“كازافيتس” و “رولاندز” .. ثنائية الحب والجنون

جون كازافيتس وجينا رولاندز
 
آية عبد الحكيم
 
“نصنع الأفلام لنحبها أولاً، ونتمنى أن يحبها الآخرون لاحقًا، ربما فعلوا وربما لم يفعلوا، ربما استطعنا بيع الفيلم وتوزيعه وربما لم نستطع، متعتنا في صناعته، ليست في العظمة التي قد تتبع ذلك. نصنع الفيلم لأنفسنا، لا لشركات الإنتاج، نصنعه ليسعدنا، ولنرى الشخصيات حيّة.”
لسنواتٍ عديدة وقف (جون كازافيتس) أمام الكاميرا ممثلاً في أفلام هوليوودية وعروض تليفزيونية، ورغم أنه كان يُعدّ نفسه ممثلاً محترفًا، لكن شغفه الحقيقي كان صناعة الأفلام. هكذا بدأ في جمع أجره عن أدوار التمثيل ليبدأ بها إنتاج أفلامه، على طريقته الخاصة.
 
في البدء يكتب أفلامه. يظن البعض أنها ارتجالية لا تعتمد على سيناريو وحوار واضحين، لكن الحقيقة أنه يكتب أفلامه بدقة، ثم يترك مساحة لممثليه ليضيفوا في البروفات ما يجدونه ملائمًا لفكرته، ثم يعيد الصياغة مجدداً. لم تتحدث شخصياته كما ينبغي أن تتحدث الشخصيات بالأفلام، بل كما يتحدث الناس في الطبيعة. يُستثنى من ذلك فيلمه الأول (Shadows) والذي خرج نتاج ورشة تمثيل كان ينظمها، واعتمد على الارتجال بشكلٍ كبير.
قد لا تحمل أفلامه الحبكة المعتادة للفيلم الدرامي، وكأنه يدخل بيوت أبطاله فجأة ليقدمهم لنا بتفاصيلهم العادية، ثم يرحل، فنجد أفلامه تعتمد رأسًا على الشخصيات حتى الثانوية منها، وعلى حوارتهم وأفكارهم وكل ما يجول بحيواتهم. أكثر العناصر تكراراً في أفلامه هي تيمة الجنون، ورغم أن أبطاله ليسوا مصابين بالجنون؛ لكنهم على حافته أغلب الوقت. اختلالاتهم العاطفية وصراعاتهم الداخلية تمتزج مع انفعالاتهم المرتبكة، والمربكة للمشاهدين، فلا يتمكن أحد من توقع خطواتهم القادمة أو ما سيؤول إليه الفيلم. 
 
اثنا عشر فيلمًا سينمائيًا وبضع حلقات تليفزيونية هي كل ما أخرجه وكتبه (كازافيتس) في مقابل العشرات من الأفلام التي شارك في بطولتها. شاركته زوجته (جينا رولاندز) في إنتاج أفلامه، وقدمت دور البطولة في ثمانية منها، ليشكلا ثنائيًا فريداً -ربما الأهم على الإطلاق- في صناعة الأفلام المستقلة. كانت الأفلام بالنسبة لهما عملاً عائليًا يتشاركان كل مراحله، ويصاحبهما في البطولة الأصدقاء وأفراد العائلة، بل ويستخدمان منزلهما ومنازل الأصدقاء للتصوير أحيانًا.
من بين جميع أبطال (كازافيتس) فإن لجنون (رولاندز) خصوصيته ومتعة مشاهدته. امرأة متوسطة العمر، دومًا على الحافة، لكنه في كل مرة يقدمها في كتابة مختلفة، وتقدم هي أداءً مختلفًا ومتميزاً.
 
A woman under the influence
 
في فيلم (Faces) الانتاج الرابع لـ (كازافيتس)، يقدم لنا الحياة الأمريكية كما يراها بلا محاولات تجميلية، يحذر المشاهدين تحذيراً ضمنيًا في البداية بأن ما سيشاهدونه أقرب للعمل التجريبي. كاميرا تتحرك بعشوائية وتدور مع الراقصين وبين زحام الحانات، لقطات مقربة لملامح الوجوه، وأخرى بعيدة تبيّن ضآلتهم في محيطهم. يعود رجلٌ من عمله فيجد طعامًا شهيًا أعدته زوجته، يتسامران ويضحكان على بعض النكات الجنسية ثم تشتعل مشاجرة تتطور بشكل تصاعدي مفاجئ، حتى يطلب الزوج الانفصال عن زوجته ويذهب ليقضي ليلته مع عاهرة يحبها، وتذهب الزوجة للسهر مع صديقاتها ويعدن للمنزل بصحبة أحد الرجال. أربع شخصيات رئيسية متوسطة العمر بمشاعرهم وأزماتهم، بلا تفاصيل كثيرة، فقط حواراتهم الشخصية ومشاهدهم سويًا، يجمعها (كازافيتس) ويصنع منها عملاً فنيًا لا يشبه غيره ويرسم خطًا واضحًا لكل أعماله التالية لا يحيد عنه كثيراً.
 
العمل الأكثر أهمية وشهرة لـ (كازافيتس) و(رولاندز) هو فيلم (A Woman Under the Influence). كُتب الفيلم في البداية كمسرحية. تحكي (رولاندز) أنها حين قرأت نص المسرحية قالت لزوجها: “جون. سأموت خلال أسبوعين من أداء هذه المسرحية كل ليلة على المسرح.” هكذا حوّلها (كازافيتس) لفيلم.
 
المرأة هي (مايبل) زوجة وأم لثلاثة أطفال، تعرضت من قبل لأزمة نفسية وعلى إثرها يعاملها الجميع كمريضة على حافة السقوط مرة أخرى. قد تبدو بعض تصرفاتها خارجة عن المألوف، لكنها طوال الوقت تجتهد بين أطفالها وزوجها عامل الإنشاءات البسيط. تركض نصف حافية في حديقة منزلهم الصغيرة لتحضر لأحد الأطفال دراجته. تستقبل أصدقاء زوجها الاثني عشر بابتسامة وسؤال تلقائي عما إذا رغبوا ببعض الإسباجيتي. تسعى لإرضاء الجميع، ومهما تذمّر زوجها تعود لتسأله بتوسّل: “أخبرني ماذا تريدني أن أكون؟ يمكنني أن أكون أي شئ” .. 
حين تنتابها نوبة عصبية ويحضر الطبيب تحاول أن تسيطر على نفسها، تبكي لأنها لا تريد أن تترك أطفالها للذهاب إلى المصحة. تتصرف كزوجة وأم طبيعية عصبية بعض الشئ لكنها ليست مجنونة، وإن كانت كذلك فإن زوجها لا يقل عنها جنونًا على أية حال، لكن جنونهما سويًا ينسجم بالنهاية أو يحاولان أن يحتوياه بينهما، ليستطيعا تربية ثلاثة أطفال يركضون بينهما ويتعلقون بملابسهما وهما يتشاجران.
 
Faces
 
ثنائية حافة الجنون والانهيار ذاتها جمعها (كازافيتس) في فيلم (Love Streams) وقام ببطولته أمام (رولاندز)، لكن بطليه هذه المرة كانا شقيقين. لن تعرف أنها شقيقته إلا قرب الثلث الأخير من الفيلم، بل ولن يجتمعا إلا قرب منتصفه. كعادتها تجاهد (رولاندز) لتحافظ على الحب في حياتها. هذه المرة (سارة) مطلقة تحاول الاحتفاظ بحضانة طفلتها، لكن لأنها ليست مستقرة نفسيًا بالقدر الكافي تخسر الطفلة. في أحد المشاهد تقدم عرضًا كوميديًا كاملاً أمام زوجها السابق وابنتها. تمارس كل ألعاب مهرجي السيرك لتضحكهما وسط امتعاضهما واستنكارهما لما تفعله، لتدرك في النهاية عبثية ما تفعله. لا تكتفي بمحاولاتها الفاشلة مع زوجها وابنتها، فتحاول مع شقيقها. تخبره ببساطة أنها ستحضر له طفلاً ليهتما به سويًا، وتذهب إلى مزرعة صغيرة وتعود للمنزل بحصانين صغيرين، نعجة صغيرة، بطة، بضعة كتاكيت، بكلبٍ وببغاء، لكنها لا تشعر أن شقيقها يُقدّر محاولتها لإسعاده، فتصاب بانتكاسة نفسية جديدة.
 
شقيقها (روبرت) على الجانب الآخر محاطٌ بالحسناوات، يكتب رواياتٍ جنسية رخيصة ويقضي لياليه في الحانات وبين فتيات الليل. مستهترٌ ولا يبدو أنه يشعر بأي انتماءٍ عاطفي لأحد. يقدم لابنه كوبًا من البيرة قبل الافطار، ويتركه بإحدى غرف الفنادق في لاس فيجاس ليلهو هو للصباح. على عكس شقيقته تأتيه فرص الحب لكنه لا يستطيع الحفاظ عليه، وحتى علاقته بها -والتي تبدو أكثر العلاقات صحية في حياته- لا يستطيع الإبقاء عليها.
 
هذه هي الشخصيات التي كتبها (كازافيتس) عادة: أزواج وزوجات في منتصف العمر يعانون مع مشاعرهم واضطراباتهم. مكشوفون عاطفيًا بالكامل بكل ضعفهم وأخطائهم، يبحثون عن الحب ويبذلون كل جهودهم للحصول عليه، لكنهم لا يجيدون البحث ولا يجيدون التعبير، وبالأغلب لا يجيدون استقبال مشاعر الحب من الآخرين أو تفهمها والتعامل معها كما يجدر بهم. ورغم أنه اهتم بشكلٍ خاص بالعلاقات الاجتماعية، لكنه جرّب ذلك في سياقاتٍ مختلفة، حتى أنه صنع فيلم (Gloria) الذي يعد أقرب لأفلام (النوار) عن سيدة – (رولاندز) كالعادة – تحاول مساعدة طفلٍ للهرب من العصابة التي قتلت عائلته وتطارده. 
 
لم يقدم (كازافيتس) الكثير من الأفلام إذ أنهكه المرض وتوفي قبل أن يبلغ الستين من عمره، لكنه في سنوات عمله القصيرة قدّم للسينما الكثير. أسس للسينما المستقلة وسخّر كل طاقته ليصنع أفلامه كما شاء. أحاط نفسه بأصدقائه وأفراد عائلته فخرجت أعماله حميمية وأكثر قربًا لمشاهديه، وظلت تُقدَّم في عروض خاصة حتى بعد عقودٍ من إنتاجها فلا يتوقف اسمه عن التردد بين المهتمين بالسينما والمخلصين لها.
 
Love Streams
 
 
 

إعلان