“كيسلوفسكي” .. سيِّد الدُمى الصامت

كيسلوفسكي
 
طارق خميس
 
قصة “تكاد تكون مقدمة”
 
كانت تحاول إخباري أن هذه عادتها، عندما يرُهقها العمل تخرج وتقف وسط الناس، تحدّق في وجوههم لأن ذلك يقذف في نفسها سلاما ما. أخبرتني أنها منذ ست سنوات مرّت ببعض الانهيارات. وبينما كانت تسير في أحد الأيام في الشارع رأت الممثل الإيمائي الشهير “مارسو”. فتابعت السير خلفه، لكنه فاجأها بالالتفات إلى الخلف والنظر إليها مبتسمًا، قبل أن يعود ليتابع سيره. “لقد أنقذني حينذاك” قالت الممثلة. وهنا تحوّل نسج الخيال هذا؛ لحقيقةٍ بالنسبة لي وصدّقتها.
لقد فكرت لبعض الوقت ما إذا كان “مارسو” عاش فقط لينقذ حياة هذه الممثلة الشابة. ربما كل شيءٍ قام به، كل عروضه و حركاته التي أثّر بالناس من خلالها، كانوا لا شيء مقابل هذه الحقيقة.
“هل عرف كم كان هذا الأمر مهمًا بالنسبة لكِ؟” سألتها.  فأجابت بـ”لا, لم أره بعدها أبدًا”.
 
يحكي كيسلوفسكي Krzysztof Kieslowski عن ذلك، وهو مشدود لتلك الحركة التي من الممكن أن تنقذ أحدهم دون أن تقول له شيئاً. إنها لحظة جمالية مكثّفة ولأنها كذلك فهي لا تحيل لخارجها، يكفي أن تحدث وحدها وتهزّ من يشهدها للأبد.
 
 إنه يعرف بأن المعنى الذي نقبض عليه يصير ملكاً “للأيديولوحيا” أما ذلك الذي لا ينفك يهرب من يدينا فهو “الحياة”، وحركتنا بغية إمساكه وفشلنا المستمر في ذلك هو “الفن”؛ لأنّ الفن لامعنى له إن لم يَحملنا على تقُّبل الحياة نفسها بوصفها مأساة، هذا الدرس الفلسفي يذكرنا بنيتشه بالطبع، لكنه يذكرنا بكيسلوفسكي أيضاً، حيث إن كيسلوفسكي كان “نيتشه وقد أصبح مخرجاً” ولابدّ أنّ هذا سيكون صادماً لمن تعاملوا مع مسلسل “الوصايا العشر” و”فيلم قصير عن الحب” و”فيلم قصير عن القتل” بوصفها أعمالاً أخلاقية. 
 
كذلك الأمر سيكون غريباً لأولئك الذين اعتبروا ثلاثية الألوان (الأزرق،الأبيض، الأحمر) عملاً محافظاً وقومياً  تمثّل حدث الثورة الفرنسية التي جعلت من هذه الألوان علمها (الحرية،المساواة،الإخاء)، لأن الثلاثية لم تكن عن نظام اجتماعي وسياسي معين، إنها عن الفراغات التي داخل النظام نفسه والتي بما هي كذلك تسمح لمتسلِّل محترف – مثل كيسلوفسكي – ليتسلل من خلالها، يلتقط المعنى وهو قيد الحركة قبل أن يصبح نظاماً ويحلّ في التاريخ.   
 
كيسلوفسكي يعطي توجيهاته للممثلين
 
الإفلات من قبضة المباشرة
 
لقد بدأ كمخرج وكاتب سياسي، كانت أعماله الثلاثة الأولى تتأرجح بين المنع والحذف على يد السلطة الحاكمة، فيما كان هو مُتحمِّساً لتلك المرحلة التي من الممكن القول فيها كل شيء وبشكل واضح وصارم أمام نظام يحمل ذات الصرامة والمباشرة. 
ثم جاء عمله التلفزيوني الهام عام 1988 “الوصايا العشر” Dekalog الذي اعتمد على وصايا موسى – عليه السلام – العشر في العهد القديم، أخذه العمل خطوة للأمام حيث بعدها سيقفز متسللاً.  “الحياة المزدوجة لفيرونيكا 1990” كان قفزته التي قطعت مع ما قبلها، ووضعته أمام خصم من طبيعة مختلفة، معاني لاتهب نفسها بسهولة وكذلك كانت تجربته السينمائية.
 
 تحكي “إيرين جايكوب” التي قامت بدور فيرونيكا: “هو يتركنا على سجيتنا أثناء التصوير النهائي للقطة، يشاهد ولا يتكلم، نحن نبدأ في الارتجال، ننسى كل البروفات، كل شيء، المشهد هو من يُحركنا مثل الدمى، هو سيد الدمى الصامت.” وبكلامها الأخير تسمّى هذا المقال!
 
لماذا هو صامت؟ لماذا لا يجد الذين يبحثون عن الحوار متعة في أفلامه؟ لماذا أبطاله صامتون وهو يجلس خلف الكاميرا صامتا أيضاً، ما هذا الصمت الذي يلفّ الفيلم كأنك في كنيسة مهجورة؟!. يبدو كيسلوفسكي وكأنه يرسم بأدوات السينما، وأفلامه تبدو كلوحات فنية وقد تحرّكت، إن كان كذلك فمتى آخر مرّة رأينا فيها رسّاماً يتكلم؟
 
هناك لحظة في الفيلم يكون ممكنًا لفيرونيكا  أن تنظر عبر نافذة الحافلة قبل ثانية لترى نفسها الأخرى في ساحة المدينة، لكنها لا تنظر بالطبع. من هذه التي كانت هي؟ كيف يمكن لفيرونيكا أن تكون في الباص وواقفة أيضًا في ساحة المدينة؟ وإن كنا نعيش حياتين في نفس اللحظة فإن لقاء اللحظتين معًا مرهون بفارق ثانية من النظر إلى الخلف؟!، هل تظن – عزيزي القارئ – أن هذه الفكرة يُمكن أن تمرّ هكذا دون أن تدعك تتلفت في الشوارع  باحثاً عن نفسك بعد انتهاء الفيلم؟! هذا المقهى الذي ترتاده في العادة لاحتساء القهوة، لو استدرت ونظرت خلفك ستجد نفسك تدخن النرجيلية هناك. ماذا لو كان ذلك ممكناً؟ إن حياتك مَرّ منها مشرط فجعلها اثنتين، قَسَم زمانها على شخصين وأمدَهما بفسحة المكان. 
 
حين تسقط فيرونيكا الأولى ميتةً على مسرح الأوبرا، فإن فيرونيكا الأخرى تشعر بالأسى دونما سبب، ربما هذا يفسر الحزن الغامض الذي يصيبنا ولا نملك له تفسيراً، لابد أن آخر ما فينا قد أصابه مكروه. وكأن أفلامه تبدأ عندما تنتهي وتحرّك الأشياء الراكدة من حولنا… إنه سيد للدمى.. وصامت.
 
"جولييت بينوش" في لقطة من فيلم "Blue"
 
الموسيقى كمنصّة للتأويل
 
 تبدو المنصة الوحيدة للتأويل التي يتركها كيسلوفسكي للمشاهد هي: الموسيقى. لقد تعامل في أفلام “الألوان الثلاثة” مع مدراء تصوير مختلفين لكل عمل، لكن حين يتعلق الأمر بالموسيقى فإنه تحالف مع الموسيقي البولندي “زبيجنيو برايسنر” Zbigniew Preisner في مجمل أعماله، والاستماع لموسيقاه يحمل إجابة عن سؤال اختياره، إنها موسيقى تبعث فيك حنينا لشيء غامض وحزين، يشير لمعنى ما دون أن يذكره، كما يعمل كيسلوفسكي تماماً.
 
 مع فيلمه “أزرق Blue” الذي يقابل الحرية، نجده يبحث عن الحرية في الفردانية، الفرد وقد تخفف من ارتباطاته في المكان والعلاقات. يبدأ الفيلم الذي نراه نحن من خلال أعين “جولي”، يتوفى زوجها وابنها، وتشعر كما لو أنّ الحرية ستمارس للمرة الأولى، تتخلص من البيت وتذهب للسكن في شقة داخل حيّ لا يعرفها أحد فيه، ترتاد المسبح باستمرار واللون الأزرق يملأ الأجواء، نعيش معها أجواء الغطس داخل الماء لكننا لا نملك تأويلا جماليا ما لهذا المشهد، وهنا تدخل الموسيقى لتخبرك أنه أزرق حرّ ووحيد أيضاً، أمسَكت “جولي” بالحرية بذات اليد التي أسقطت منها المسؤولية، وهذا ما قصدّته عندما تحدثت عن الموسيقى كمنصة للتأويل. إنك تعرف عن “الجوع الروحي” الذي يهاجم أبطال الفيلم فقط عبر الموسيقى.      
 
في البدء كانت الغريزة
 
إن كنا نسأل عن الطبقية والاستغلال فإنه كان يسأل عن غريزة “التفوق” كما التقطها في فيلم “أبيض White” وهو فيلم عن “وزبيغنيو” الذي تتركه صديقته “دومينيك” بعد أن عانى الأمرّين للانتقال إلى باريس. وفي موطنه بولندا، يريد أن يجني الملايين كي يتساوى معها وينتقم منها.
 
وإن كان الأبيض يرمز للمساواة، فإنها لا تبدو في الفيلم  مسألة حقوقية تجعل من غير المتساوين بحكم الاجتماع متساوين بحكم القانون؛ بل هي نَظَرٌ في الشروط التي جعلت من ذلك التفاوت ممكناً، وهي ليست هنا سياسية أو اجتماعية، إنها غرائزية من الممكن أن تجد لها تعبيرات تاريخية مختلفة، لكنها موجودة وتدافع عن نفسها بوصفها غريزة “تفوّق”.
 
لقطة من فيلم "Short film about love"
 
وفي فيلمه “فيلم قصير عن القتل A Short Film About Killing” يهيئ مدينة بشعة يفيض فيها الأذى ليمسّ الحيوان والحجر، حتى يصبح القتل – أي قتل – أمراً وارداً، وبدون مقدمات، يقوم شاب بقتل سائق تكسي بدم بارد، والذي بدوره – سائق التاكسي – كان من الممكن أن يقتل آخرين لولا أنه قتل من قِبل آخر لا يعرفه، ثم ينقلب الفيلم ليجعلك متعاطفاً مع القاتل الذي لم يكن بطلاً على الإطلاق، إنه يدفعك للتعاطف مع القتل الذي لا يحمل أي ادعاءات بطولية، ذلك النوع من القتل الكامن في غرائزنا وهو ما يجعل البطولة ممكنة لاحقاً.
 
أما في فيلم “فيلم قصير عن الحب A Short Film About Love” فإن الفيلم الذي اقتبس وصية النبي موسى “لا تزنِ” لم يخبرك بها كمقولة أخلاقية دينية، وإنما وضعها في قلب الجمالي لتنمو داخله بدون توقيع خاص، بدأ الفيلم مع عين الشاب عبر الناظور المنصوب على شباك غرفته، وهو المهووس بمراقبة جارته المرأة الجميلة، تتطور أحداث الفيلم، لنجدها تمسك يده وتمررها نحو أماكن جسدها الخاصة، يسحب الشاب يده ويهرب، وفي حمام منزله يُمرِّر مشرطا حاداً على شرايين يده ذاتها، ويُحمل إلى المشفى ويختفي من الفيلم.
 
ظنّت أنه يريد منها ما أراده الشبان الذين اعتادوا على ارتياد منزلها. تسأل: الجنس، أليس هذا ما تريدونه؟
في نهاية الفيلم حين تنظر المرأة من خلال منظار غرفته ترى نفسها ولكن بعيونه، إنها جميلة وجسدها يفيض في المكان وليس يتحدد في حدود الوظيفة الاستعمالية التي تعطي “الجنس” موقع الصدارة ليحجبها هي ذاتها.
 
لم تكن “لا تزنِ” الخاصة بالفيلم هي نفسها “لا تزنِ” الخاصة باللاهوت، إنه يلقي بالمعنى من فوق النظم الأخلاقية ويقابلك هناك ما وراء الخير والشر ويقول لك لا تشتهِ اختزالات الجسد، وإن كان لابد من تواصل معه فليكن مع الفضاء الذي جَعله هذا الجسد ممكناً.
 
هذا الفيلم لا يُدين الجنس من حيث هو غريزة اشتهاء؛ لكنه يفتح الغريزة على ممكنات رحبة لهذا الاشتهاء.
 
"إيرين جاكوب" في لقطة من فيلم "Red"
 
كان فيلم “أحمر  Red” – فيلم اعتزاله الذي غادر الحياة بعده بسنتين – يحكي قصة فالنتاين (إيرين جايكوب) و القاضي العجوز (جان – لوي ترنتینیان) المشغول بمراقبة الناس والتجسُّس عليهم، نبدأ بمعرفة قصة العجوز شيئاً فشيئاً، لكن لحظة واحدة تلك التي التقاها فيها داخل المسرح وقد غادره الجمهور، دفعت العجوز ليسكب ذاته أمامها دفعة واحدة، لنرى بعدها هذا العجوز ليس مجرد شخص التقته؛ بل شخص كان من الممكن أن تلتقيه، حيث توصله روابط خفية بطالب قانون يسكن في الشقة المجاورة لها ولم تنتبه له، يدعى “أوجست”، وهذا الشاب يكتشف خيانة حبيبته فيمرّ بأزمة عاطفية، تماماً كما حدث مع العجوز.
 
 في نهاية الفيلم تسافر فالنتين في الباخرة والتي تقلّ “أوجست” أيضاً دون أن يلتقيا إلا بصوت مذيع الأخبار – الذي نسمعه نحن والعجوز الواقف أمام التلفاز – يعدّد المذيع أسماء الناجين: جولي وصديقها (من الفيلم الأزرق)، دومينيك وكارول (من الفيلم الأبيض)، فالنتين وأوجست .. إنها نهاية ثلاثية جعلت من مصائر “الثلاثة ألوان” تنجو حين غرق الجميع، ليس لأنها امتلكت حقيقة المعاني الإنسانية وإنما لأنها انبثقت عنها، بكامل نقصانها وتوترها.

إعلان