“نيكولاس راي” .. الحياة في السينما

أمير العمري

لم يفهم كثير من نقاد السينما الأمريكيين سرّ موهبة المخرج “نيكولاس راي” Nicholas Ray (1911- 1979) الذي عمل خلال العصر الذهبي للسينما الأمريكية في الأربعينيات والخمسينيات، ومن أشهر أفلامه “متمرّد دون قضية” Rebel Without a Case (1955) الذي أبرز موهبة الممثل الشاب “جيمس دين”، وأبرزه في دور البطولة كنجم ساطع في طريقه لمنافسة مارلون براندو، وكان مثل براندو، ممن تدرّبوا في “ستديو الممثل” على أيدي إيليا كازان ولي ستراسبورج، أي على ما عُرف بالميثود أو المنهج الذي يعتمد على التقمُّص والتماثل التام مع الشخصية واستدعاء التجربة الشخصية للممثل نفسه والاستفادة منها في التعبير عن الشخصية التي يؤديها.

كان “جيم ستارك” بطل “متمرد دون قضية” – الذي يقوم بدوره جيمس دين – بطلا وجوديا على نحو ما، متمردّا، يشعر بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي، لا يعرف ماذا يريد بالضبط، تدفعه الضغوط لقبول منازلة شاب، زميل له في الجامعة، لا يحمل له “جيم” أي ضغينة، بل ولا يرغب في منازلته، لكنه يصبح مدفوعا بقوى قدرية لتلك المنافسة التي ستنتهي إلى هلاك الآخر رغما عنه، ثم يصبح مطاردا من جانب رفاق الشاب الذي لقي مصرعه.

 كان الفيلم يُصوِّر تمرّد الشباب على الأسرة والمجتمع القديم السائد في تلك الفترة، ويجسد القلق الناجم عن انعدام الشعور بالأمان في نطاق ما عرف بـ “الأسرة النووية”، وهو تعبير يتردد في الفيلم حرفيا على لسان الطفل الصغير “بو” شقيق كيلي (نتالي وود) التي ستصبح بمثابة طوق النجاة لجيم.

من أفلام نيكولاس راي الأخرى الشهيرة، “جوني جيتار” (1954) أحد كلاسيكيات الويسترن الرومانسية، و”أكبر من الحياة” (1956) الذي تألق فيه جيمس ميسون في دور مريض يدمن تعاطي عقار معين مما يدفعه إلى الهلوسة، و”الرجل الشره” (1952)، و”ملك الملوك” (1961) وغيرها.

بين غودار وكانبي

ذات مرة، قال المخرج الفرنسي الشهير جون لوك جودار- أحد رواد حركة الموجة الجديدة – إن “السينما هي نيكولاس راي”، وقد اهتم جودار مع زملائه في مجلة “كراسات السينما”، بأفلام راي، وتوقفوا أمامها بالدرس والتحليل، وكان لهذه الأفلام تأثير كبير على نقاد “الكراسات” الذين سرعان ما دشنوا الحركة السينمائية الطليعية الجديدة، التي تركت تأثيرا كبيرا على السينما الأمريكية نفسها فيما بعد.

وقد اعتبر نقاد الموجة الجديدة “راي” مخرجا مؤلفا، أي صاحب رؤية، يتميز بنظرته الإنسانية الرومانسية، وباهتمامه الكبير بجماليات الصورة التي أكسبها أبعادا تتماشى مع نظرته الشخصية للعالم، وليس طبقا للقواعد التي كانت تحكم نظام العمل في هوليوود، وكان هذا النظام وقتذاك، يخضع لمديري الاستديوهات السينمائية (أي الشركات السبع الكبرى الشهيرة) الذين كانوا يعتبرون المخرج مجرد منفذ للسيناريو، وكان مدير الاستديو يتدخل في عمل المخرج وينتزع منه الحق في الإشراف على المونتاج، أي على الشكل النهائي للفيلم، وقد يأتي الفيلم في النهاية على غير ما أراد مخرجه.

وكثيرا ما تمت الاستعانة بمخرج آخر لإضافة مشاهد معينة على بعض أفلام راي مع استبعاد اسمه من عناوين الفيلم. وفي فيلموجرافيا نيكولاس راي خمسة أفلام لم يذكر اسمه عليها كمخرج، إلى أن أعيد له الاعتبار فيما بعد.

ولعل من الطريف أن الناقد السينمائي الأمريكي الأشهر “فنسنت كانبي”، الذي ظل يكتب النقد السينمائي لصحيفة “نيويورك تايمز” لأكثر من عشرين عاما، كتب في مقال له (بتاريخ 26 سبتمبر 1981): “إن أسوأ ما حدث لنيكولاس راي أنه بدأ منذ أواخر الخمسينيات يستمع لمن يعتبرونه “فنانا”، وعندما حاول أن يعيش هذا الدور، أي دور “الفنان” السينمائي كما فُرض عليه فرضا من جانب النقاد والسينمائيين الأوروبيين، ولأنه لم يفهم أبدا ما الذي كان يفتن المعجبين بأفلامه الهوليوودية، فقد أصبح، أكثر فأكثر، مشتت الذهن، عاجزا عن مواصلة ما كان يقدمه من أفلام أثارت الاهتمام به من الأصل “!

راي المتمرد

كان راي متمردا على  نظام هوليوود التقليدي، وكان دائم الصدام مع مديري الاستديوهات، راغبا في التحرُّر من تلك القيود، وانتهى بالتالي منبوذا من هوليوود، فعاد إلى نيويورك حيث كان يقوم في سنواته الأخيرة بتدريس السينما وإخراج بعض الأفلام التجريبية في وقت كانت نيويورك قد أصبحت الطرف المناقض لهوليوود سينمائيا، بعد ظهور حركة “سينما تحت الأرض” بقيادة جون كازافيتس، والتجارب السينمائية الطليعية لآندي وورهول، وغير ذلك.

وقد أصيب، راي الذي لم يكن يكف عن التدخين، بسرطان الرئة، وقضى الفترة الأخيرة من حياته بين المستشفى وشقته الفسيحة التي كانت تقع في الطابق الأخير من إحدى بنايات حي سوهو القديم، وكانت عبارة عن مساحة مفتوحة جعل منها شيئا أقرب ما يكون إلى أحد متاحف السينما، أو ما يشبه ستديو للتصوير السينمائي، وكانت تمتلئ بآلات العرض السينمائي وعلب الأفلام ومعدات الصوت والمونتاج، وغيرها.

مغامرة فيندرز

كان المخرج الألماني الشهير فيم فيندرز، في ذلك الوقت من عام 1979، في الرابعة والثلاثين من عمره وكان يريد البدء في إخراج فيلم “هاميت” عن كاتب القصص البوليسية الأمريكي داشيل هاميت. وقد تحمس فرانسيس فورد كوبولا وقتها لإنتاج الفيلم، لكن فيندرز أراد الاستعانة بنيكولاس راي، وكان من أكثر المعجبين بأفلامه، وسبق أن أسند إليه دورا صغيرا كممثل في فيلمه “الصديق الأمريكي” (1977).

وقد بدا فيندرز مترددا حائرا لا يعرف كيف يبدأ فيلمه الجديد عن داشيل هاميت، فتوجّه في أبريل 1979 إلى نيويورك لمقابلة راي الذي كان يمر بفترة قاسية بعد أن اشتد عليه مرض السرطان، لكنه لم يكف عن العمل والحلم بتقديم الجديد، وكان يريد إخراج فيلم عن رسام متقدم في العمر يعاني من مرض عضال، يرغب في الذهاب إلى الصين للعثور على دواء لمرضه، غير أن صحة راي لم تكن تساعده على تحقيق هذا العمل الذي كان دون شك، يعكس ما يدور في داخله بعد أن أدرك أنه موشك على الموت، فآثر بدلا من ذلك، أن يشترك مع فيم فيندرز في عمل فيلم عنه هو، عن الأشهر الأخيرة من حياته، دون إعداد، وبطاقم تصوير كان شبه مقيم في شقة راي، في حضور زوجته سوزان التي كانت تصغره بأربعين عاما وظلت بجواره حتى النهاية.

وهكذا ظهر الفيلم التسجيلي، “غير الخيالي” “البرق فوق الماء” Lightening over Water الذي يمزج بين التمثيل أمام الكاميرا، والحقيقة التي غلبت تدريجيا على التمثيل، خاصة بعد أن أصبح راي لا يمكنه التفرقة بين الواقع والحلم، ووصل في النهاية إلى درجة الهلوسة الكلامية، وقد أطلق فيندرز على الفيلم “البرق فوق الماء” في إشارة رمزية فيما يبدو، إلى ذلك الاحتكاك الفريد في الأفكار بين الاثنين، وما تولدّه من ضوء.

كانت رغبة راي كما يقول أمام الكاميرا مباشرة داخل الفيلم – أن يكون الفيلم عن رجل يحاول أن يستجمع شتات نفسه، واستعادة نشاطه وحيويته، تراوده فكرة العودة إلى ساحة العمل و”تجديد شباب السينما”، قبل أن تنتهي حياته بالموت.

ويدور الفيلم الذي يظهر فيه فيندرز في دوره كمخرج وصديق للمخرج الكبير، مع مساعدي راي من الطاقم الفني، ويظهر من بينهم في أحد المشاهد على نحو عابر، جيم جارموش، الذي سيصبح واحدا من أشهر المخرجين الأمريكيين فيما بعد وحتى الآن.

مذكرات

يقوم فيندرز بالتعليق بصوته على الفيلم، من خلال شكل أقرب إلى المذكرات المدونة التي يقرأ منها، وهو يروي عن خلافاته مع مساعد راي “توم”، الذي يظهر كثيرا في الفيلم، أحيانا يقوم بالتصوير، وأحيانا يعرض الأفلام، كما يحتوي الفيلم على الكثير من لقطات من أفلام راي القديمة، ويتجمع فريق العمل في صالون منزله المفتوح لمشاهدتها بواسطة آلات عرض سينمائي من مقاس 35 مم، فلم يكن الفيديو أو الأسطوانات المدمجة قد ظهرت بعد، ويصور الفيلم العلاقة الدافئة بين راي وزوجته سوزان التي تمارس اليوغا معظم الوقت، كما تظهر ابنة راي في أحد المشاهد، تزوره وهو يرقد في فراش المرض بالمستشفى، ويدور بينهما حوار طريف يبدأه هو حينما يقول لها على سبيل العتاب الأبوي الرقيق: لقد كذبت علي.. فتنفي ذلك وتسأله:

  • هل كذبت أنت في حياتك؟
  • نعم
  • وهل كنت تكذب على أمي؟
  • نعم
  • لماذا؟
  • لأن قول الحقيقة يصبح أحيانا مسألة مربكة والمرء لا يحب أن يبدو مرتبكا!

يصور فيندرز حضور راي العرض الخاص لأحد أفلامه على طلاب الجامعة، ثم الكلمة التي ألقاها في الطلاب الذين حضروا العرض الاحتفالي، حيث بدا غير قادر على التعبير عن أفكاره.

وطوال الفيلم لا يتخلى راي عن التدخين، رغم معرفته بطبيعة مرضه، لكنه رغم اشتداد المرض عليه يبدو يقظ الذهن، منتبها، يدرك ما يدور حوله، بل ويجادل مع فيندرز، ويذهب أيضا للإشراف على تدريبات مسرحية معدّة عن نص لكافكا، تعتمد على ممثل واحد يقف فوق خشبة المسرح، يردد مونولوغ طويل، بينما يجلس راي في الصف الأمامي يوجهّه ويطلب منه الإعادة من نقطة معينة.

ولكون مشروع فيلم “البرق فوق الماء” بدأ بداية عشوائية، إذا جاز التعبير، فقد جاء مليئا بالعيوب، سواء تلك التي تتعلق بالمونتاج الذي يجعل بعض الانتقالات أحيانا غير مفهومة، أو بالكثير من الاستطرادات، وغموض بعض اللقطات وسوء تسجيل الصوت والإضاءة، ورغم ذلك تبقى التجربة جريئة وفريدة، فها نحن نتابع مخرجا سينمائيا في السابعة والستين من عمره يبدو وقد تجاوز السابعة والثمانين بسبب المرض، لكنه مع ذلك، يحاول ويفكر ويبحث ويعمل ويجادل.. إلى أن نشهد في النهاية في لقطة قريبة طويلة كيف أنه فقد القدرة على التركيز وأصبح يغمغم بهلوسات غير مفهومة. لقد تغلب الموت أخيرا على إرادة الحياة. أليس هذا مصير كل نفس!


إعلان