محمود أبو زيد والسينما الأخلاقية

رشا حسني
مهنة كاتب السيناريو من المهن المظلومة من بين مهنٍ كثيرة تتعلق بالعمل الفني، فيُنسب فضل جمال ونجاح العمل أو سوءه ورداءته عادة إلى المخرج، على الرغم من أنها جزء هام جداً من أجزاء العملية الإبداعية التي تخص العمل الفني، فعند السيناريست مُبتدى العمل الفني بداية من الفكرة (إذا كان هو صاحب الفكرة وليست مأخوذة مثلاً عن عمل أدبي) مروراً بمعالجتها ثم تتابع المشاهد ثم السيناريو وإعادته كتابته مراتٍ ومرات بغرض تطويره نهاية بتسليمه إلى المخرج ليحوله إلى عمل فني مرئي ذو رؤية فنية مُعبرة.
قلائل هم كُتاب السيناريو الذين يمكن استثنائهم من ذلك الظلم الذي يطول مهنتهم والذين يُمكن أن نتذكرهم بالاسم، ويرجع ذلك بالتأكيد إلي إنجاز ما قد فعلوه خلال مشوارهم الفني وليس بالضرورة أن يكون مشوارهم الفني كله حافلا بالإنجازات ولكن يمكن أن تكون محطة معينة أو فترة معينة تألق فيها هذا السيناريست وكانت هي سبب تلك البصمة، من أبرز الأمثلة على ما سبق الكاتب السيناريست محمود أبو زيد.
الكاتب والسيناريست محمود أبو زيد من مواليد القاهرة في 7 مايو عام 1941، تخرج من المعهد العالي للسينما قسم الإخراج السينمائي عام 1966 ثم اتجه إلي كلية الآداب لدراسة الفلسفة وعلم النفس تخرج منها عام 1970، أثناء دراسته بمعهد السينما عمل كمساعد مخرج مع المخرجين سيد زيادة وأحمد ضياء الدين ثم عمل بعد تخرجه بالرقابة علي المصنفات الفنية وحدة التصوير الخارجي ثم انتقل إلى إدارة مشاهدة الأفلام ورقابتها واستمر في عمله حتى عام 1980.
بدأ محمد أبو زيد حياته المهنية ككاتب سيناريو في فترة السبعينات بكتابة السيناريو لأفلام يمكن وصفها بأنها أفلام تجارية أراد من خلالها عرض اسمه على السوق السينمائي آنذاك فلم تختلف أفلامه عن معظم ما كان يُقدم في تلك الفترة، مثل فيلم بنات في الجامعة (1971) للمخرج عاطف سالم والذي تناول قصص مجموعة من الشباب في الجامعة ومحاولاتهم للتحرر من قيود الأهل والمجتمع وقد انتشرت كثير من الأفلام التي تتناول نفس الموضوع خلال تلك الفترة حتى أن معظم هذه الأفلام كانت تقوم ببطولتها نفس الوجوه الشابة آنذاك (نور الشريف-نجلاء فتحي-ناهد شريف)، ثم اتجه إلى كتابة نوعية أفلام أخرى راجت صناعتها في تلك الفترة أيضاً وهي الأفلام التي تدور حول العصابات وتجار المخدرات والمليئة بالمطاردات المُستهلكة والتي كان أبطالها الأساسيون هم فريد شوقي، توفيق الدقن ومحمود المليجي مثل فيلم ملوك الشر (1972) للمخرج حسام الدين مصطفى وفيلم الخطافين في نفس العام ولنفس المخرج.

قدم أبو زيد فيلم الأحضان الدافئة عام (1974) بعد أن قام بكتابة القصة والسيناريو فقط فيما قام الناقد السينمائي أحمد صالح بكتابة الحوار وكان من إخراج المخرج نجدي حافظ، فكرة الفيلم تدور حول مديحة (زبيدة ثروت) ومفهومها عن الحرية خاصة وأنها مُطلقة في مجتمع يوصم المرأة المُطلقة بوصمة الانحراف، فكرة تقليدية تم مناقشتها في العديد من الأفلام أشهرها فيلم “أنا حرة” للمخرج صلاح أبو سيف خاصة وأن أبو زيد لم يقدم معالجة جديدة للفكرة القديمة وتلك الحيرة التي تسيطر علي بطلته أثناء بحثها عن مفهوم الحرية ورغبتها في مواجهة المجتمع بمفهومها الخاص عن الحرية ثم تخليها عن قناعاتها نهاية بانتحارها غير المبرر درامياً وغير المُتسق مع طبيعة قوة شخصية بطلة الفيلم وتصديها لمجتمعها وعائلتها في بداية أحداث الفيلم، ثم يقدم أبو زيد فيلم الدموع الساخنة (1976) من إخراج يحيى العلمي وهو فيلماً ميلودرامي تقليدي مُخلص لميلودراميات السينما المصرية فترة الأربعينيات، كما اتسمت التجربة التالية أيضاً بالميلودرامية التقليدية من خلال كتابته لسيناريو وحوار فيلم ابنتي والذئب (1977) بالاشتراك مع صبري عزت عن قصة عبد الرحمن عوف ومن إخراج سيد طنطاوي.
حاول محمود أبو زيد من خلال فيلم مكالمة بعد منتصف الليل (1978) للمخرج حلمي رفلة تقديم فيلم إثارة وتشويق من خلال قصة تدور أحداثها حول زوج وزوجة يتم تهديدهما وترهيبهما من قِبل شخص مجهول ليتضح ومع نهاية أحداث الفيلم بأنه مأجور من ابن عم الزوجة الذي يحبها ويريد الانتقام منها لأنها تزوجت من غيره.
خدعتني امرأة (1979) هو أول أفلام الثلاثية التي جمعت الكاتب والسيناريست محمود أبو زيد بالمخرج سيد طنطاوي والذي تلاه فيلم لحظة ضعف (1981) إنتهاءاً بفيلم لن أغفر أبداً في نفس العام، أبرز ما يمكن ملاحظته في هذه الثلاثية هي طبيعة شخصية المرأة في كل حكاية ومدي القوة التي تتمتع بها كل شخصية علي اختلاف الحكايات، فنجد عواطف (عفاف شعيب) بطلة حكاية فيلم خدعتني امرأة ترفض الاستسلام لتجاهل المحامي (حسين فهمي) لها ورفضه للارتباط بها بعد ما حدث بينهما وتجدها إهانة لا تغتفر فتقرر الانتقام منه فترتب له تهمة يترتب عليها فصله من النقابة وضياع مستقبله، في حين نري سحر(نيللي) بطلة حكاية فيلم لحظة ضعف تتمرد علي معاملة والدها لها وتقرر تركه والسفر للخارج وعدم الاستسلام لأبيها الذي يحكمه ماضي أمها، أما في الحكاية الثالثة فنجد ياسمين (نورا) ترفض الارتباط بحسين (نور الشريف) رغم حبها الشديد له وذلك بعد أن علمت بأنه كان السبب وراء شلل والدها السائق البسيط، فكما نري كلها خيارات قوية لم تطرح كثيراً علي الشخصيات النسائية في الأفلام.

رباعية الجمع بين النقيضين
آفة الفن “المُباشرة”، فلا شئ يُفسد جمال الفن ويُفسد علي المُشاهد متعة استقباله وتذوقه قدر المُباشرة، حيث يقتحم صانع العمل الفني علي المشاهد خياله مُقلصاً المساحة التي تخصه هو وحده أثناء تلقيه لنوع الفن الذي اختاره ومن ثم تُفسد عليه متعة استنتاجه واستقرائه أو ربما توحده مع العمل الفني، ولكن ما هو تعريف المباشرة؟! .يُعرِف الدكتور صلاح قنصوه المباشرة في كتابه “نظريتي في فلسفة الفن” بأنها تعني “أن يُفصح النص عن هدف معين، أي يُصرح به، ويكشف عنه دون خفاء”، وأعتقد أن هذا التفسير يصلح أن يُطبق علي معظم أنواع الفنون ليست فقط النصوص المقروءة ولكن أيضاً المرئية أو المسموعة.
هل لابد للعمل الفني أن يتبنى قضية، رسالة، أو حتى مضمون أخلاقي؟!. بالطبع ليس شرطاً من شروط إنجاز أي عمل فني أن يحتوي علي ما سبق حيث تتسم معظم الأعمال الفنية التي يتخذ صانعوها هذا النهج بالمباشرة الناتجة عن تقصد توصيل الرسالة، الهدف أو المضمون، ولكن بالطبع هذا لا يتنافى مع أن يقدم العمل الفني فكرة بل على العكس فتعتبر الفكرة أحد أهم عوامل تميز العمل الفني خاصة لو ابتكر صانع العمل أساليب إبداعية مُبتكرة أو غير مُستهلكة لتوصيل فكرة العمل الفني بطريقة غير مباشرة وقليلون هم المبدعون الذين اتخذوا هذا النهج في أعمالهم الفنية ولم تتسم أعمالهم بالمباشرة مثل ما فعله الكاتب والسيناريست محمود أبو زيد في رباعيته مع المخرج علي عبد الخالق: العار (1982)، الكيف (1985)، جري الوحوش (1987) و أخيراً البيضة والحجر (1990).
أثناء القراءة والبحث عن أعمال الكاتب والسيناريست محمود أبو زيد تعجبت من الربط بين ثلاثة من أعماله وهم العار (1982)، الكيف (1985)، جري الوحوش (1987) وإطلاق مصطلح الثلاثية عليهم ولم أفهم لماذا لم يتم إضافة الفيلم الرابع البيضة والحجر (1990) لهم، فالأربعة أفلام لنفس الكاتب مع نفس المخرج علي عبد الخالق، والأربعة أعمال تم كتابتها من منطلق توجيه رسالة أخلاقية ما ربما كعبرة وعظة للمجتمع المصري آنذاك (وذلك حسب تصريحات الكاتب نفسه)، فلماذا تم الفصل بينها هل لاختلاف البطل في الفيلم الرابع وهو أحمد زكي فهو لم يشارك في أي من الأفلام الثلاثة الأولي ولكن هل يصلح هذا أن يكون سبباً، فالمعروف أن الفيلم أولاً وأخيراً يُنسب لمخرجه وكاتبه قبل أن يُنسب لأبطاله، أم لأن الثلاثة أفلام الأولى تم إنتاجها في فترة الثمانينيات أما الفيلم الأخير فتم إنتاجه في فترة التسعينيات، أم هل لأن الثلاثة أفلام الأولي تنتهي بآيات قرآنية فيما لا ينتهي الفيلم الرابع نفس النهاية وأخيراً هل لأننا لم نعتد على لفظ الرباعية قدر اعتيادنا على لفظ الثلاثية مثلاً!، ولازلت لا أعلم ما السبب وراء هذا غير أنني أجد الربط بين الأربعة أفلام جائزاً جداً وله مبرراته الآتي ذكرها تفصيلاً.

-المورال الأخلاقي
ذكر الكاتب والسيناريست محمود أبو زيد في أكثر من حوار أجراه أن وازع كتابته لأعمال مثل العار والكيف هي رغبته في إلقاء الضوء على ظاهرة معينة مثل المخدرات وتبصير الناس بعواقب ومخاطر الانخراط في مثل هذا الطريق، ويتضح ذلك من نهاية فيلم العار حين ينتهي الحال بالثلاثة أخوة الذين انساقوا وراء أطماعهم المادية بالجنون والانتحار.، وبالرغم من تقصد كاتب العمل لتوجيه مثل هذه الرسائل المباشرة للمشاهدين إلا أن الأعمال في مجملها لا يمكن أن نطلق عليها أنها مباشرة إذا تجاوزنا عن الآيات القرآنية التي أرى أن فائدتها الوحيدة هي إظهار رغبة الكاتب ومن بعده المخرج في التأكيد على المورال الأخلاقي الذي تم وضعه وتضفيره عبر عناصر العمل فنياً ودرامياً بشكل راق وجيد الصنع، فيما جاءت النهايات لتعطي المشاهد شعوراً بأن صناع العمل قد لقنوه درساً دينياً وأخلاقياً.
المنطق ومفردات الحوار
من أهم العوامل التي تُفقد المُشاهد تواصله مع العمل الفني خاصة إن كان فيلماً هي ألا تتحدث الشخصيات لغتها أو ألا تخضع تصرفات الشخصيات لمنطق ما يحكم كل شخصية، وهو ما لم يحدث في رباعية أبو زيد وعبد الخالق فنجد أن الكاتب يتبنى وجهة نظر كل شخصية علي حدة مع إعطاء مبررات مُقنعة لاتخاذ القرار الخطأ فكل شخصية تتصرف وفقاً لمنطقها الخاص وتتحدث بلغتها الخاصة، فالضابط (حسين فهمي) في فيلم العار وبالرغم من أنه من نفس البيت والبيئة التي تجمعه وأخويه الطبيب (محمود عبد العزيز) والتاجر (نور الشريف) إلا أن لكلٍ منهم منطقه في تبرير تصرفه لقبول الثروة المشبوهة، ذلك المنطق الذي يبرر درامياً ونفسياً كل تصرفات وخيارات كل شخصية، ونري أيضاً كل شخصية تتحدث بلغتها ومفرداتها، فمفردات لغة التاجر غير المتعلم غير مفردات لغة الطبيب غير مفردات لغة الضابط.
المأزق
ينسج أبو زيد لأبطاله شركاً أخلاقياً بمثابة المأزق الذي يتحتم على البطل خوضه ومواجهته ومن ثم حتمية الاختيار، اختيار ما بين الحلال والحرام في العار والاختيار ما بين الصواب والخطأ في الكيف والاختيار ما بين العلم والدين في جري الوحوش ثم أخيراً الاختيار ما بين العلم والشعوذة في البيضة والحجر، ولكي يتحقق المقصد الأخلاقي الذي ورد الحديث عنه سابقاً تختار الشخصية الطريق الخطأ ومن ثم تستحق النهاية المأساوية التي تليق بذلك الاختيار الآثم.
الحوارات الطويلة
ساهمت دراسة أبو زيد للفلسفة وعلم النفس كثيراً في بنائه لشخصيات رباعيته خاصة علي مستوى الحوار، فاتسمت الرباعية بالحوارات الطويلة نسبياً حتى أن المخرج علي عبد الخالق كان يحتال علي ذلك الطول النسبي ولعدم إشعار المشاهد بالملل بأن يبدأ الحوار في مكان وأن ينتهي الحوار في مكانٍ آخر دون وجود داع درامي لتلك النقلات مع عمل ميزانسين أو حركة للكاميرا وللممثلين معاً ذات تكوينات درامية من شأنها التأكيد علي جمل حوارية بعينها أو تعبيرات تمثيلية بالذات.
ما بعد الرباعية
خفُت نجم الكاتب محمود أبو زيد بعد رباعيته الشهيرة فعاد لكتابة أعمال تحمل طابعاً تجارياً دون الاهتمام بالجانب الفني والإبداعي ديك البرابر (1992)، عتبة الستات (1995)، الأجندة الحمرا (2000)، بون سواريه (2010)، ومسرحيات مثل جوز ولوز (1993) وحمري جمري (1995)، وحين اتجه أبو زيد للدراما التلفزيونية من خلال مسلسل العمة نور (2003) فقدم مسلسلاً أقل ما يُوصف به هو أنه مسلسل تربويً لتظل البصمة الأهم في تاريخ محمود أبو زيد هي رباعيته الشهيرة.