محمد لخضر حمينة… سيد السينما الجزائرية
عبد الكريم قادري

أثارت السينما الجزائرية وعلى مدى عقود من الزمن، الكثير من النقاشات التي انعكست بشكل أو بآخر على التوجه العام للمخرجين الجزائريين، وحتى على قناعاتهم وإيمانهم بما يقدمونه للمتلقي، خصوصا في سنوات ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لهذا جاءت كل الأفلام تقريبا ذات محمول إيديولوجي واحد، تتخذ من الثورة التحريرية منطلقا أساسيا، وتقدمها بطريقة خيالة دون أن تتورط في تحليل الأسباب أو تتعرض للرجال الذين صنعوها، خاصة القادة منهم، سواء سياسيون أو عسكريون، وكان الشعار الوحيد – بإيعاز من السلطة الحاكمة طبعا- (الشعب هو البطل الوحيد)، ناهيك عن الأفلام الوثائقية التي تُمجد الاشتراكية والثورة الزراعية، مع التأكيد دائما على أنها حسنة من حسنات الثورة و إفرازاتها.
وكأنّ الثورة أصبحت قدر السينما الجزائرية المحتوم، وحتى نكون منصفين أكثر لم تكن تلك السينما بمعزل عما يريده الشعب، الذي لا يزال مُلتفا حول ثورته واستقلاله الفتي – هذا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي- ووسط كل هذا استطاع المخرج الجزائري الكبير محمد لخضر حمينة (1930)، أن يكسر صوان الإيديولوجية الصلب، ويشُذ عن القاعدة التي رُسمت، ليقدم أفلاما تطرح الأسئلة، أفلاما تمشي بخُيلاء، لأنها مختلفة عن الموجود، مستقلة برأيها، نابعة من الذاتية والأنا ، بعيدة عن التوجه العام والبرمجة المُسبقة، من هنا اكتسبت شعريتها الطافحة، وخاضت معتركها الفني والجمالي العالمي، في عملية بحثها -أي أفلام حمينة- الدائم عن مكان ما وسط هذا الكم الهائل من الأفلام التي تفرزها سينمات العالم، ما أكسب هذا المخرج الكبير أعداء من خارج الجزائر وحتى داخلها، ووصل هذا العداء إلى درجة كتابة بيان من طرف الاتحاد الجزائري للسمعي البصري، يتهمون فيه هذا المخرج بخيانة مبادئ الثورة، ويلومون السلطات على دعم “وقائع سنوات الجمر”، لا لشيء سوى أن حمينة لم يتقوقع في العادي الذي يقدموه، لأن انطلاقته كانت عامرة بالبحث الجمالي، ومشبعة بالخاصيات التي تمثل البصمة، وهنا كان التميز والاختلاف.
البدايات/القيمة/ الإضافة
عندما نتحدث عن محمد لخضر حمينة يجب أن نطرح أسئلة البدايات، ونحفر كي نعثر على القيمة الفنية لمنجزه، بالإضافة إلى طرح سؤال محوري، وهو ما الذي قدمه للفن السينمائي..؟، وعليه يجب أن نقول بأن التكوين والتعليم الذي تلقاه حمينة انعكس بشكل أو بآخره في أفلامه، فقد ولد ونشأ في منطقة ريفية مفتوحة بمحافظة المسيلة سنة 1934، وهناك تلقى مراحل تعليمه الأولى، بعدها تنقل إلى منطقة دلس الواقعة في ضواحي العاصمة، حيث درس مبادئ الصناعة، لينتقل بعدها إلى الشرق الجزائري، بمحافظة قالمة بالتحديد، أين درس بالمعهد الزراعي، ليقرر بعدها السفر إلى فرنسا، وهناك درس الحقوق، لكن نداء التجنيد الذي تلقاه من إدارة الاستعمار الفرنسي ليلتحق بالخدمة العسكرية، أفسد عليه مشاريعه وأحلامه، ما جعله يفر وينخرط في صفوف جبهة التحرير الوطني سنة 1959.
بدأت رحلته مع السينما عن طريق خلية الإعلام للحكومة الجزائرية المؤقتة الكائن مقرها بتونس، ورافقه حينها الكثير من الرواد، من بينهم المخرج الفرنسي الكبير “رونيه فوتيه” الذي أسس أول مدرسة لتعليم تقنيات التصوير ومبادئ السينما وسط الغابات الجزائرية، وجمال الدين شندرلي الذي يُعد الأب الروحي للصورة الثورية الجزائرية، بالإضافة إلى آخرين كانوا ينشطون في خلية السينما على الحدود التونسية الجزائرية، وقد كانت أولى خطوات حمينة التعليمية، في قسم الأخبار بالتلفزة التونسية، قبل أن يتم ترحيله إلى دولة تشيكسلوفاكيا ليتعلم فنون السينما هناك، ليعود من هذه الدولة الاشتراكية مُحملا بالمعارف والتقنية، ويبتدأ رحلته الحقيقية في عوالم الصور.
أنجز العديد من الأفلام القصيرة والمهمة التي تخدم الثورة الجزائرية وتقدمها عالميا، أبرزها الفيلم الوثائقي/الروائي، 20 دقيقة، “ياسمينة “1961، الذي أخرجه رفقة جمال شندرلي، من خلال سيناريو مرتجل، وتعليق صديق الثورة الجزائرية “سيرج ميشال” الذي كتب نصه أيضا، بالإضافة إلى شراكة إخراجية أخرى بين كل من حمينة وشندرلي، و”بيار شولي” و”رونيه فوتيه”، في الفيلم الوثائقي، 25 دقيقة “جزائرنا” 1961، وقد تم عرض العملين بالأمم المتحدة، للتعريف بالثورة الجزائرية، إذا كان الأول خيالي موجه للقلب والعاطفة، والثاني وثائقي موجه للعقل، ناهيك عن أعمال أخرى، من بينها الفيلم الوثائقي، 20 دقيقة، “بنادق الحرية”1961، الذي أخرجه رفقة شندرلي، والوثائقي/الروائي، 20 دقيقة ” صوت الشعب” 1961، مع شندرلي مرة أخرى.
ريح الأوراس تهُبُّ على السينما الجزائرية
بعد الاستقلال مباشرة (1962) دخل العديد من السينمائيين الجزائريين والأجانب في صراعات، حول أحقية كل فرد بتولي المسؤوليات، ليفرز هذا الصراع خلق ثلاث فرق، “جماعة الحدود” التي يمثلها كل من “رونيه فوتيه”، وأحمد راشدي وآخرون، تخندقوا في مركز السمعي البصري سنة 1962، وجماعة “المالغ” تخندقت هي الأخرى في التلفزيون، أما محمد لخضر حمينة فقد شيد هو الآخر برجه الخاص، من خلال إشرافه على ديوان الأحداث الجزائرية الذي تأسس سنة 1963، وقد كانت مهمة المركز أن يقوم بجمع الأخبار المصورة وبثها في قاعات السينما قبل عرض أي فيلم، وقد أخرج وقتها العديد من الأفلام ذات التوجه الإيديولوجي، من بينها الفيلم الروائي المتوسط، 40 دقيقة “لحظة صورة” 1964، الذي كتب السيناريو فيه رفقة توفيق فارس الذي سيتحول إلى الإخراج فيما بعد، بالإضافة إلى إخراج الفيلم، تكفل حمينة أيضا بالتصوير، أما الإنتاج فكان لديوان الأحداث الجزائرية الذي يترأسه.

بعدها دخل محمد لخضر حمينه في أجمل مغامرة سينمائية، وأولها في مجال إخراج الأفلام الروائية الطويلة، وكانت التجربة مع فيلم “ريح الأوراس” (1966)، الذي أنتجه المركز الوطني للسينما، والديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية، وقد كتب السيناريو كل من حمينة وتوفيق فارس، وتصوير بوزيان، أما التركيب والموسيقى التصويرية فقط قام بها على التوالي كل من “سيلفي بلان وفليب أرتيوز”، وأدى أدوار البطولة، كلثوم، حسن الحسني، ومحمد شويخ في أول ظهور له، والذي سيصبح فيما بعد مخرج كبير.
سلط الفيلم الضوء على أحد العائلات الأوراسية التي تقطن الجبال، والمتكون من الأم (كلثوم)،والأب (حسن الحسني)، والابن (محمد شويخ)، كل فرد فيهم يقوم بعمله بشكل هادئ وقاسي، الأم تستيقظ باكرا لتجلب الماء من الوادي، بعدها تعود لتقدمه لعائلتها، فيما يقوم الأب بالوضوء ليصلي الفجر، الابن الذي يغتسل ويتناول فطوره، بعدها كل واحد ينصرف لشؤونه الخاصة، وقد سبق للمخرج وأن نقل لنا صورة شاملة في مقدمة الفيلم، والتي تفيد بأن هذه العائلة ثورية، من خلال حمل الابن كيس من الرغيف (الكسرة) لأحد معاقل المجاهدين (الثوار)، إلى أن يأتي اليوم الذي يقرر فيه الجيش الفرنسي قنبلة القرية بالطائرات، وهو اليوم الذي يصادف قيام الوالد بحملة الحصاد، لكنه استشهد في ذلك اليوم، وترك مسؤولية البيت لابنه، ما حتم على الأخير القيام بعمليات الدرس وبيع القمح، وتوصيل (الكسرة) للمجاهدين، إلى أن جاء الجيش الفرنسي في أحد الأيام بقوة عسكرية كبيرة، قام من خلالها باعتقال الابن، ورميه في أحد المعتقلات، لتبدأ رحلة بحث الأم عن فلذة كبدها من معتقل لآخر، علّها تعثر على ابنها المفقود، حاملة في يدها دجاجة، تحاول تقديمها كل مرة إلى أحد العساكر الفرنسيين، إذ تقول له :”خذ الدجاجة واترك ابني”، وبعد رحلة طويلة من البحث تعثر عليه في أحد المعتقلات، أين أصبحت تحضر كل يوم وتجلس أمام السياج المكهرب وتنظر إلى ابنها، إلى أن جاء اليوم الذي لم تجده فيه، حيث بلغ بها الحزن إلى أن أمسكت السياج المكهرب، ولفظت أنفاسها الأخيرة عليه.
نقل حمينة من خلال هذا الفيلم الواقع المر الذي عاشته المرأة الجزائرية إبان فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهذا بطريقة شعرية، حيث نجد ذلك الحب الصوفي الذي جمع الأم وابنها، وقد قام المخرج في بداية الفيلم بنقل مدى هذا حب، وحرصها عليه، ليرجع لها سالما غانما مع كل خروج للثوار، ومن شدة هذا الخوف أصبحت تقوم بطقوس الشعوذة، أين تقوم بوضع بيضة على النار، بعد أن تدهن نصفها بالسواد، النتيجة تكون أن انفجرت البيضة من الجهة البيضاء سيعود لها سالما، أما وان انفجرت من الجهة السوداء فيصيبه مكروه، كل هذه الصور البسيطة تنقل مدى حرص وحب الآم لابنها، وبساطة العائلة الجزائرية الريفية، لهذا لن يستغرب المتلقي/المشاهد، حين يرى رحلة البحث عن الأم عن ابنها، وكأنه برر هذا الأمر، وجعله مستساغا وغير مبالغ فيه.
استطاع الفيلم وعن طريق واقعيته الشعرية أن ينقل العديد من الرسائل الجمالية والسياسية والاجتماعية، أما الأولى فقد عكستها المشاهد القوية، حيث نرى مجموعة من الرجال وهي ترتدي أسمال بالية، عمليات جلب الماء، الاشتغال على التفاصيل الصغيرة، مثل عملية وضوء الأب، عمليات الحصاد الجماعي بين أهل القرية، صورة المعتقلات، الطبيعة القاسية، أما من الناحية السياسية فنرى كيفية التفاف الشعب البسيط حول الثورة والثوار، ومجابهة المخاطر من أجل إيصال المؤونة لهم، إيمانهم المطلق بالاستقلال والثورة، أما من الناحية الاجتماعية فنرى مدى تكافل الشعب والعائلات مع بعضهم البعض، مثل استقبال العديد من العائلات للأم في بيوتهم، التآزر فيما بينهم..

أما عن أقوى المشاهد التي جاءت في الفيلم، فتلك التي عكستها الأم التي تأتي كل يوم لترى ابنها خلف السياج، وكأن هذا الحب الذي تكنه لابنها أكبر من أي حب آخر، وصل بها إلى الموت، إنه أحد تجليات المتصوفة أمام مشاهد اكتمال الحب، من هنا نقل الفيلم جانبا مما عانته الأم التي فقدت زوجها وابنها ونفسها من أجل الثورة واستمرارها.
دخل الفيلم العديد من المهرجانات العالمية، أبرزها مهرجان “كان”السينمائي سنة 1967، وخرج منه بجائزة العمل الأول، وحسب تصريحات حمينة التي أدلى بها للعديد من الوكالات العالمية، ومفادها أن العمل كاد أن يتحصل على السعفة الذهبية، غير أن المخرج السينغالي “سمبين عصمان” امتنع عن تقديم صوته لصالح الفيلم، ما حرمه من الجائزة الكبرى، وحسب حمينة دائما فإنه يجهل السبب، رغم أن “سمبين عصمان” إفريقي ومتعاطف مع الثورة الجزائرية.
“حسن طيرو” وللثورة أيضا ضحكاتها
بعدها دخل المخرج محمد لخضر حمينة في تجربة جديدة ومختلفة، مع الحفاظ على حضور “ثيمة” الثورة، من خلال الفيلم الكوميدي “حسن طيرو” بمعنى “حسن الإرهابي” 1968، وقد استطاع حمينة في الفيلم أن يكسر الهالة الكبيرة التي تحيط بالثورة الجزائرية، من خلال ولوج أبوابها عن طريق الضحك والمرح، وقد اقتبس هذا العمل عن مسرحية لرويشد ديوان الأحداث الجزائرية الذي يشرف عليه، ولعب دور البطولة روشيد، حسن الحسني وكلثوم والعربي زكال، وقد نال الفيلم أُثناء عرضه نجاحا ساحقا في شباك التذاكر، ورغم مرور حوالي نصف قرن من إصداره غير أنه لا يزال يعرض في القنوات التلفزيونية إلى اليوم وينال نسب مرتفعة من المشاهدة.
يقدم الفيلم وبطريقة كوميدية شخصية حسان، هذا البورجوازي الصغير الذي وجد نفسه منخرطا في صفوف الثورة الجزائرية رغم عنه وبدون أن يعلم، حيث يتم القبض عليه واقتياده إلى التعذيب، من أجل أن يعترف بالثوار، ومن أدبيات الثورة هي يجب على المجاهد الذي يتم القبض عليه أن يصمد تحت التعذيب 24 ساعة، كي يسمح للثوار الآخرين بالتحرك والتصرف، ومن هنا يبدأ “حسن طيرو” في رحلته من جلاده، وكل هذا يتم بطريقة مرحة جدا، وعن طريق مقالب ومواقف كوميدية بسيطة لكنها قوية من ناحية البناء والتمثيل، وهو الفيلم الكوميدي الوحيد في مسار حمينة.

فيلم “ديسمبر” السباحة عكس التيار
مع مطلع السبيعنيات عرفت السينما الجزائرية حراكا كبيرا، نتج عنه العديد من الأفلام القوية على مستوى التجديد والخلق، وكسر أنماط السرد التقليدية، وهذا ما بشر بميلاد سينما جزائرية جديدة، وطبعا هذا لا ينفي أيضا أن قبل السبيعنيات لم تكن هناك سينما ثورية قوية، بالعكس، فقد كانت هناك أفلام خالدة، على غرار “السلم الوليد” 1964، لـ”جاك شاربي”، و”الليل يخاف من الشمس” 1965 لمصطفي بديع، و”معركة الجزائر” 1966 لـ”جيلو بونتيكورفو”، و”الطريق” 1968، لمحمد سليم رياض، ناهيك عن أفلام جماعية أخرى، مثل “الجحيم في سن العاشرة” 1968، و”حكايات عن الثورة” 1969، وكلها أفلام كما سبق وقلت كانت قوية.
أما أفلام السبعينيات فكانت مختلفة، على غرار أول فيلم روائي طويل لأحمد راشدي الذي اقتبسه من رواية لمولود معمري، وهو فيلم “العفيون والعصا” 1970، بالإضافة إلى أفلام أخرى، مثل “اليز أو الحياة الحقيقية” 1970 لـ”مشيل دراش” وهو إنتاج مشترك بين فرنسا والجزائر، و”تحيا يا ديدو” 1971 لمحمد زينات، “العرق الأسود” 1971، لسيد علي مازيف، “دورية نحو الشرق”1971 لعمار السكري، “نوة” 1972 لعبد العزيز طولبي، “الفحام” 1972 لمحمد بوعماري، “المنطقة المحرمة” 1972 لأحمد لعلام، و”الإرث” 1974 لمحمد بوعماري أيضا، إلى أن نصل للفيلم الخالد “وقائع سنوات الجمر” 1974 لمحمد لخضر حمينة، الذي سنعود له لاحقا، وفي ظل هذا الكم والنوع من الأفلام الثورية خاض حمينة تجربة جديدة ومختلفة، من خلال فيلمه “ديسمبر” 1971، وهو إنتاج مشترك بين فرنسا والجزائر، وكأنها محاولة من الطرفين لبدأ نوع من المصالحة وإذابة نهر الحقد والكره بينهما، من هنا جاء اختلاف هذا الفيلم على بقية الأعمال الأخرى التي جاءت لتدين الآخر، وتظهر تنوع جرائمه، دون أن تستثني أي فرد منهم، على عكس فيلم “ديسمبر” الذي جاء تصالحيا ومهادنا، وهذا لا يعني أنه يقدم تنازلات للآخر، بل جاء فقط كي يعبد طريقا نحو الاعتذار وصيحة الضمير، من خلال الضابط المظلي الفرنسي الذي يقوم بتعذيب المجاهد الجزائري، والذي استيقظ ضميره وأحس بوحشية الجيش الفرنسي الذي ينتمي إليه، انتبه إلى الجرائم التي ترتكب في حق الأخر بدافع الحضارة.
كتب نص السيناريو الروائي الفرنسي “جورج أرنو”، وصوره “جون شارفان”، أما الموسيقى فقد ألفها “فيليب أرتيوس”، وقد لعب دور البطولة كل من الممثل الكبير سيد علي كويرات، كلثوم، “ج.س. بارك”، ” أوكليار”، وحسن الحسني، وقد فتح هذا الفيلم مرة الأخرى النار على حمينة الذي اتهم بالعمالة للآخر والخيانة، وهي التهم الجاهزة التي تطلق على كل من يحاول أن يسبح عكس التيار.
“وقائع ��نوات الجمر”/ التاريخ على مراحل
فيلم “وقائع سنوات الجمر” 1974، عين من عيون السينما العالمية، وواحد من أهم الأفلام العربية، استطاع من خلاله محمد لخضر حمينة أن يلج أبواب العالمية، خصوصا بعد أن حصد من خلاله جائزة “السعفة الذهبية” من مهرجان “كان”السينمائي سنة 1975، أعرق وأهم الجوائز العالمية، وقد كتب سيناريو العمل المخرج نفسه بالتعاون مع توفيق فارس، أما الصور البانورامية الرهيبة في الفيلم فيقف خلفها المصور “مارسيلو غاتي”، بمرافقة موسيقى “فيليب أرتوس” الذي سبق وان تعامل مع حمينة ويعرف طبيعة عمله، أما البطولة فقام بها كل من المخرج نفسه، بالإضافة إلى العربي زكال، شيخ نور الدين، حسن الحسني، سيد علي كويرات، ليلى شنه، “فرانسوا مايستر”، م. سيساني، طه العامري، عبد الحليم رايس، كلثوم، ابراهيم حجاج.

الفيلم هو عبارة عن ملحمة، عالجت فترات زمنية مختلفة، مثلت مراحل مهمة من تاريخ الوعي السياسي لدى الشعب الجزائري، وكل مرحة حملت في طياتها بعدا رمزيا وما تتمخض عنه إدارة الاستعمار الفرنسي على الشعب، فكان الجوع والعطش والقهر والظلم، وكل أنواع الموت البطيء، من ناحيته قسّم حمينة فيلمه إلى ستة فصول، جاء كالتالي ” سنوات الرماد، سنوات النار، سنة العربة، سنوات الجمر، سنة الهجوم، سنوات النار، 11 نوفمبر 1954.” وقد غطت هذه الفصول الفترات الزمنية الممتدة من تاريخ اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 إلى غاية اندلاع الثورة الجزائرية 1954، اي طوال 15 سنة كاملة، وكأن حمينة من خلال هذا الفيلم يوجه رسالة إلى الطرفين الجزائري والفرنسي ويقول لهم، هذه هي الأسباب التي اندلعت من أجلها الثورة الجزائرية.
توقف حمينة بعد فيلم “وقائع سنوات الجمر” عن الإخراج لحوالي 8 سنوات كاملة، بعدها عاد سنة 1982 بفيلم جديد بعنوان “رياح رملية” الذي ذهب من خلاله إلى فضاءات ومواضيع جديدة، عن طريق واحة في الصحراء الجزائرية، نقل من خلالها معاناة الفرد في مواجهة الطبيعة القاسية ونقص الماء، وقد دخل الفيلم المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي سنة 1983، لكنه خرج بدون أي جائزة، وقد تم منع عرض الفيلم في الجزائر، وفي هذا الشأن قال حمينة في أحد حواراته عن أسباب المنع: “السفراء العرب بفرنسا اجتمعوا بالسفير الجزائرى، وطلبوا منه العمل على سحب الفيلم من العرض، لأنه يتعارض مع التقاليد العربية، استغربت كثيرا للأمر لأنني لم أنقل سوى الواقع المر الذي تعيشه المرأة الجزائرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة”.
كما سلّطت الرقابة أيضا سيفها على فيلم “الصورة الأخيرة” الذي أخرجه نفس المخرج سنة 1986، وقد نقل فيه جزء من ماضيهن وهو عبارة عن طفل وقع في غرام معلمة اليهودية عندما كان تلميذا.
ليتوقف حمينة مرة أخرى عن العمل في مجال السينما لحوالي 28 سنة كاملة، ليعود سنة 2014 فيلم جديد بعنوان “غروب الظلال”، ينقل من خلاله قصة أخرى من قصصه الملحمية، عن طريق ثلاث شخصيات رئيسة، وهي الرقيب “سانتوك” (لوران هالكا)، الذي يتمتع بلذة كبيرة في قتل وإبادة الجزائريين ولا يتوانى في ذلك لإيمانه الراسخ بأن الجزائر ما هي سوى امتداد لفرنسا، شخصية ثانية يعكسها شاب جزائري اسمه خالد (سمير بوتار)، ثوري التحق بصفوف جبهة التحرير بعد أن انهي دراسته بفرنسا، وشخصية ثالثة عكسها الجندي الفرنسي “أمبير” (نيكولا بريده)، الذي يملك حسا فنيا وإنسانيا ويتفاعل بعاطفة مع ما يحيط به من أحداث، وعن طريق هؤلاء الثلاث تبدأ رحلة التعذيب من طرف “سانتوناك” من أجل استخراج المعلومات من الضحية خالد، الذي يصدر آهات وتأوهات لا يتحملها الجندي “أمبير”، هذا الأخير يحاول أن يهرب إلى موسيقاه لهول ما يسمعه وما يراه.

حمينة ورداء سينما المؤلف
كل من يتعمق في أفلام محمد لخضر حمينة، سيكتشف بأن هذا المخرج يعكس ذاته في أفلامه، ويعيد تركيب أحداث ماضيه وفقا لآليات جديدة مع إضافة بعض الخيال لجمعها وفقا لترتيب جمالي وفني معين، والمخرج نفسه لا يخفي ذلك، وقد صرح أكثر من مرة بأن معظم أفلامه ذاتية، ” أفضل التعبير عما أعرفه جيدا، فريح الأوراس هو قصة جدتي التي تبحث عن أبي من معتقل لآخر، وقائع سنوات الجمر تصور مراحل من التاريخ، عايشتها فعلا في شبابي “، ويقول أيضا “وقائع سنوات الجمر هو طفولتي إلى غاية السن الخامسة عشر، فقد أمضيت خمسة عشر سنة في قريتي، لم أغادرها أبدا، لم أزيف الأحداث أبدا، فلا يمكنني الافتراء أبدا، حين أتكلم عن “التيفيس” فلقد عايشته، وحين أتكلم عن المجاعة لقد عشتها”، وهذا أيضا ما ينطبق على فيلم “الصورة الأخيرة” بحكم أنه وقع في حب معلمته عندما كان تلميذا، ومن ناحية أخرى ينعكس مفهوم “سينما المؤلف” كون حمينة كتب أو شارك في كتابة معظم أفلامه المهمة، كما نجد بأن حمينة وبحكم أنه ولد ونشأ في الريف، الذي أختاره ليكون فضاء مشتركا في معظم أعماله، أي بعيدا عن المدينة، ونستثني من هذا الفيلم الكوميدي “حسن طيرو” الذي اقتبسه من مسرحية، وفيلم “ديسمبر” الذي كتبه الروائي “جاك أرنو”، أما الأفلام الأخرى فكلها تجري في الريف، وهناك من يرى بأن حمينة تناسى بذلك مثقفي ونخب المدينة، الذين ساهموا في تدوير عجلة السياسة، طبعا يعود هذا التناسي من حمينة لأنه لم يعش تلك الأجواء، بحكم أن منطلقه في ما ينجزه في سينماه هو الذات.
من جهة أخرى أثبت حمينة في كل فيلم وتجربة جديدة بأنه مخرج مختلف ومميز، لا يكرر نفسه، ولا يقع في فخ النمطية التي تقتل العمل، ونلمس روح التجديد على المستوى الشكلي والجوهري، ويمكن اكتشاف هذا بسهولة تامة، حتى أننا نجد تلك البصمة على المستوى الشخصيات، التي يقوم بغرسها، ثم ينتظر نموها، مع توفير الظروف المواتية والملائمة لها، وكأنه يعكس ما تعلمه في معهد الزراعة في هذه الشخصيات التي يقدمها، لهذا المشاهد لا يحس بأنه غريب عنها، يلتحم معها وفيها، ويشاركها فرحها وحزنها، انتصارها وفشلها، وكل هذا ينقله حمينة عن طريق مشاهد بانورامية، تزيد الفيلم بهاء، وتشعر المتلقي/الجمهور بالإنعتاق والتحرر.