محمد دياب.. المراوحة بين التأليف والإخراج
د. أمــل الجمل

“يتجسد الزمن في ديمومته مجرى متغيراً متلاطم الأمواج، تتخلله جزر سكون صغيرة” سماها شاعر الرومانسية الإنجليزي وليام وردزورث بـ”البقع الزمنية”، وهذه البقع في رأيه هي “بقع ضوئية تُنير عتمة الأيام وتُكسب الزمن شكله ومعناه.”.. هذه الرؤية للزمن يمكن تطبيقها على الشريط الروائي الطويل “678” أول تجربة إخراجية للمصري محمد دياب الذي يُفتتح بفيلمه الثاني “اشتباك” قسم “نظرة خاصة” بمهرجان كان السينمائي التاسع والستين في الفترة الممتدة بين 11-22 مايو الجاري.
يأتي “اشتباك” – الذي جاء ثمرة التعاون الإنتاجي المشترك بين مصر وفرنسا وألمانيا والإمارات – في الترتيب الثامن على مستوى التأليف السينمائي، فقد سبق لمحمد دياب كتابة سيناريوهات وحوارات أربعة أفلام بشكل منفرد هي؛ “أحلام حقيقية”، و”الجزيرة” ج1، والاثنان من إنتاج عام 2007، ثم فيلم “بدل فاقد” 2009، و”678″ 2010. مثلما اشترك دياب مع آخرين – من عائلته – في كتابة السيناريوهات والحوار لأربعة أعمال أخرى هي؛ “ألف مبروك” 2009 – “ديكور” 2014 – “الجزيرة2” 2014 – “اشتباك” 2016.

اللافت في تجربة محمد دياب كسيناريست أنه مارس الكتابة لأغلب الأنواع فكتب الأغنية الدينية لعدد من المطربين، وكتب لهم حلقات دينية ضمن برامج تليفزيونية أيضاً، أما على مستوى الدراما السينمائية فكتب الأكشن، والجريمة بكل ما تتضمنه من غموض وإثارة، وأجواء بوليسية، مثلما اشترك في كتابة الكوميديا المتمثلة في شريط “ألف مبروك” رغم أنه مقتبس عن أفلام أجنبية، لكنه نجح في تمصيره بشكل جيد وهادف، وكتب الدراما التي يمكن تصنيفها بالواقعية الاجتماعية بمهارة وقدرة على خلق شخصيات نسائية مختلفة على المستوى النفسي والطبقي كما في “678” عن قضية التحرش بالنساء في المجتمع المصري.
من الصعب تحديد فكر مؤلف الشريط السينمائي وتقييمه إذا اشترك معه آخرون في كتابة السيناريو والحوار، كذلك من الصعب – إلى درجة أقل – تقييم فكره إذا لم يكن هو نفسه مخرج العمل، لأن المخرج وعن طريق الصورة وأداء الممثلين وتفاصيل الأزياء والإكسسوار والمونتاج يمكنه تقديم وجهة نظر تتناقض أحياناً مع ما جاء بالسيناريو وبعض جُمل الحوار، فالصورة أقوى ولها الغلبة دوما. مثلما حدث في فيلم “الجزيرة 2” للمخرج شريف عرفة والذي كتب له السيناريو محمد دياب بالاشتراك مع خالد وشيرين دياب، هنا لا يمكن معرفة من منهم المسئول عن إدانة ثوار 25 يناير 2011 والسخرية منهم في أكثر من مشهد، كذلك لن نستطيع تحديد – على وجه الدقة – من منهم المسئول عن حسم أمر وتحديد هوية مقتحمي سجن وادي النطرون بهذا اليقين ومن دون أدنى شك؟! وهو ما يتضارب مع كثير من الكتابات التحليلية السياسية والشهادات التي نُشرت في أعقاب الاقتحام؟!

لكن، عندما يكون المؤلف هو نفسه مخرج العمل هنا يمكن بنسبة كبيرة جدا تقييم العمل وتحديد في أي اتجاه ينحو المسار الفكري والأيديولوجي لمبدعه. من هنا تزداد أهمية فيلم “678”، هذا بالطبع إلى جانب القيمة الجمالية التي يكتسبها الفيلم، إذ أنه وفق رؤية الفيلسوف والناقد المجري جورج لوكاتش أن “القيمة الجمالية للعمل لا يُمكن أن تتحقق إلا إذا تجسدت في ظاهرة اجتماعية يلمسها الناس في حياتهم اليومية، على أن يكون التجسيد الحي صادقا لقمة وأبعاد وأعماق البشر والعصر،” بحيث ترى النساء نفسها في النماذج المقدمة على الشاشة، “ليس فقط كما هنّ، ولكن أيضاً كما يجب أن يكنّ،” متسلحات بوعي جديد وعميق وشامل. لذلك فمن خلال “678” يُمكننا التعرف بشكل أكثر – من أفلامه الأخرى التي قام بتأليفها – على فكر وتوجه السيناريست والمخرج المصري محمد دياب، وإن كانت التجارب الأخرى في التأليف لها قدرتها أيضاً في الكشف عما إذا كان الكاتب موهوبا في نسج تفاصيل السيناريو، وتحريك الشخصيات في إطار زمني قادر على الاحتفاظ بإيقاعه اللاهث أم لا، وهو ما سنحأول إلقاء الضوء عليه في تجاربه المختلفة في السطور التالية.
أحلام حقيقية
في “أحلام حقيقية” عام 2007 الذي أخرجه محمد جمعه وكتب له محمد دياب السيناريو والحوار، والذي تدور أحداثه حول الكوابيس وعالم الأحلام الذي لا يستطيع البشر السيطرة عليه، وعلاقة ذلك بالـ”ديجافو” déjà vu و”التليباثي” أي توارد الخواطر telepathy، ورغم ما نُشر في أعقاب عرض الفيلم حيث نٌشرت بعض الأخبار تُعلن تبرؤ المؤلف الشاب من العمل، ورغم تأثره الواضح بأجواء الأفلام الأجنبية – خصوصا الأمريكية – المنتمية لدراما الجريمة والرعب المستندة على الإثارة والغموض، ورغم ترهل الإيقاع في عدة مناطق من الفيلم البالغ مدته 153 ق، وهو ما يجعل المتلقي يجد فرصة أثناء التلقي ليسأل نفسه: “أين شاهدت هذا الفيلم من قبل”؟، ورغم الصدفة التي جعلت ضابطاً واحداً فقط – قام بدوره فتحي عبد الوهاب – يحقق في جميع جرائم القتل وكأنه لا يوجد ضابط آخر، لكن يُحسب للفيلم – رغم كل تلك الهنات – أنه قدم لنا كاتبا يمتلك الموهبة، حتى وإن كانت متعثرة في هذا التجربة، لكنها كانت تشي بقدرة على رسم الشخصيات ووضعها في مواقف متباينة تدفع العمل نحو نهايته، ثم يختتم عمله بانقلاب درامي حيث يكتشف المتلقي أن القاتلة هي صديقة البطلة، وأنها هي التي ارتكبت الجرائم جميعها.
الخطوات التالية للمؤلف الشاب ستؤكد أن موهبته – رغم هناتها – تنضج مع مرور الوقت، وإن تفأوتت في تطورها وفي قيمتها من عمل لآخر، فعلى ما يبدو أن ممارسة فعل الكتابة والبقاء على تواصل معها أمر يشغل دياب ويسعي لتطوير نفسه خصوصا أنه يحب الكتابة فبعد تخرجه في كلية التجارة وإدارة الأعمال والتحاقه بالعمل في أحد البنوك الأجنبية الكبيرة بالقاهرة تخلى عن ذلك العمل بسبب حبه للكتابة، وقرر دراسة فن كتابة السيناريو في أكاديمية نيويورك للسينما عام 2005.

الجزيرة 1، 2
في عام 2007 أيضاً ظهر فيلم آخر لمحمد دياب لكنه لم يمر مرور الكرام – كما الفيلم السابق – خصوصاً أنه من بطولة أحمد السقا وإخراج شريف عرفة، ونقصد به “الجزيرة” الجزء الأول، والذي كتب له القصة السينمائية، شريف عرفة، بينما قام بتأليفه محمد دياب، والذي يُشير تتر المقدمة أنه مستمد من قصة حقيقية، وفي تقديري أنه ربما يكون فيه تشابهات من الواقع، حول تاجر المخدرات والسلاح منصور الحفني الذي سانده النظام ودعمه وقام بحمايته أثناء الحرب على الإرهاب في الصعيد، ثم انقلب عليه بعدما انتهت تلك الحرب واتسع نفوذه وسطوته، وبلغ طموحه الرغبة في الترشح لمجلس الشعب، وإن كانت القصة تُعيد للأذهان أشياء من قصة أسامة بن لادن، وكيف صنعته أمريكا ثم انقبلت عليه عندما انتهى دوره وأصبح يُمثل خطراً عليها.
نتهي الجزء الأول من الفيلم بأن منصور أثناء تبادل إطلاق النار على سلم دار القضاء العالي اختفى ولم يُستدل على مكانه، وأن المخدرات والسلاح اختفى من الجزيرة، بينما تكشف أحداث الجزء الثاني من الفيلم التي تدور في الفترة ما بين 14 يناير 2011 ومنتصف 2012 أن منصور الحفني قضى في محبسه بالسجن عشر سنوات وأنه الآن ارتدى البدلة الحمراء لتنفيذ حكم الإعدام، والأهم أن لا المخدرات ولا السلاح اختفى من الجزيرة، فلا زالت التجارة فيهما قائمة، وإن كان أهلها يجدون صعوبة في ترويجهما ومن ثم استعانوا برجال “الرحالة” الذين يعيشون في الجبل، ورغم أن جملة حوارية محددة بالفيلم تنفي أن المقصود بـ”الرحالة” جماعة الإخوان المسلمين، لكن ذلك كان مجرد غطاء درامي ورقابي، إذ إن شخصية الشيخ جعفر زعيم الرحالة – التي جسدها الراحل خالد صالح – كانت تردد شعارات وأفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان عن الطاعة ووحدة الصف، وكانت أيضاً تحمل في ثناياها وتفاصيلها وأسلوبها وطرح أفكارها دلالة رمزية قوية لجماعة الإخوان المسلمين، ومحأولتهم الوصول إلى حكم الجزيرة التي كانت هنا ترمز إلى مصر، خصوصا تلك الأحاديث عن: “نسيان خانة الجنسية فالولاء للرحالة يأتي قبل الأهل والوطن والأصحاب”، و”شهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار”.

ربما ظهور الفيلم في 2014– والانقسامات والخلافات التي وقعت بين طوائف المجتمع آنذاك خصوصا فيما يخص أحداث رابعة – لعبت دوراً في الموقف الذي اتخذه صُناع الفيلم من ثوار 25 يناير 2011 حيث يبدو جليا الاستهزاء من الثوار والسخرية منهم في كثير من المشاهد، وترديد شعاراتهم في مواقف ساخرة إجرامية، من دون أن نغفل كلمات اللواء رشدي المسئول الكبير بالداخلية والذي يشير إلى نظام الأمن في عهدي مبارك ومرسي قائلاً: “الثوار اللي عملوا ثورة على الأمن الوحش هم اللي بكرا هيرجعونا مرفوعين الراس لما يجربوا الأمن الحلو؟”
في عام 2014 أيضا ظهرت تجربة أخرى لمحمد دياب هي “ديكور” للمخرج أحمد عبد الله السيد، لكن السيناريو الذي اشترك في كتابته المؤلف مع شيرين دياب كانت به مشاكل عديدة، أهمها الزمن النفسي للشخصية النسائية الرئيسية مها التي جسدت دورها حورية فرغلي إذ بدت خأوية ومسطحة تماماً وفقيرة دراميا رغم كل الإمكانيات المتاحة أمام كاتبي السيناريو، فهى تجسد شخصية رومانسية تعيش حياتين إحداهما حقيقية والثانية وهم وخيال من دون تحديد واضح يحسم أيهما الوهم وأيهما الحقيقي، ورغم أن الفكرة مستلهمة من فيلم “الليلة الأخيرة” للمخرج كمال الشيخ لكن شتان ما بين العملين فرغم أن الأخير من إنتاج عام 1963، لكنه عمل مرسوم بمهارة وإتقان والبطلة فيه محاصرة بين ماض جميل وحاضر مفزع فتعيش صراعاً جنونيا بين عالمين وذاكرتين، بينما جاءت النسخة المُقلدة باهتة ركيكة رغم أن مخرجها أحد أهم مخرجي السينما المستقلة ورغم الأداء اللافت لماجد الكدواني.

بدل فاقد
في عام 2009 ظهر فيلمان من تأليف محمد دياب هما؛ “بدل فاقد” و”ألف مبروك” والاثنان كانا – على مستوى الإيرادات وشباك التذاكر – من أفضل أفلام ذلك الصيف. الأول بطولة أحمد عز وإخراج أحمد علاء، والثاني بطولة أحمد حلمي وإخراج أحمد جلال.
“بدل فاقد” هو فيلم أكشن، تبدأ أحداثه من القاهرة 1976، ثم تنتقل عبر الفوتومونتاج إلى عام 2009 حيث لقاء أخوين توأم، أحدهما أصبح ضابطاً مرموقاً بعد أن تربي في بيت لواء كبير، والثاني تحول إلى مدمن بعد أن قامت بتربيته راقصة كباريهات، فقد كان كل منهما نتاج واقعه ومجتمعه، والفيلم يذكرنا بأفلام مصرية كثيرة تم اقتباسها عن أفلام أجنبية، وعلى الأخص الفيلم الأشهر “جعلوني مجرما”.
أما “ألف مبروك” فينتمي للكوميديا الاجتماعية – شارك في تأليفه مع خالد دياب – ويبلغ زمنه السينمائي ساعة و54 دقيقة. ورغم أنه في تتر المقدمة كُتب أن الفيلم مستوحى من الأسطورة الإغريقية سيزيفيوس، لكن الحقيقة أن أحداث الفيلم وفكرته أقرب إلى مصادر أجنبية لم يُشر إليها التتر مثل الفيلم الأمريكي groundhog ay إنتاج عام 1993، والذي قام ببطولته آندى ماكدويل وبيل مارّى وإخراج هارولد راميس، وكذلك فيلم “If only” إنتاج عام 2004 وإخراج Gil Junger.

هنا تدور القصة في إطار كوميدي حول شخص يستيقظ كل يوم من حلم متكرر ينتهي بوفاته قبل أن يبدأ حفل زفافه بدقائق، وفي كل مرة يحأول البطل أن ينجو من الموت، ويحأول تغيير قدره بأن يتصرف بشكل مغاير، لكنه في جميع المرات يظل ذلك الشخص الانتهازي في تعاملاته مع الجميع حتى أقرب الناس إليه أمه وأبيه، وأخته، وحتى خطيبته مرورا بزملاء العمل إذ لديه استعداد للتضحية بأي منهم طالما كان في ذلك الحفاظ على وظيفته. في النهاية يتصالح البطل مع قدره عندما يُدرك أنه لا يمكن تغيير مصيره، في حين يمكن تغيير الواقع المحيط بنا، أو باختصار الموضوع يشبه الدوائر، فالحياة كلها دوائر صغيرة وكبيرة، الدوائر الصغيرة يمكن تغييرها لكن الدوائر الكبيرة لا يمكن تغييرها.
في تجربة “ألف مبروك” يصعب تحديد مقدار مشاركة كل من الكاتبين في العمل، يصعب معرفة مَن منهما كتب أي مشاهد وصاحب أي من جمل الحوار، من منهما لعب دورا أكبر أو أهم في تْطوير السيناريو؟ ومَنْ منهما صاحب الخط الكوميدي؟ وإذا كان دياب في الجزيرة 1، و2، أضاف إلى رصيده في مجال الأكشن والجريمة، لكن هذا وحده لا يثبت القدرة على التأليف للسينما، لأن العملين كانا أشبه بمسلسل تليفزيوني مكثف، قوي الإيقاع، بينما التطور النفسي للشخصيات والتعبير عن زمنها السيكولوجي – والتي تكشف أساساً الموهبة الحقيقية – فإنها لم تظهر إلا مع “678”.
أول خطوة
عندما نتأمل “البقع الزمنية” – التي ذكرناها في مقدمة المقال عن وليام وردزورث – في شريط “678” نجدها تتجسد أساساً في ثلاث نقاط خلقت من حولها دوائر وبقعا أخرى متتابعة متلاحقة. لكن هناك فارقا كبيرا بين توصيف وليام وردزورث لها وبين طبيعتها السينمائية عند محمد دياب، فهنا تخص هذه البقع الضوئية ثلاث نساء من أعمار متباينة وطبقات اجتماعية مختلفة ومستوى فكري وتعلمي أيضاً مغاير، والبقع الثلاث تكاد تتشابه في طبيعتها إذ تخص فعل التحرش بهن، وإن اختلفت في هيئتها ومسار تحركها وطريقة ترسبها، لكنها في النهاية تترك آثارها النفسية السيئة وتكاد تدمر حياة بطلاتها إلى درجات متفأوتة، ومع ذلك لا يمكن إنكار أنها أضاءت لهن عتمة أشياء كثيرة في المجتمع من حولهن، وفي شخصياتهن، وفي اختياراتهن، ما كشف معاني أخرى مفتقدة للحياة وللزمن، فإذا كانت تلك البقع الضوئية عند وردزورث تُكسب الزمن شكله ومعناه بما هو موجود، لكنها عند بطلات دياب الثلاث تكشف ما هو مفقود أو مفتقد فصار الزمن ناقصا في شكله ومعناه.

تأتي أهمية فيلم “678” – الذي ينتمي للواقعية الاجتماعية التي لا تخلو من جوانب نفسية – ليس فقط من خطورة القضية التي يتنأولها، وهى التحرش الذي يُعد من أبرز وأخطر المشاكل التي تواجهها المرأة المصرية في حياتها اليومية، سواء في الشارع أو العمل أو وسائل المواصلات العامة، وأحيانا الخاصة أيضاً، لكن أهميته تنبع كذلك من أسلوب السرد، ومن قدرة مخرجه الذي كتب السيناريو بنفسه على رسم الشخصيات النسائية وتتبع الآثار السيكولوجية لهذا الفعل المشين على حياتهن، وسلوكهن مع أقرب الناس إليهن، وخصوصا شريك الحياة. كما أنه قدم لنا مخرجاً قادرا على توظيف الميزانسين بكل ما فيه من ممثلين وإكسسوار، وإضاءة، وتحريك الكاميرا بمرأوحتها بين الثبات والاستقرار، وزواياها لتجسيد الحالة النفسية التي تخدم درامية العمل.
فلاش باك
“الفلاش باك” هو أحد الملامح الأساسية دائمة الحضور في جميع سيناريوهات محمد دياب، وهو أحد ملامح السرد الأساسية بفيلم “678” رغم أنه لا يُستخدم سوى مرات ثلاث فقط. في الدقائق الاثنتي عشر الأولى نتعرف على معاناة فايزة من التحرش، أم من الطبقة المتوسطة المطحونة لديها طفلان بالمدرسة وزوجها عامل أمن، تذهب فايزة لحضور “كورسات” الدفاع عن النفس ضد التحرش، وعندما تواجهها صبا المُدربة بضعف شخصيتها، وتلفت نظرها إلى إمكانية الدفاع عن نفسها بدبوس الطرحة التي ترتديها، تقوم بغرس الدبوس في جسد المتحرش بها، وتواجهه أمام الناس في الأتوبيس فيهاجمها الركاب بعنف واصفين إياها بالمجنونة، فتهبط فايزة في الميدان كالتائهة غير منتبهة لسيارة ملاكي تكاد تصدمها، تستيقظ من شرودها وتواصل عبورها للشارع والذي يُشكل عبورا بالمعنى الحقيقي والمجازي.

عند اللحظة السابقة يعود الفيلم فلاش باك لمدة عام كامل لنتعرف – خلال سبع دقائق فقط بأسلوب سردي مكثف صادق وشديد التلقائية والواقعية – على قصة صبا وانهيار علاقتها بزوجها شريف في أعقاب التحرش الجماعي الذي تعرضت له عقب مباراة مصر وزامبيا وأثناء الاحتفال بذلك الفوز. وتخلي زوجها عنها ما تسبب في الإجهاض، ثم قرار صبا برفض العودة إلى شريف، فيتركها قائدا سيارته حزينا كالتائه، إلى أن تهبط فايزة من الأتوبيس أمامه في الميدان، ثم تواصل سيرها ونرى ظلها يمشي على الأرض. هنا يوظف المخرج الفلاش باك مرة أخرى ليحكي قصة البطلة الثالثة نيللي رشدي مع التحرش والتي تم اقتباسها من قصة واقعية تنأولتها الفضائيات والصحف المصرية ووصلت إلى القضاء المصري.
يعود الفلاش باك لمدة شهر ليسرد قصة نيللي وإصرار أهل خطيبها على التنازل عن القضية التي رفعتها ضد المتحرش بها، واستمرار النقاش بينها وبين خطيبها – بميزانسين بدا تلقائيا – في الشرفة التي تطل على الميدان الذي نزلت فيه فايزة من الأتوبيس أمام سيارة شريف زوج صبا، حيث تتابع الكاميرا ظلها على الأرض، وتعرضها مجددا للتحرش فتقوم بمهاجمة المتحرش بها بالسكين في عضوه الذكري.

كانت تلك البقعة الزمانية والمكانية ملتقى مصائر الشخصيات، وبعدها تتدافع دوائر وبقع متباينة في قوتها على مدار الفيلم. لكن اللافت أن دياب كتب سيناريو متقنا، مشبعا بالتفاصيل الواقعية ونسجها بأسلوب فني ضمن ثنايا شريطه، مثل أشكال التحرش التي تتعرض لها كل امرأة من البطلات الثلاث – بخلاف وقائع التحرش الأساسية الكبيرة – كتعرض صبا للتحرش اللفظي أثناء ممارسة رياضة الجري، ثم تعرضها للتحرش من قبل مجموعة أطفال كانوا يقفون في السوق، والتحرش اللفظي الذي تتعرض له نيللي في عملها كمندوبة مبيعات، وتطور رد فعل الشخصيات وتحولها إلى العدوانية والدفاع عن نفسها بالانتقام، في الوقت الذي يتواطأ فيه المجتمع وجهاز الشرطة – بشكل غير مفهوم لكنه واقعي وحقيقي – مع المتحرش بحجة أنه لا يوجد قانون يُجرم التحرش.
يُؤخذ على الفيلم فقط أن صبا عندما تقرر مهاجمة المتحرشين في الأتوبيس فإن ضحيتها سيكون زوج فايزة، فهي صدفة مبالغ فيها وغير منطقية، وكأنه عقاب إلهي للزوجة– وفق هوى المخرج – فلو رأينا الزوج يفعل ذلك من دون تعرضه للاعتداء لكان ذلك أكثر صدقية على المستوى الفني، وحتى لو تعرض للهجوم من قِبل شخصية أخرى جديدة لكان ذلك أكثر صدقاً. أما تبرير فعل التحرش الذي مارسه الزوج بسبب امتناع زوجته عن التواصل الزوجي الحميمي معه فلا يُؤخذ على السيناريو ولا يُدرجه ضمن الفكر الذكوري لأن السيناريست هنا قدم نماذج أخرى متنوعة للرجال المتحرشين، مثلما قدم مشهداً طريفاً جدا – بالأتوبيس في الأيام التالية لتكرار ضرب المتحرشين في أعضائهم إذ اختفت وطأة الزحام ووقف الرجال القليلون في أدب شديد ووضع كوميدي مستقيم – يُؤكد على أن الخوف من العقاب يردع المتحرشين مهما كانت الظروف.