أصدقاء لهم في العالم، ومن التاريخ أخرج ما يعزز قناعته بأن على الشعب اليهودي أن يأكل الذئاب قبل أن تأكله، فربى أولاده على كراهية الآخر والخوف منه، وأن لا يثقوا إلا بأنفسهم.

“إسرائيل الطيبة والعرب الأشرار”.. سلّم النجاح السياسي

يكرّس “نتنياهو” صباه وشبابه للدراسة والعمل على تعزيز وجود إسرائيل، عبر إظهارها أمام العالم دولةً ضعيفة مسالمة يريد الأعداء المحيطون بها تدميرها، وقد تعلم أداء دوره من أبيه، وعززت حرب 1967 قناعته وصحة رأيه، ونتيجة لذلك فإنه لم يزل يصور للعالم بعدها العرب والمسلمين معتدين طامعين اتحدوا ضدهم، وأن انتصار إسرائيل نابع من قوة إيمانهم الديني وحقهم التاريخي في كل الأراضي التي استولوا عليها.

يعزز مقتل أخيه مكانته الشخصية، وسيتوافق الدور الدعائي والتحريضي اللذين كُلف بلعبهما في الولايات المتحدة تماما مع مزاجه السياسي وتكوينه الشخصي، وينسجم بدرجة كبيرة مع الأفكار التي تُغذّي بها دولة الاحتلال أبناءها، وتطلب منهم إقناع العالم بها.

صورة تجمع نتنياهو وأوباما

خضوع “نتنياهو” لهذه السياسة بالكامل، ودفاعه المستميت عن إسرائيل، وربطه للإرهاب بالعرب في كل مناسبة، وترويجه لفكرة “إسرائيل الطيبة والعرب الأشرار”؛ هو ما أدى إلى تعيينه متحدثا باسم السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ثم سفيرا لها في الأمم المتحدة في سن الثلاثين، تمهيدا لدوره المنتظر في السياسة الداخلية، فقد عُرف عنه تشدده وحماسته ليهوديته، بل قدرته على استغلال طلاقة إنجليزيته في الظهور عبر وسائل الإعلام وبث أفكاره عبرها بشكل مقنع.

محاربة السلام ووأد الحلول السلمية.. رجل ضد الجميع

يسجل الوثائقي فترة بداية “نتنياهو” بعشرات المواد البصرية النادرة، وبكمّ كبير من المراجع والوثائق، من بينها ما له صلة بحرب 1967، وبقية الحروب العربية الإسرائيلية والانتفاضات الفلسطينية، ودور الأحزاب اليمينية المتشددة في نشر الكراهية ضد العرب، وكيف تعاون معها “نتنياهو” بعد توليه مراكز متقدمة في حزب الليكود، مما جعل مادته التاريخية الأشد ثراءً في الفيلم لمتانة علاقتها بالموضوع الأساس، وهو “نتنياهو” وحروبه، وكعنصر مقوٍّ لمتانة معمار الفيلم السينمائي، وجمال أسلوبه الإخراجي الجامع بين إبهار الصورة بكل مواصفاتها الأمريكية، وقوة العمل على التفاصيل، بالمواصفات الأوروبية المعروفة.

حروب “نتنياهو” كثيرة، وقد يكون أكثرها بشاعة حربه على السلام، فقد وقف طيلة حياته السياسية في معارضة كل مسعى أراد حل الصراع بطرق غير عنيفة، كان كلّي الإيمان بما أخذته دولته، ووجد أنه من غير المنصف إرجاع ما أُخذ من العرب إليهم بأي وسيلة كانت.

لهذا فقد أشهر حربه على اتفاقية أوسلو وأراد إفشالها بكل الطرق، إما بالمماطلة، أو بالشعارات الجوفاء، أو التخويف من نتائجها، ومن الدولة الفلسطينية التي وعدت بإقامتها على حدود 1967، وحين أزِفت اللحظة التي وقّع فيها ياسر عرفات و”إسحاق رابين” الاتفاقية، أشعل حربا عليها وعلى “رابين”، وكانت الاتفاقية سببا في اغتيال “رابين”.

وفي فصل أوسلو نشهد نشوب حرب مع رئيس أمريكي شارك بقوة في العملية، واعتبر اغتيال طرفها الإسرائيلي موجها ضده شخصيا.

قصف مفاعلات إيران.. حرب أطفأها البيت الأبيض في مهدها

يكشف الوثائقي أسرارا تتعلق بالتصعيد والتحريض ضد اتفاقية أوسلو، وكيف رفض “نتنياهو” مطالب الإدارة الأمريكية ومساعي الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” للتخفيف من سخونة الشارع الإسرائيلي ضد الاتفاقية.

كما يراجع الفيلم تاريخ علاقة الإدارة الأمريكية به خلال فترة حكم “أوباما”، فقد كان التناقض واضحا بين توجهات محافظة شديد الرجعية، وأخرى ليبرالية براغماتية تريد خلق مناخ سياسي دولي يسمح بإيجاد حلول سلمية، بدلا من خوض الحروب، وكانت معالجة قضية المفاعلات النووية ضمن هذا التصور.

الرئيس نجادي يزور مفاعلات إيران النووية

المثير هو حصول الوثائقي على تفاصيل الخطط العسكرية التي أعدها الإسرائيليون لقصف مواقع المفاعلات النووية داخل إيران، وكيف أحبطها “أوباما” من خلال منع إعطاء الضوء الأخضر لهم. لقد وجد العسكريون الإسرائيليون في غياب ضمانة أكيدة لتدخل أمريكي إلى جانبهم -في حالة عجزهم عن تنفيذ خطتهم- مانعا قويا لشن هجومهم، فقرروا تأجيله.

“هل يظن هذا أنه قائد الدولة الأعظم في العالم؟”

أثارت سياسة الرئيس الأمريكي غضب “نتنياهو” فصار يذهب إلى واشنطن من أجل كسب تأييد الجالية اليهودية لمساعيه، وتحريض الجمهوريين على قراره بحل قضية النووي الإيراني بالطرق السلمية. وثمة حرب أخرى خاضها “نتنياهو” تزامنت مع الربيع العربي، حين وقف ضده بقوة، على عكس “أوباما” الذي تحمس له.

واحدة من متع مشاهد الفيلم الأمريكي معرفة تفاصيل موقف “أوباما” من الحراك الجماهيري العربي، وكيف أراد له أن ينجح ويفتح مسارا جديدا لتطور المنطقة نحو الديمقراطية، في حين وقفت إسرائيل على الضد، وأرادت فشله، حتى لا يأتي على حساب علاقاتها الجيدة بالرئيس المصري مبارك على وجه الخصوص.

البورتريه المرسوم لنتنياهو معتم سوداوي مثل روحه وأفكاره التي تغذى عليها

كان هاجس “نتنياهو” الأكبر هو إيران وبرنامجها النووي، فراح يعبئ العالم ضد الديمقراطيين ويتحالف أثناء الدورة الانتخابية الثانية لـ”أوباما” مع المرشح الجمهوري، ويطالب الجالية اليهودية بدعمه، بل كرّس الملايين للدعاية له، وعشية الانتخابات كان متيقنا من نجاح خطته، لكنه فوجئ باكتساح “أوباما” له، فشعر بخيبة أمل وانكسار ترجمهما إلى صلافة ووقاحة عبّر عنهما في أكثر من لقاء مع الإدارة الأمريكية، لدرجة تساءل فيها مرة أحد مستشاري الرئيس: هل يظن هذا أنه قائد الدولة الأعظم في العالم؟

“أوباما” و”نتنياهو”.. مقارنة بين رجال الحكمة والكراهية

البورتريه المرسوم لـ”نتنياهو” معتم سوداوي، مثل روحه وأفكاره التي تغذى عليها، ولنقل تفاصيل الشخصية المرسومة وتعابيرها المتغيرة عقب كل حرب خاضها لجأ المخرج “مايكل كيرك” إلى تعتيم الشاشة، وتغيير ألوان الفيلم من المُلّون إلى الأسود والأبيض، والاقتراب التدريجي من عينيه لتبيان درجة الكراهية الكامنة فيهما، في حين كان يترك عدسات كاميرته تنسحب بهدوء من عمق صورة أوباما الفوتوغرافية إلى خارجها، لتظهر الاتزان العام الذي يتمتع به.

كما يتيح للمشاهد فرصة المقارنة بين الشخصيتين، وصراعهما الذي امتد سنوات، خسر خلالها “نتنياهو” كثيرا من علاقته الأمريكية التي كانت سببا في صعوده السياسي، وطالما تعكّز عليها في تبرير حروبه التي لن تنتهي، ما دام قد تغذى منذ طفولته على موروث طويل من الكراهية والأحقاد.