جاين كامبيون.. صوت المرأة المدوّي
آية عبد الحكيم
“لكان بالعالم المزيد والمزيد من الحكايات إن صنعت النساء أفلامًا أكثر”
هكذا ترى المخرجة (جاين كامبيون)، لكنها لا تتبع مقولتها. فرصيدها السينمائي سبعة أفلام روائية طويلة فقط في فترة إنتاج فني تخطت الثلاثين عامًا. على قلة هذا الإنتاج السينمائي إلا أنها واحدة من أكثر المخرجين تميزاً واختلافًا، بعيداً عن كونها المخرجة الوحيدة الحاصلة على سعفة مهرجان (كان) عبر ثمانية وستين دورة للمهرجان جميعها فاز بها مخرجون ذكور.

بعيداً في نيوزيلاندا ولدت (جاين كامبيون). درست الأنثروبولوجيا، ثم الرسم لكنها لم تجد فيه المساحات الرحبة التي تسع خيالها، فقررت الاتجاه لصناعة الأفلام. أخرجت فيلمها القصير الأول في عام 1980، وبدأت في العام التالي دراسة السينما. حلت ضيفة على مهرجان (كان) بفيلمها القصير الاحترافي الأول، ونالت عنه جائزة أفضل فيلم قصير. ولم تنتظر طويلاً لتحصد السعفة الذهبية عن فيلمها الأهم والأشهر في مسيرتها (البيانو – The Piano).
روح أثقل من بيانو
بعد أن أنهت (كامبيون) دراستها للسينما قدمت عدداً من الأفلام القصيرة، وثلاثة أفلام سينمائية طويلة تخطت شهرتها حدود أستراليا وحازت على عدد من الجوائز في مهرجانات عالمية كأفضل أفلام أجنبية.
بأسدٍ فضي من مهرجان فينيسيا ارتضت المخرجة لثلاثة أعوام قبل أن تقدم فيلم (البيانو) عام 1993.
لا غرابة في أهمية الفيلم والاحتفاء به، فكتابة واخراج (كامبيون) قدما نموذجًا فريداً لفيلم نسوي دون جعجعة، وزاوية رؤية خاصة على مشاعر (أيدا) المرأة الخرساء التي توقفت عن الكلام دون سبب حين كانت طفلة، لكنها استعاضت عن صوتها بعزفها البيانو. هكذا أصبح البيانو الخاص بها متممًا لكيانها تحمله من أقاصي شمال أوروبا إلى نيوزيلاندا، حيث منزلها الجديد وزوجها الموعود الذي لا يعرفها ولا تعرفه. تصحبها طفلتها الذكية ومترجمتها (فلورا). البيانو ثقيل يرفض الحمالون نقله من الشاطئ حيث تركت السفينة (أيدا) و (فلورا)، لكن رجلاً واحداً سحره عزف (أيدا) قرر نقله، ثم إعادته له بمقايضة مزدوجة بينه وبين زوجها، وبينه وبينها على أن تعلمه العزف عليه.

طوال الفيلم نسمع أفكار (أيدا) وصراعها بين زوج لا تحمل له أي عاطفة، وغريبٍ يسمع موسيقاها ويوقظ فيها روحها الصامتة المثقلة بالاغتراب ويبث فيها من بدائيته وصدق مشاعره من لقاءٍ لآخر. لا توجد رومانسية مرهفة بالفيلم، ليس في مثل هذه البيئة القاسية وليس مع انعدام اللغة بين الشخصيات الرئيسية، لكن توجد قصة حب غريبة يصعب أن يرفضها المشاهد، ولا يسهل عليه تقبلها بأي حال.
حصد الفيلم كل ما يمكن أن يحلم به مخرج: إعجاب الجمهور، رضاء النقاد، سعفة ذهبية، ثلاث جوائز أوسكار اثنتان منها لبطلتيها (هولي هنتر) والطفلة ذات الأحد عشر عامًا حينها (آنا باكوين)، والثالثة لها كأفضل سيناريو بالإضافة لترشيحها كأفضل مخرجة. وكُتب عنه عشرات المقالات التي تبحث وراء (جاين كامبيون) وأعمالها السابقة ومشاريعها المستقبلية. لكن شيئًا من هذا النجاح لم يصل للمخرجة الواعدة التي كانت تنعى حينها وفاة طفلها الرضيع.
بورتريه جديد للسيدة
ثلاث سنوات مضت قبل أن تقدم فيلمها التالي المقتبس عن رواية (هنري جيمس) التي تحمل نفس العنوان: (بورتريه السيدة – The Portrait of a Lady) عام 1997. (إيزابيل آرتشر) الأمريكية الشابة قوية الشخصية، المستقلة، المتحررة، يقع في غرامها أصدقاؤها في أمريكا وإنجلترا، لكنها تحلم بالسفر والمغامرة. ترث من زوج عمتها مبلغًا طائلاً، وحين تبدأ أسفارها إلى فينسيا تقع تحت سحر جامع التحف (جيلبرت أوزموند). لا يتعلق الأمر – فقط – بطمعه في نقودها، لكنها بالنسبة له قطعة فنية خلابة يود لو أضافها لمجموعته. (إيزابيل) كانت ترى عيوب المتهافتين عليها، لكنها تحت غشاوة الحب لم تر محدودية وضآلة عاشقها الجديد. احتاج الأمر ثلاث سنوات حتى تدرك تمامًا تعاستها الشديدة معه، وبؤسها في زواج لا تستطيع الهرب منه.

تبدو (إيزابيل) برؤية (جاين كامبيون) أضعف من تلك التي كتبها (هنري جيمس)، بل وأضعف من الشخصيات التي قدمتها (كامبيون) قبل ذلك، نضيف لذلك عيون (نيكول كيدمان) الدامعة وجسدها النحيل أمام سطوة (جون مالكوفيتش) الذي أدى دور (جيلبرت أوزموند). يمكن اعتبار الفيلم إعادة ترجمة للرواية من زاوية جديدة غلفتها كتابة (لورا جونز) بالواقعية والهشاشة، وإخراج (كامبيون) بالرؤى الحالمة الفانتازية الممتزجة بجمال الصورة والطبيعة وعظمة القصور وجلالها.
نجمة كيتس الآفلة
فيلمان آخران في مسيرة (جاين كامبيون) بين عامي 1996 وآخر أفلامها عام 2009. قدمت فيهما نواحي أكثر غرابة لنسائها وتغلغلت أكثر في خيالاتهم الخاصة. لكن كلا فيلميها (Holy Smoke) و (In the Cut) لم يحققا النجاح المنتظر من صانعة (البيانو)، ربما لكون السيدة تبرع أكثر حين تقدم صوراً من الماضي، ففيلماها (البيانو) و (بورتريه السيدة) دارت أحداثهما في منتصف القرن التاسع عشر وثلثه الأخير، وعلى اختلاف مواقع تصوير الفيلمين والبيئة القاسية التي صوّر فيها الأول، والقصور الفخمة التي صوّر فيها الثاني، لكن إخراج (كامبيون) قدم بالنهاية صورة ممتازة في كلا الفيلمين.
هكذا عادت لأوائل القرن التاسع عشر هذه المرة بقصة حقيقية لعلاقة الحب التي جمعت الشاعر الإنجليزي (جون كيتس) وجارته (فاني برون) لتقدم فيلم (نجمة لامعة – Bright Star) من كتابتها اقتباسًا عن كتاب (كيتس) للشاعر والكاتب الإنجليزي (آندرو موشن). وكأنها لم تستطع أن تقدم فيلمًا بلا بطلة قوية الشخصية كعادتها، وأبت أن تترك المساحة بأكملها لقصة حياة الشاعر الشاب ومعاناته مع المرض ثم وفاته في السادسة والعشرين من عمره، فجاءت شخصية (فاني) المغرمة بالحياكة والملابس، والتي لا تعرف شيئًا عن الشعر، لكن الجاذبية الغامضة التي بدأت بينها وبين (كيتس) حرضتها على قراءة ديوانه الأول، ثم قراءة المزيد من الشعر لتقترب من عالمه أكثر.

قصة الحب ليست رومانسية بقدر تعاستها، فالشاعر الشاب مفلس وصديقه الأقرب (تشارلز براون) يحاول أن يبعده عن حبيبته بكل الطرق، ففي الحب تشتيته عن الكتابة، والعبث بمستقبله. مثلث جديد من العلاقات المعقدة تقدمه (كامبيون) بكتابتها قبل إخراجها بنعومة وهدوء وجاذبية يساعدها وبشدة أداء تمثيلي لا يحمل التكلّف المعتاد لأفلام الفترة الفيكتورية، فلا تشعر بثقل دراما الفيلم، أو بالملل من هدوء حركة الكاميرا والإضاءة الخافتة بالمساحات المغلقة.
(جاين كامبيون) مخرجة استطاعت أن تطوّع البيئة حولها وأن تستخدم دراستها للفن فترسم لنا لوحات سينمائية خلابة، وأخرى مغرقة في الغموض والسوداوية، وأن تستعرض بكتابتها جوانب جديدة لشخصيات تبدو عادية لكنها ثرية بأفكارها الخاصة ومشاعرها، لتقدّم بالنهاية منتجًا فنيًا متميزاً وأفلامًا سينمائية على قلتها لكن أحداً لا يمكنه أن يتجاهلها أو يغض الطرف عن خصوصيتها واختلافها.