توفيق صالح.. اغتيال معنوي لمن آمن بالضعفاء والقومية العربية

تواطؤ على موهبة صالح
الحقيقة التي تفرض نفسها في اللحظة وبعد رحيل الرجل؛ لقد كان لدى الدولة المصرية بالدرجة الأولى والوطن العربي بالدرجة الثانية رجل يُعدّ إمكانية حقيقية لإنجاز فني وإنساني قد يتجاوز أشهر رموز وصُنّاع السينما العالمية، لكن هذه الإمكانية أُهدرت عبر سلسلة من التواطؤات التي أجمع أصحابها أن رجلا بهذه القيم والاختيارات الفنية ممزوجة بتلك الحرفية والقدرات؛ قد يُشكّل خطرا على المياه الراكدة في الفن والمجتمع، وبالتالي ينبغي القضاء على المشروع في مهده، رغم مقاومة صالح حتى لحظاته الأخيرة.
لكن هل كانت هذه التواطؤات على مشروع الهرم السينمائي مُتعمدة؟ الحقيقة أن بعضها كان مُتعمدا، بينما جاءت الأخرى كنتيجة مباشرة لعدم التجانس بين من يؤمن بالصدق والاستقامة والشعوب ومصالحها في مواجهة من يؤمنون بالسلطة ومصالح أصحابها، وبين من يؤمن بالسينما كرسالة تدفع نحو الوعي الذي يسوق بدوره إلى التغيير في مواجهة من يؤمنون بدور السينما كوسيلة ترفيه فقط.
أغلب الظن أن المخرج المصري توفيق صالح ليس مجرد شخص مصري موهوب ومُسلّح بالمعرفة اللازمة صادفه سوء الحظ فلم ينجز سوى عدد قليل من الأفلام، وحصل في المقابل على تقدير فاق أقرانه؛ لكنه قيمة ومعنى لتجلّي العدالة الإلهية على الأرض، ومَثَلٌ لما يمكن أن يستقر عليه اختيار الشخص الحائر بين التمسك بمنظومة قيمية وبين ترك ضميره وسط أهواء نفعية مؤقتة.

حين تضيق علينا البلاد
كان المخرج المصري توفيق صالح مُضطرا للخروج من مصر بعدما أُغلقت كل أبواب العمل في وجهه وضاقت عليه مصر، فلم يجد حلّا سوى السفر إلى سوريا ومن بعدها العراق، ثم عاد إلى مصر عام 1984 مضطرا أيضا.
في مصر شرع في إخراج فيلم وتمتع ليوم واحد بتفاؤل كبير وشوق للبدء، لكن المنتج اتصل به معتذرا، وهكذا بقي حتى رحل من دون أن يقف في الأستوديو مخرجا.
توفيق صالح ابن لطبيب صعيدي دفعت به ظروف عمله إلى التنقل بين المدن، حتى استقر في الإسكندرية لفترة التحق خلالها توفيق بـ”فكتوريا كولج”، تلك المدرسة التي تخرّج منها في العقد الزمني نفسه بين الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كلٌّ من شادي عبد السلام ويوسف شاهين وعمر الشريف.
كانت الإسكندرية في ذلك الوقت هي مدينة التسامح والانفتاح على العالم كله، فثمة 13 جالية أجنبية تتخذ من عروس البحر موطنا، وتتعايش جنبا إلى جنب دون حساسيات تُذكر، وبفضل هذا التنوع ظهر يوسف شاهين الفرانكفوني ابن الطبقة الوسطى العليا الذي عشق السينما وتطوّر وعيه مع كل فيلم.
نشأ شادي عبد السلام باحثا عن هُوية حتى اكتشفها في المصرية القديمة وذاب فيها، بينما كان الكاتب والمثقف المصري أحمد لطفي السيد يتبنى التوجه المصري القومي ذاته، ونشأ عمر الشريف الذي وُلد على حافة المجتمع المصري واحتلّ هامشا لا يمكن القول إنه مصري تماما ولا غير مصري، كما اتخذ الشريف -فيما بعد– من العالم كله وطنا من دون أن ينتمي لوطن، وأخيرا توفيق صالح الذي آمن بالضعفاء والفقراء والقومية العربية ولقي مصيرها من حصار وتضييق واغتيال معنوي، حتى بقي مُحاصرا لآخر أيام عمره.

“رصاصة في القلب”.. بطاقة دراسة السينما
درس توفيق صالح الأدب الإنجليزي في جامعة الإسكندرية، وأخرج في عامه الدراسي الأخير مسرحية “رصاصة في القلب”، وعرضها في جمعية الصداقة المصرية الفرنسية، فكوفئ بمنحة دراسية طلب أن تكون في مجال السينما وسافر بالفعل.
لعل انصرافه عن الدراسة الأكاديمية وقراره بتثقيف نفسه عبر القراءة ومتابعة الأفلام السينمائية في دور العرض أولا بأول لثلاث سنوات بعد ذلك؛ هو الفعل ذو الدلالة الخاصة على ملامح توفيق صالح الذي قرر الابتعاد عن التعليم المؤسسي والخروج من عباءة سلطتها إلى رحاب المعرفة الحرة.

محفوظ وتوفيق.. ثنائي الحرافيش
والتقى توفيق بعد عودته من فرنسا بالروائي المصري الفائز بجائزة نوبل (1989) نجيب محفوظ، لتتشكل ملامح صداقة عمر امتدت حتى رحل محفوظ على ما بين الشخصيتين من اختلاف حادّ، فبينما يميل توفيق صالح للمواجهة ولا يقبل بأنصاف الحلول، فإن محفوظ –بحكم طبيعته– وضع كل طاقته وطموحه نحو التغيير في كتاباته، مُبتعدا عن أيّ صدام على أرض الواقع، فكان محايدا تماما خارج كتاباته.
لكن هذا لم يمنع من أن يُصبح توفيق صالح ثاني الحرافيش، وهو الاسم الذي أطلقه محفوظ على مجموعة الأصدقاء الذي كانوا يلتقون أسبوعيا في المقهى بقلب القاهرة، ومن ثم تحوّل اللقاء إلى ندوة أدبية وفكرية أسبوعية امتدت وانضم إليها الممثل والنجم أحمد مظهر وغيره، ورحل الكثيرون وانضم غيرهم، وبقي توفيق صالح واحداً من ثوابت الحرافيش رغم السفر والعودة لمرات كثيرة.
ورغم تحول حرافيش محفوظ إلى نغمة في الإعلام الثقافي والأدبي بمصر، وإدلاء الكثير من الكُتّاب والأدباء بتصريحات تخصّ الحرافيش ومحفوظ خاصة بعد فوزه بنوبل؛ فإن توفيق صالح لم يشأ الإدلاء بدلوه في الأمر تعففا عن المتاجرة بجلسة في نهاية الأسبوع مع صديق لا تعني سوى ذاتها.

“الأيام الطويلة”.. هروب صدام حسين
قدّم توفيق صالح على مدى 40 عاما في العمل الفني نحو سبعة أفلام روائية طويلة فقط، كان آخرها فيلم “الأيام الطويلة” (1980) الذي تم تصويره بين سوريا والعراق ولم يعرض في مصر حتى الآن، وكان أول أفلامه “درب المهابيل” (1954)، وتعاون فيه مع الكاتب نجيب محفوظ كمؤلف للفيلم.
توقّف توفيق صالح عن العمل سبع سنوات تقريبا حتى عام 1962، وذلك عندما قدّم فيلم “صراع الأبطال”، ثم أخرج بعدها ثلاثة أفلام هي “المتمردون” عن قصة للصحفي صلاح حافظ، و”يوميات نائب في الأرياف” (1968) عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الروائي توفيق الحكيم، ثم أخيرا “السيد البلطي” (1969) عن قصة لصالح مرسي، ثم سافر توفيق صالح إلى سوريا وقدّم فيلم “المخدوعون”، ثم توقف عن العمل تماما منذ ذلك الوقت مُكتفيا بعمله أستاذا غير مُتفرغ لمادة الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة.
ويتناول فيلم “الأيام الطويلة” قصة هروب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعد محاولته هو ومجموعة من حزب البعث اغتيال عبد الكريم قاسم سنة 1959.
“المخدوعون”.. اللجوء القاتل
أما فيلم “المخدوعون” فيدور في عام 1958 بالبصرة، حيث يقرر ثلاثة من الفلسطينيين الهرب إلى الكويت، وجميعهم ينتمون إلى أجيال متباينة، فالأول “بوفيس” من جيل نكبة الطرد في الأربعين من عمره، والثاني “أسعد” من الجيل التالي حيث طُرد من الرملة، وهو يمارس الهرب للمرة الثانية بعد أن هرب من الأردن، أما “مروان” فهو فتى خرجت به أسرته من فلسطين وهو طفل.
الثلاثة لا يثقون في المهربين الذين سبق لهم أن تركوا الهاربين وسط الصحراء، حيث يوافقون على الاختباء داخل خزّان عربة نقل المياه رغم أنهم في شهر أغسطس/آب الحار، وعند مبنى الجمرك يقوم رجال بممازحة السائق أبو الخيزران، بينما يموت الهاربون داخل الخزّان لقلة الأكسجين، ثم يُلقي السائق بجثثهم في القمامة.
“يوميات نائب في الأرياف”.. قتل وتزوير
تدور أحداث فيلم “يوميات نائب في الأرياف” في عام 1930، حيث يُصاب الفلاح قمر الدولة بطلق ناري، وينطق باسم ريم أخت زوجته قبل أن يلفظ الروح، وريم هي الشاهدة الحقيقية، لكن جمالها يلفت وكيل النيابة ويقبض عليها، فيضطر إلى أن يجعلها تبيت في منزل المأمور من أجل استكمال التحقيق، لكن المأمور يجذبه جمالها هو أيضا.
في الليل تهرب ريم دون أن يعرف أحد أن الشيخ عصفور هو الذي دفعها إلى الهرب، فينشغل أهل القرية ورجال الأمن عنها بأمور الانتخابات، وعقب انتهاء الانتخابات يتم اكشاف جثة ريم طافية على سطح مياه الترعة التي تتكدس في قاعها صناديق الاقتراعات التي تُلقي بها الإدارة التي تمارس التزوير.
ينتشل الأهالي الصناديق أثناء انتشال جثة ريم، ويجد وكيل النيابة نفسه أمام موقف لا يُحسد عليه، حيث يقرر أن يقدم طلب نقل بعد أن قام بتقييد القضية ضد مجهول.
“المتمردون”.. طبقية مقيتة
في فيلم “المتمردون” يذهب الدكتور عزيز للعلاج في إحدى المصحات العلاجية النائية وسط الصحراء، ويكتشف خلال وجوده في المصحة أنها تنقسم إلى قسمين:
قسم مميز مخصص للمرضى الأثرياء حيث ينعمون بالعلاج المنتظم والماء المثلج والمراوح في قيظ الحرّ اللاهب.
أما القسم الثاني فهو قسم الدرجة المجانية ويضم غالبية المرضى الذين يتكدسون في عنابر حُرمت من أبسط وسائل الحياة والعلاج، فيتمرد المرضى على الفساد السائد، ويستولون على المصحّة وقد هدّتهم المحنة، ويطردون المدير ويختارون الدكتور عزيز زعيما لهم، لكنهم يعجزون عن إدارتها.
وتقضي السلطات على التمرد لكن الأمل في التغيير يبقى ماثلا.

“السيد البلطي”.. تفكك أسري
وفي فيلم “السيد البلطي” تُصاب أسرة البلطي التي تعمل في الصيد بالتفكك بعد وفاة عميدها “السيد البلطي”، ويشعر أفراد العائلة بالفراغ الذي تركه رحيل عميدها.
وتعتقد الأم أن روح السيد البلطي تخلّت عن العائلة، فيترك “محمود” العائلة بحثا عن الثراء، ويقع في حب الراقصة “كايداهم”، ويعلن شيخ الصيادين “عبد الموجود” استغناءه عن السفن الصغيرة، ويقف “محمد البلطي” ضد هذا القرار، فتنشب بينهم العديد من الصراعات.

رقابة بالمرصاد
وباستثناء فيلم “الأيام الطويلة” فإن توفيق صالح قد اختار موضوعاته عبر منظومة قيمية تؤسس للسينما باعتبارها وسيلة لتوعية الجماهير وتثقيفها، بل وتحريضها على اقتناص حقوقها، وهو ما شكّل موضوع صدام دائم مع الرقابة التي كانت له بالمرصاد.
وقدّم توفيق صالح الذي يعتبره النقاد واحدا من أهم مخرجي الواقعية في مصر؛ ترميزا بصريا عبر أفلامه هروبا من الرقابة، وهو ما أثار حفيظة الرقباء وأصابهم بهوس، حتى إن أحد الرقباء يسأله عن فيلم “المتمردون” قبل التصريح به: ما معنى الشمس التي تشرق والماء الذي يُسكب على الرمال؟ فأجابه توفيق مبتسما: الشمس هي الشمس والماء هو الماء.
لم يكن وجود توفيق صالح في سوريا خاليا من الأزمات، بل إن رحيله كان بشكل ما بناء على تحذير بأن ما قدمه في فيلمه “المخدوعون” لم يُعجب القيادة، وأن الأمر لم يعد مأمونا، كما لم يكن وجوده في العراق خاليا أيضا من الأزمات.
فثمة مشهد في فيلم “الأيام الطويلة” كان ينبغي لبطل الفيلم “صدام حسين” أن يصرخ فيه، لأن جراحةً تُجرى له لاستخراج رصاصة من دون تخدير، لكن صدام الرئيس يعترض ويقول إنه لا يصرخ ولا يتأوه أبدا، ما يضطر صالح لتغيير المشهد ثم يعود بعدها إلى مصر.
في وطنه يتلقى صالح اتصالا من منتج ويلتقي به ويوقع عقدا، وفي المساء يتلقى اتصالا من صديق مقرب له ويلتقيان، فيطالبه الصديق بـ”عمولة” لأنه من أقنع المنتج به، فيبتسم صالح ساخرا ويطرد الصديق، ويتصل المنتج معتذرا عن إنتاج الفيلم، ويتفرّغ الرجل للتدريس في المعهد العالي للسينما. لعل من بين تلاميذه عبر 25 عاما من يُعيد سيرة مخرج واقعي ملتزم برسالة السينما.