“مؤبد مفتوح”.. سيرة الفارس الذي قضى 40 سنة في سجون الاحتلال

يتناول المخرج فايق جرادة في فيلم “مؤبد مفتوح” (2015) قصةَ عميد الأسرى الفلسطينيين كريم يونس من قرية عارة في المثلث الفلسطيني منذ العام 1948، وقد اعتُقل يونس في السادس من يناير/كانون الثاني لعام 1983 عندما كان طالبا جامعيا يدرس الهندسة المدنية، وذلك بتهمة انتسابه لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وتنفيذه عملية أدّت إلى قتل جندي إسرائيلي والاستيلاء على سلاحه، مما استوجب افتراضا اتخاذ حكم بالإعدام شنقا، وقد أخذ في النهاية صيغة مؤبد مفتوح أمضى فيها كريم يونس 40 عاما في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي القاسية، مثل الرملة وعسقلان وبئر السبع ونفحة.

كسر المحرمات.. طرح فكري يفتح باب التشكيك

لعل الجوهري في هذا الوثائقي هو ما يتضمّنه من لقاء مع أم كريم (صبحية وهبي يونس)، لا سيما مع فقدان إمكانية التواصل المباشر وغير المباشر، بالكاميرا أو عبر الهاتف مع كريم يونس نفسه الذي نعرف أنه بقي يواسي والدته، بأنه واحد من آلاف الأسرى الفلسطينيين وراء قضبان سجون الاحتلال.

لا يتردد الفيلم في تقديم شهادات من مُحررين رافقوه في المُعتقل، أو زاملوه في مراحل الفتوة والشباب، ليرسموا لنا صورته، فهو طالب جامعي مثقف ومتعلم، وفتى شجاع وجريء، ومناضل وسياسي مُبادر، وقد كان من أوائل من فكّر في “كسر المُسلّمات الفكرية والمحرّمات لدى الثورة”، بطرحه المُبكر لفكرة الاعتراف والمفاوضات واعتماد المرجعيات الدولية.

وقد جرّ ذلك عليه الانتقادات والتشكيك، إلى درجة التعرّض للجنة محاسبة من قبل التنظيم، الأمر الذي فتح المجال واسعا في الواقع كما في الفيلم، للحديث عن إشكاليات سياسية واجتماعية وفكرية، بسبب اختلاف الثقافة والمعرفة والعادات والتقاليد لدى كريم يونس وأمثاله من الأسرى من مناضلي الأرض المحتلة عام 1948، عن الأسرى من أبناء قطاع غزة والضفة الغربية والقدس والشتات.

بناء الفيلم.. أسلوب هادئ يطرح القضايا الساخنة

يسلّط وثائقي “مؤبد مفتوح” الضوء على جانب موازٍ من تجربة كريم يونس الذي أنجز كتابيه “الواقع السياسي في إسرائيل”، و”الصراع الأيديولوجي والتسوية”، وهما جزء من النتاج الفكري النظري الذي صدر له في السجن.

درس يونس العلوم السياسية والعلاقات الدولية في السجن، مما أهّله أكاديميا للخوض في غمار التنظير، والتأسيس من ناحيته لمنظومة فكرية مدعومة بتمكّنه من اللغة العبرية، واطلاعه المباشر على ثنايا الفكر الصهيوني، وتمتّعه بسمات الباحث الموضوعي الهادئ القادر على التخلص من النزعات العاطفية، والتأثر بالسياقات الإعلامية خلال بحثه الجاد في دحض الفكر الصهيوني، أو نقد الفكر السياسي الفلسطيني التقليدي.

كريم يونس حرا بعد 40 عاما في الأسر

وعلى الرغم من أن وثائقي “مؤبد مفتوح” يفتح عددا من الملفات الساخنة والمثيرة للجدل والقضايا الإشكالية تماما -كما سنرى- فقد اعتمد الأسلوب الهادئ في طرحها، والشكل التقليدي في سردها وبنائها، مستعينا بما أمكنه من لقاءات وحوارات ومقابلات وصور أرشيفية، غاب عنها الحضور الراهن والمباشر لكريم يونس الذي أفرج عنه من سجون الاحتلال في يناير/كانون الثاني 2023.

ولعل هذا ما جعل الفيلم يأتي على شكل رحلة تنطلق من غزة (ربما) إلى عارة، حيث اللقاء مع والدة كريم يونس، ومن ثم شقيقه نديم للحديث عن كريم، تارة باعتباره الابن البكر الأكثر تميزا بين أشقائه، وأخرى باعتباره متميزا في حياته الدراسية وعلاقاته الشخصية وصداقاته وأحلامه التي قادته إلى الانضمام للنشاط السياسي السرّي للثورة الفلسطينية.

“فارس وادي عارة”.. مسيرة صلبة تلهم رفقاء المعتقلات

تتفق الشهادات -كما ستقول الوقائع- على تميّز وفرادة كريم يونس الذي أضحى واحدا من رموز وقادة الشعب الفلسطيني، وما أثبتته التجربة في الممارسة العملية لفتى يمكث معتقلا في هذه اللحظة (2015)، متكئاً على 33 سنة في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

والدة كريم يونس صبحية وهبي يونس توفيت وهي تنتظر ابنها

بدأت مسيرة عميد الأسرى أو “فارس وادي عارة” -كما يحبّ مريدوه تسميته- من عسقلان إلى بئر السبع ونفحة، بعد أن أمضى 73 يوما في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، مسيرة من عناوينها الصمود والصلابة حولته إلى نموذج وقدوة لكثير من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، يستلهمون من عزمه وتجربته، سواء على مستوى المزايا الفردية التي يتمتع بها، أو على مستوى اهتماماته الإنسانية بالأسرى، المرضى منهم والمحتاجين.

يميل فيلم “مؤبد مفتوح” إلى جانب عاطفي مؤثر يتمثل في ملامسة مشاعر الأم وفقدانها الابن الأكبر، وحديث الأم عن أيامها ولياليها وأوقاتها الكئيبة التي تمضيها تهجس في الكلام مع ابنها المغيّب، وكذلك مصادفة أن يكون تاريخ اعتقال كريم موافقا لتاريخ رحيل والده.

رحيل الوالد.. نزعة انتقامية ضد حملة الأوراق الإسرائيلية

عندما كانت “الحركة الفلسطينية الأسيرة في سجون الاحتلال” تكرّم كريم يونس بمناسبة مرور ثلاثين عاما على اعتقاله، أبلغه الأسير مروان البرغوثي بوفاة والده يونس فضل يونس، وكان ذلك في السادس من يناير/كانون الثاني عام 2013، أي ما يصادف الذكرى السنوية لاعتقاله، ليتضاعف الحزن ويشتد ألم الذكرى، فقد زادها حينها مرور سنتين لم يلتقيا خلالها بسبب الظروف الصحية للوالد.

لم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي لكريم بحضور التشييع أو التأبين، في إصرار منها ضده وضد ما يمكن أن يمثّله، بوصفه نموذجا للمناضل الفلسطيني من أبناء الأرض المحتلة عام 1948، ومن حملة “الأوراق الإسرائيلية”.

تجلّى ذلك من قبل عندما كان كريم يونس ضمن قائمة المُفرج عنهم في عملية تبادل الأسرى في العام 1995، لكن الإسرائيليين تراجعوا عن الإفراج عنه في اللحظات الأخيرة، ليمضي 21 سنة حينها.

دعم الحركة الأسيرة.. فعالية مجتمعية تواجه الاحتلال

لا يستغرق الفيلم في هذا الجانب كثيرا لينتقل إلى مستويين اثنين في غاية من الأهمية، أولهما البيئة العامة للحركة الفلسطينية الأسيرة برموزها وأفرادها ومناضليها، وطبيعة العلاقات الإنسانية التي ربطت بينهم خلف قضبان السجن والاعتقال، ومن ثم في الحياة العامة، بعد إطلاق سراحهم وخروجهم من الأسر.

وثانيهما الفعالية المجتمعية التي يمكن لها أن تكون عونا ودعما وسندا للحركة الأسيرة، خاصة في عالم اليوم، حيث ثورة الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي، والقدرة على الانتشار والوصول إلى أوسع قطاع من الرأي العام المحلي والعربي والعالمي، والتأثير في صياغته وتوجهاته، حتى لا يبقى الصمت مطبقا على ما يجري في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.

فيسبوك كريم يونس.. عالم افتراضي يتخطى زنانين السجّان

تبادر ريم يونس زوجة أخي كريم يونس إلى إنشاء صفحة فيسبوك باسمه، لتكون هذه الصفحة منطلقا لنشاط افتراضي لقي تجاوبا واسعا، وقد فتحت صفحة كريم يونس المجال لعدد من النشاطات والفعاليات والأخبار، فبدل طباعة مقالاته فقد صار بالإمكان نشرها، وبات ممكنا أرشفة ما يمكن من صور وأخبار، والإطلالة المستمرة على أحواله في السجن. كما أن الصفحة الافتراضية أعادت عقد العلاقات مع عدد من الأصدقاء والمعارف التي غيبتها الأيام.

صفحة الأسير كريم يونس على فيسبوك

الاشتغال على وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وما يمكن أن نسميه “الفعل الافتراضي”؛ يمكن أن يكون أحد المداخل ذات الأهمية التي يمكن من خلالها دعم الأسرى والمعتقلين، وتوطيد الحركة الفلسطينية الأسيرة، والانتقال من الظل إلى الضوء، ومن خانات الصمت إلى بوح الكلام، والفضح وحشد الرأي والدعم والمساندة.

“مؤبد مفتوح”.. فيلم يوثق تجربة الأسر المريرة

فيلم “مؤبد مفتوح” للمخرج فايق جرادة وثائقي ضروري في وظيفته، ينتمي إلى الفكرة التي تقول إن المضمون يمكن أن يطغى بأهميته على الشكل الفني أو القيم الجمالية، لا سيما عندما يكون الحديث في مجال صناعة الوثائقيات ذات التكلفة المحدودة والخيارات المُحدّدة والمساحات المقيدة.

إنه وثائقي يستحق التقدير واحترام الفكرة والجهد المبذول في تنفيذه وبنائه وسرده، ومتابعة أسئلته التي يثيرها، فذاك يرتقي إلى مستوى المهمة الوطنية والواجب الإنساني والأخلاقي، طالما أن هناك خلف قضبان الأسر والاعتقال الإسرائيلي آلافا من الأرواح البشرية الفلسطينية تتعذب يوميا، وتتصدى في عذاباتها مع آلاف الأسر الفلسطينية التي تعيش المحنة في كل لحظة، طالما أن هناك قرابة مليون فلسطيني مرّ بتجربة الاعتقال والأسر، ومنهم من لقي الصدود والإهمال والتقاعس عن إعادة الدمج في المجتمع الفلسطيني.


إعلان