“بوتين.. الإمبراطور الجديد”.. زعيم يبعث الوحش السوفياتي من مرقده

يُكمل المخرج الفرنسي “جون ميشيل كاريه” ثلاثيته البوتينية بـ”بوتين.. الإمبراطور الجديد” بعد اشتغال طويل تحليلي الطابع على شخصيته وتأثيره في الأحداث التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد شغل ذلك أغلبية مساحة جزأيه الأولين “نظام بوتين” (2007) و”بوتين عاد” (2014)، ولم يبق أمامه سوى تغطية الجزء الأخير من مسيرة صعوده حاكما أوحد لجمهورية روسيا الاتحادية، وحلمه بعدها في أن يصبح إمبراطورا عظيما يتحكم في مصائر البشر والدول.

حرص صانع الثلاثية على ترابطها الداخلي، وفي الوقت نفسه حافظ على خصوصية كل واحدة منها، بحيث إذا ما فات المُشاهد جزء منها، فإنه يفهم ويعامل الجزء الذي أمامه كمنجز مستقل بحد ذاته، وإذا ما توفرت له الفرصة لملاحقة الثلاثية كلها فسيكون حينئذ قد ألمَّ بكل تفاصيلها، وعلى هذا الأساس جرى التعامل نقديا مع السلسلة، فكل جزء فيها يكمل داخليا الذي سبقه، لكنه يظل مستقلا عنه بتفرد موضوعه، كتفرد الأخير بالبحث في الأسباب الكامنة وراء صعود “فلاديمير بوتين” كحاكم أحيا الطموحات القومية للشعب الروسي، ولعب على أوتار رغبته الدفينة في إعادة أمجاد إمبراطورية بلاده القديمة.

شهادات السياسيين.. قراءة معمقة داخل البيت الروسي

لا يُطيل “جون ميشيل كاريه” ولا يُمطط موضوعه، بل يعمق ويوسع، وهذه واحدة من خصاله الأسلوبية، ولتحقيق ذلك كان دوما يتسلح بالصورة والبحث المجدي ولا يستنكف من الاستعانة بالأفراد، فتجربة أي شخصية مهما بلغت أهميتها لا يمكن الاكتفاء بعرضها من خلال ما يتوفر من خامات بصرية، بل تظهر الحاجة موضوعيا لإضافة الشهادات والإسهامات التحليلية.

 

وكما شاهدنا فقد كان لوزير الخارجية الفرنسي السابق “هوبير فيدرين” دور مهم في الفيلم، ليس من خلال تجربته كوزير رافق مسيرة صعود “بوتين” فحسب، بل لموقفه النقدي من السياسية الغربية التي ساهمت بعنجهيتها في صعوده، وفي تعزيز موقف روسيا دوليا، بعد أن شارفت على الموت وكادت أن تمحى من خارطة الأقوياء سياسيا.

أما على المستوى الذاتي فيلجأ الوثائقي إلى قراءة معمقة لخبراء وسياسيين روس انغمروا في الأحداث، فكان لشهادتهم دورا في إكمال مسارين شغلا المتن الحكائي للفيلم، وهما العامل الخارجي والعامل الذاتي، أما البناء السردي للمنجز كله فيعرف مخرج سينمائي مهم كيف يشيده بمهارة لا تخطئها عين، فكل الثلاثية -وبخاصة خاتمتها- مشغولة بأدوات بصرية تبعد عن مشاهدها الضجر، رغم عمق التحليل وتشعبه، لأنه اشتغاله هذه المرة لم ينصب على الشخصية لوحدها، بل ركز على العوامل الموضوعية الصانعة لها.

صورة للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على يسار الشاشة في شبابه سنة 1977

“لتعش سلطتنا العظيمة”.. احتفالية القضاء على النازية

اختار الجزء الأخير عام 2015 ليكون نقطة انطلاقه، واقترح مشهد المظاهرة الجماهيرية الحاشدة في موسكو بمناسبة الذكرى السبعين للقضاء على النازية وطغيان الروح القومية عليها، ومن خلال مقابلة بعض المشاركين فيها يظهر حجم التأييد الكبير للرئيس “بوتين” ووصفهم له بالزعيم القوي المعيد لروسيا عظمتها.

آراء الخبراء الغربيين أجمعت -بعد عرض مشهد المظاهرة عليهم- على عدم إدراك الغرب وسوء فهمه لروسيا وشعبها، ولحقيقة أن التغيير الذي حدث فيها لم يمس جوهر تكوينها كبلد ظل -رغم انتقاله من الشيوعية إلى مرحلة السوق الحر- محافظا على جوهر نظامه خلال المرحلتين، وهو نظام يمجد القوة ويقبل هيمنة طرف واحدة على شؤون البلاد والعباد.

ربع مليون مشارك هتفوا “لتعش سلطتنا العظيمة”، مجدوا حياة رجل عرف كيف يخاطب دواخلهم، وكيف يزيد من جرعة القومية والوطنية عندهم، فحمل الرئيس لصورة والده الذي سقط أثناء الحرب العالمية الثانية فيها كثير من الدلالات لم ينتبه الغرب إليها مبكرا.

 

إن تجاهل الغرب للتحولات الجارية في روسيا منذ وصول بوتين إلى الحكم، وعدم معاونتها في الانتقال السلس من مرحلة الاشتراكية إلى ما بعدها؛ ارتد عليهم، ورفع من شأن سياسي صار ندا لهم بدلا من أن يكون حليفا، حسب وصف وزير الخارجية الفرنسية الأسبق “هوبير فيدرين”.

لقد سيطر طغيان الشعور بالعظمة بعد نهاية الحرب الباردة وظل مسيطرا على قادة الغرب، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية، وبسببه لم يحسنوا اختيار الأسلوب الصحيح في التعامل مع عدو الأمس، الاتحاد السوفيتي ووريثه، فقد أرادوا إذلاله وإخضاعه لهم بالكامل دون تقدير لماضيه ودوره المهم. وبدلا من وضع نهاية للحرب الباردة بعد زوال “حلف وارسو”، تعاملوا معه وكأنه ما زال موجودا، فسعوا إلى توسيع حلفهم العسكري بدول كانت منضوية تحت لواء الحلف المنحل، لدرجة صرح فيها “بوش الأب” مزهوا قائلا: الحرب الباردة لم تنته بعد.

صورة تجمع “فلاديمير بوتين” مع الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي “بوريس يلتسن”

تجاهل اليد المنبسطة.. فرصة ضائعة للصداقة مع الزعيم الموعود

يراجع الوثائقي سياسة “بوتين” في مرحلته الأولى بعد انتخابه أواخر التسعينيات رئيسا للوزراء في عهد الرئيس “بوريس يلتسن”، وكيف مد يده إليهم، لكنهم بدلا من استغلال الفرصة تركوها معلقة في الهواء، وتجاهلوا الأزمة الاقتصادية الخانقة لروسيا، وشح الأسواق، وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض القدرة الشرائية إلى مستويات “المجاعة”، ثم تحالفوا مع الأوليغاركية الروسية الجشعة، فاشتروا بنوكها ومصانعها القديمة، وحصلوا على النفط والغاز بأسعار زهيدة، وكل ذلك خلق حالة من الفراغ والحاجة لوجود منقذ ينتشل الناس من أوضاعهم البائسة خلال مرحلة ما بعد الاشتراكية.

جاء “بوتين” في اللحظة المناسبة وظهر كزعيم موعود، فأبعد الأوليغاركيين وقبض بيد من حديد على مصادر البلاد الطبيعية، وسيظهر بعد فترة وجيزة كحامٍ لأمن البلاد واستقرارها، وتحت شعار محاربة “الإرهاب” ارتكب مجازر مروعة في الشيشان، ورغم فضح إعلام المعارضة أكاذيبه فيها وتلفقيه التهم إلى بعض من أهلها، فقد أيدته الأغلبية.

سيُصدم دعاة “نهاية التاريخ” الغربيين بالمتغيرات الحاصلة في بلاد ظنوا أنها انتهت، ولا أمل في عودتها إلى الحياة ثانية، ومع كل تلك التحولات الدراماتيكية أصروا بعناد على تجاهلها والمضي في سياسة الدخول إلى العمق الروسي من خلال ديمقراطية أوكرانيا وجورجيا.

هيمنة الغرب.. قلق يزعج وريث السوفياتية المتشددة

يُقدم الوثائقي صورة مذهلة لتدخلات الغرب في الثورات القومية الروسية، وتظهر الوثائق المعروضة خلاله مدى القلق الذي كانت تثيره عند الروس وعند رئيسهم الجديد الوارث لتقاليد سوفياتية متشددة إزاء هيمنة الغرب.

 

بعد اشتداد عوده داخليا ذهب “بوتين” لإعلان موقفه منهم وعدم السماح للدول المحيطة بروسيا بالانضمام إلى حلف الناتو، ورسم حدود إمبراطوريته بحدود دول الجوار، ثم مضى في سياسة عزل الغرب عنها والتفكير في توسيعها مستقبلا، وفي هذا السياق سيفهم العالم تدخله في شبه جزيرة القرم.

كل ذلك كان يحدث بينما كانت أوروبا موزعة بين خضوعها للإرادة الأمريكية، وبين تغليب مصالحها، مما أثار حمية الشعب الروسي، فراح يلتف حول زعيمه غير مبالٍ بالاتجاه الديكتاتوري الناشئ ولا بسلطته المطلقة.

تلميع الصورة.. عودة إلى عصر الأناشيد الجماهيرية

يرصد فيلم “بوتين.. الإمبرطور الجديد” تأثيرات الغرب السلبية على الحركة الليبرالية الروسية حين أعلن نفسه وصيا عليها وناطقا باسمها، وعلى جانب ثان يتوقف عند موقف “بوتين” من معارضيه ومن الإعلام المنتقد لتصرفاته واستغلاله المال العام لتعزيز سلطته، وقد عاملهم بقسوة، وصفى رموزهم، وسعى بكل قوته وبقوة موارد البلاد الطبيعة التي تكاد دائرة صغيرة من مقربيه أن تهيمن على مقاديرها، كل ذلك من أجل تغيير صورته السابقة كرجل مخابرات إلى صورة قائد دولة من طراز رفيع.

يكشف الوثائقي عمليات “بوتين” المنظمة لشراء مؤسسات الدولة الإعلامية وفتحه قنوات تلفزيونية خاصة به وبحزبه تبث ليل نهار دعايتها لتبييض صورته، وبفضلها سيصبح “بوتين” الرجل المحبوب الأول في البلاد، إذ تُلحن له الأغنيات وتنشد الجماهير له الأناشيد وستكرس الأبواق العالية في أذهانهم معادلة خطيرة تقول: الليبرالية لا تجلب سوى المشاكل والانقسامات، أما المركزية وتفرد زعيم مقتدر بالسلطة سيعزز الأمن والاستقرار.

غاز القيصر.. مصالح أوروبا القادمة من الشرق

بالتدريج يوصلنا الوثائقي الفرنسي المصنوع بعناية ورشاقة إلى بداية تشكل ملامح الإمبراطور، ويشرح كيف دفعت به الظروف الخارجية ليصبح حقيقة، وحين فاق الغرب على وجودها وجد نفسه عاجزا عن منعها أو حتى إيقافها عند حدها.

 

سيوسع المتجبر دائرة هيمنته الاقتصادية والسياسية من خلال تحالفه مع الصين وتشكيله حلف “الأوروآسيوي” كمعادل للوحدة الأوربية، وفي الحقل الاقتصادي سيكون الغاز الحلقة الأضعف التي يكمن من خلالها الضغط على أوروبا البراغماتية، فبالرغم من تأييدها للعقوبات الأمريكية ضده، فإنها استثنت مصادره النفطية والغازية منها.

عرف “بوتين” نقطة ضعفها، فعمل عليها ليوسع إمبراطوريته الناشئة في القسم الآسيوي والروسي من العالم، وبعد ظهور “الربيع العربي” سيكون رهانه على الحكام لا الشعوب، وستكون التجربة السورية مدخله الجديد إلى الشرق الأوسط وسط عجز الأمريكان والأوروبيين.

إمبراطور الحرب.. عودة الدب الروسي إلى الحظيرة الدولية

يخصص الوثائقي وقتا لا بأس به للحرب الأهلية السورية ودور روسيا في الإبقاء على سلطة بشار الأسد عبر تدخلها العسكري ضد المعارضة، غير عابئة باحتجاجات العالم ولا الأمم المتحدة. كانت سوريا رهانا حاسما، وبتجاوزه يبرهن للعالم قوته واستعداده لإعادة “الدب الروسي” إلى الحظيرة الدولية، ليكون قطبا مهما فيها، كما أرادها مطية لفرض نفسه إمبراطورا.

تكشف ملاحقة سلوك “بوتين” السياسي فيما يتعلق بالموضوع الديني وتعامله مع الإسلام عن دهاء ومكر، فبينما كان يعلن حربه على “الإرهاب” الإسلامي، كان يحرص على تقديم نفسه داخليا كمدافع عن حق الأقليات، ومنها المسلمة في العيش بسلام، والتمتع بحقوق متساوية مع غيرها من الأديان، وعلى المستوى “المسيحي” رأينا رهانه الكبير على الكنيسة وعلى دعم قادتها له، انطلاقا من فهمه لقوة تأثيرها على الناس، والأهم دورها في تعزيز وجوده كقائد أوحد للبلاد.

صاحب “ثلاثية بوتين” المخرج جون ميشيل كاريه

يستنتج الوثائقي حقائق تعززها مباحثه ومقابلاته والكم الكبير من الوثائق المصورة والأرشيف، وهي أن الإمبراطور “بوتين” صار حقيقة، أو على الأقل في طريقه ليصبح كما يتمنى، ومن جهة ثانية يستبعد إمكانية تراجع الولايات المتحدة عن سياستها المتعالية وشعورها الدائم بالتفوق، في حين لا يبدو الرهان على الصين المتسعة النمو والمفضلة لمصالحها الذاتية على الآخرين مجديا في إيجاد حلول تخفف من حدة التوتر بين الغرب وروسيا، وفي هذه الحالة لا تبقى إلا أوروبا، فهي وحدها التي لها مصلحة قوية في فعل ذلك.

فما مقدار صواب استنتاج المخرج “جون ميشيل كاريه” بعد طول بحث وتمحيص دقيق؟ لنترك للزمن الحكم عليه، لكن المهم بالنسبة للمتلقي هو مقدار ما قدمه له الوثائقي من إمتاع بصري وإثراء معرفي.


إعلان