“نساء في الظل”.. عبقرية العالمات اللاتي قوّضن جدران الفصل العنصري

لم يكن مُفاجئا للنقّاد والمُشاهدين أن يختار “المجلس الوطني لمراجعة الأفلام” بنيويورك فيلم “نساء في الظل” (Hidden Figures) للمخرج الأمريكي “ثيودور ملفي”، ليكون واحدا من أفضل عشرة أفلام عام 2016، إلى جانب “لا لا لاند” (La La Land) و”الوافد” (Arrival) و”مانشستر على البحر” (Manchester by the Sea) وغيرها من الأفلام الأخرى التي تألقت في المواضيع والتصوير والأداء، وحققت في خاتمة المطاف الرؤية الإخراجية لصنّاع الأفلام الأمريكيين الذي يعوّلون على خطاباتهم البصرية القادرة على توفير المتعة والفائدة للمتلقين من مختلف الأعمار والمستويات الثقافية.

لم يُنجز “ملفي” سوى فيلم روائي واحد وهو “القدّيس فنسنت” (St. Vincent) الذي أخرجه عام 2014، وقد حقق نجاحا تجاريا مقبولا، لكنه حظي باهتمام النقّاد الذين بشّروا بولادة مُخرج ناجح سيحفر اسمه بقوة في المشهد السينمائي الأمريكي.

وقد رُشح فيلم “نساء في الظل” لجوائز كثيرة، فنال 16 جائزة، لكن تظل جائزة “أفضل أداء لطاقم تمثيل” هي الأكثر إثارة لأنها تدل على تآزر كل الفنانين الذين أنجزوا هذا العمل المتمحور حول مواضيع كبيرة مثل التمييز العنصري، وحرب الفضاء وما إلى ذلك، من دون إغفال الجوانب الاجتماعية والنفسية والعاطفية، فقد وجدت طريقها إلى البنية العميقة لهذا الفيلم المشوِّق الذي يلهث أبطاله وراء الحُب، وتأكيد الذات، والأحلام، والعدالة الاجتماعية.

“قصة النساء اللواتي ساهمن في الفوز بسباق الفضاء”

يتكئ فيلم “نساء في الظل” على قصة حقيقية كتبتها المؤلفة الأمريكية “مارغو لي شيترلي”، وهي تحمل العنوان نفسه، مع إضافة محددة، وهي “قصة النساء الأمريكيات – الأفريقيات اللواتي ساهمن في الفوز بسباق الفضاء”.

سمراوات في وكالة ناسا يشهدن إطلاق مركبة “فرندشب” التي وضعن لها حسابات مدارها

ومن الجدير بالذكر أن عدد النساء في القصة الأصلية هو أربع نساء، وهن “كاثرين جونسون” و”دوروثي فوغان” و”ماري جاكسون”، و”كريستين داردِن”، وقد أُهملت “كريستين” في القصة السينمائية التي كتبتها “أليسون شرودر” والمخرج نفسه.

وربما جاء هذا الإهمال لتشابه الاختصاصات العلمية، لأن “كريستين” مختصة بعلم الرياضات وتحليل البيانات والديناميكا الهوائية، وليس بالضرورة أن تتطابق أحداث الفيلم مع الوقائع الحقيقية للنص الأصلي، فالخطاب البصري مختلف تماما عن الخطاب الأدبي، ويحاول تجاوزه وترويضه في معظم الأحوال.

تألق العقل الأسمر.. سيرة ذاتية في حقبة عنصرية

يُصنّف الفيلم بأنه فيلم “سيرة ذاتية” درامي وتاريخي، وهي توصيفات دقيقة تنطبق على موضوع الفيلم بمجمل شخصياته، وإن كان التركيز مُنصبا على الشخصيات النسائية الثلاث التي تُشكِّل الدعامات الرئيسية لقصة الفيلم.

تبدأ القصة بهؤلاء النسوة الثلاث، ثم تصعد بهن إلى الذروة، لتنتهي بنجاحهن المذهل الذي يُتوّج بتحقيق أحلامهنّ، والتغلب على الصعوبات القاسية التي واجهنها بشجاعة نادرة، وثقة لا نظير لها، أثبتت أن العقل البشري الأسمر لا يقل ذكاء وتألقا عن نظيره الأبيض، وربما يتفوق عليه في بعض الحقول العلمية، ويتراجع قليلا في حقول علمية أخرى.

لقطة من الفيلم تجمع البطلات الثلاث

لكن القصة السينمائية تقطع الشك باليقين بأن التكامل العلمي والاجتماعي والسياسي وما إلى ذلك، لا يكون إلاّ باجتماع الاثنين وانصهارهما معا في بوتقة واحدة تقوّض جدران الفصل العنصري، وتزيح كل أشكال الحقد والضغينة والتوتر العرقي، كي نتيح المجال لكل الأعراق والأجناس البشرية، لتحقق أحلامها وطموحاتها المشروعة بحياة جميلة عادلة، لا تفرق بين الناس على أساس اللون ولا اللغة ولا العرق ولا الدين ولا الطائفة.

“لم أرَ عقلا مثل عقل ابنتكم”.. ألق يكسر النمطية

تتمحور قصة الفيلم على فكرة رئيسة، وهي “التفرقة العنصرية” بأشكالها المتعددة التي تنتقص حق السود في الحياة الحرّة الكريمة في أمريكا، بدءا من المدارس والمعاهد والجامعات، مرورا بالمكتبات والمرافق العامة، وانتهاء بالعمل في المراكز العلمية والبحثية الحسّاسة مثل وكالة “ناسا” وغيرها من المنشآت الحكومية التي تتطلب قدرا عاليا من التكتّم والسريّة.

“كاثرين كولمن” الفتاة السمراء العبقرية التي أصبحت واحدة من عالمات وكالة ناسا الفضائية

وقبل أن نخوض في الفصل العنصري التي كانت مهيمنة في أوائل الستينيات من القرن الماضي، لا بد من الإشارة إلى فكرة لامعة وردت في بداية الفيلم على لسان معلِّم الرياضيات الذي قال مخاطبا والدَي الصبية السمراء “كاثرين كولمن”: في سنوات حياتي كلّها لم أرَ عقلا مثل عقل ابنتكم.

كان هذا اعترافا صريحا بعبقرية هذه الطفلة السمراء التي ستشق طريق حياتها، وتقفز على العقبات الصعبة التي تصادفها في دوائر الدولة ومؤسساتها الرسمية في ولاية فرجينيا.

ولا حاجة للمخرج لأن يتوقف عند الفتيات الثلاث، لأن الإشارة الخاطفة إلى “كاثرين” تُغني عن التركيز على الفتاتين الأخريين، فلقد وجدناهن جميعا نساء ناضجات يعملن في وكالة “ناسا” لكنهن يعانين من التفرقة العنصرية في كل شيء تقريبا.

“كاثرين كولمن” لعبت دورا محوريا في توجيه “جون غلين” عبر مركبته إلى الفضاء

كان الاهتمام منصبا على “كاثرين غلوب جونسون”، وقد أدّت دورها الممثلة “تاراجي بيندا هينسون” بتمكّن شديد، وخطفت الأضواء من بقية الممثلات، ووقفت ندّا للشخصيات الرجالية، ولا سيما “جيم بارسنز” و”كيفن كوسنر”.

لكن هذه الهيمنة لا تُغيّب أدوار الشخصيات النسائية الأخرى، فالأنساق السردية والبصرية تسير وفق بنية مدروسة، تكشف كل العقبات التي تقف في وجوه النساء السمراوات، وتحيط المتلقّي علما بتسلسل الأحداث وتداعياتها على مدار 127 دقيقة.

“كاثرين جونسون”.. سمراء تكافح في بيئة الرجال البيض

لا شك في أن المُشاهد سيتعاطف مع الشخصيات السمراء الثلاث، وهو يرى تعرضهن المستمر للتمييز العنصري بسبب اللون والعرق، منها مشهد الشرطي الذي يتوقف إلى جوار سيارتهنّ المتعطلة، ويدقق في هوياتهنّ الشخصية، ولولا عملهنّ في وكالة “ناسا” لوجدن أنفسهنّ في مراكز التحقيق.

شرطي يوقف الفتيات السمراوات ثم يطلق سراحهن بعد أن علم بأنهن يعملن في وكالة ناسا

وحينما انتقلت “كاثرين جونسون” من قسم الحوسبة الغربية التابع لمركز أبحاث “لانغلي” في هامبتون بفرجينيا بأمر من “آل هاريسون” مدير فريق العمل الفضائي، وجدت نفسها أمام تفرقة عنصرية مهينة، فهي لا تستطيع أن تستعمل حمّامات الموظفين البيض، وليس بمقدورها أن تتناول القهوة من الأباريق المخصصة لهم. إضافة إلى الإهانات المعنوية التي تتلقاها من رئيس المهندسين “بول ستافورد” والمُشرفة “فيفيان ميتشيل”.

لكن هذه المنغصّات كلها لم تُثبط عزيمتها، بل واصلت العمل بثقة كبيرة بالنفس، واحتلت المكانة الوظيفية التي لا يملؤها إلاّ موظّف مبدع من طراز “كاثرين” أو صديقتيها “دوروثي” و”ماري” وما شاكلهنّ من نساء موهوبات.

تهمة التجسس للاتحاد السوفياتي.. مقاومة لأجل البقاء

تعتمد القصة السينمائية -كما أشرنا سابقا- على السير الذاتية لبطلات الفيلم، الأمر الذي يضطر المخرج والكاتبة إلى تغطية هذه السير الثلاث، فيبدأ مع “كاثرين” وأسرتها الصغيرة المؤلفة من ثلاث بنات يسكنّ في غرفة واحدة.

“كاثرين جونسون” تنجح في إظهار الأرقام المخبأة للحسابات المدارية وتأكيدها

تفتقد “كاثرين” زوجها المتوفى كثيرا، لكنها ترضخ للأمر الواقع، وتقترن بالعقيد “جيم جونسون” الذي يمنحها زخما جديدا لتحمّل تحديات العمل وضغوطه المتواصلة، لا سيما بعد أن طلب منها “هاريسون” مدير الوكالة تدقيق البيانات، وتفقّد حسابات رياضية قام بها “ستافورد” الذي عادة ما يقلل من شأن عملها، ويرى وظيفتها “زائفة”، لأنها لا تستطيع الوصول إلى الحسابات والأرقام السريّة المخبأة عنها، لأسباب أمنية.

وحينما يطلب منها “هاريسون” أن تؤكد حسابات الانطلاق والهبوط لأحد الصواريخ، تعتذر لأنها لا تستطيع أن تعمل على شيء محجوب لا يمكن رؤيته، لكن مع كل العقبات الكثيرة التي تواجهها في العمل، تنجح “كاثرين” في إظهار الأرقام المخبأة وتأكيدها بواسطة حلّ المعادلة، مما يضعها في دائرة الاتهام بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي.

العالمات السمراوات يذهلن البيض بوضعهن الحلول الرياضية لمدار مركبة الفضاء

لكنها تقاوم التهمة حتى تثبت براءتها، فيمنحها مدير الوكالة بعد ذلك كل ما تحتاج إليه للمضي في المشروع الفضائي الأمريكي، لا سيما بعد أن أصبح السوفياتي “يوري غاغارين” أول رائد فضاء في العالم في 12 أبريل 1961، في حين وجد الأمريكيون أنفسهم في المركز الثاني أو الأخير في سباق بين اثنين لا غير.

حرمان السود من المدارس والمكتبات.. ألوان العنصرية

لا تختلف الصعوبات التي تواجهها “دوروثي فوغان” (الممثلة أوكتافيا سبنسر) عن زميلتها “كاثرين”، فهي تريد أن تصبح مشرفة القسم، لكنهم لا يمنحونها هذا اللقب مع أنها تستحقه وتمارسه كل يوم.

اظطهاد البيض لكاثرين أثناء العمل

كما أنها تعاني من التمييز العنصري الذي لا يسمح لها بدخول مكتبة عامة لاستعارة بعض الكتب، مما يضطرها لأن تسرق كتابا في لغة الـ”فورتران” الذي يُعنى بترجمة المعادلات، بحجة أنها دافعة ضرائب، وأنها أخذت شيئا دفعت حقه سلفا.

أما “ماري جاكسون” فقد حُرمت من دراسة الهندسة في مدارس البيض، ولكنها ترافعت مع القاضي الذي وافق في النهاية على حقها في متابعة الحصص الليلية، لتصبح أول مهندسة فضاء أمريكية ذات أصول أفريقية، وسوف تُعيّن لاحقا لتصبح مديرة برنامج “لانغلي” النسوي، وقد عُرفت بدعمها المتواصل للنساء الملوّنات في عموم الولايات المتحدة الأمريكية.

تحطيم لوحة الملونين.. وحدة تضع أولى لبنات النجاح

يعزو “هاريسون” قصور الأمريكيين إلى قلّة العمل وعدم تكريس الجزء الأكبر من وقتهم للفوز بهذه المنافسة التي تمنح الأمريكيين القِدح المعلّى، فهو يؤمن بأن الروس ليسوا أذكى من الأمريكيين، وليست تقنيتهم أفضل من التقنية الأمريكية، ولا أكثر تطوّرا منها، لذلك نصح الموظفين جميعا بالاتصال بزوجاتهم، كي يخبروهن بأنهم لن يغادروا بناية الوكالة، ما لم ينجحوا في إطلاق أول مركبة فضائية تدور حول الأرض.

“هاريسون” مدير ناسا، يوحد جهود العاملين ويلغي العنصرية في وكالة الفضاء

ثم يُحطِّم اللوحة التي تشير إلى مرحاض الملوّنين، ويقول إن اللون واحد في هذه الوكالة، وأن الجميع يحتسون القهوة من إبريق واحد، ولا فرق بين إنسان وآخر على أساس اللون والعِرق.

وهنا يتحقق ذلك التقدّم الذي نلمسه رويدا رويدا عند النساء الثلاث، فتحل “كاثرين” وتستخرج الأرقام المخبأة، ثم تشترك في اجتماعات الوكالة التي كانت حكرا على الرجال، وتحقق ما لم يحققه الرجال بحساب المنحنيات، وأرقام الإطلاق والهبوط، لكنها تجد نفسها فائضة عن الحاجة مرة أخرى، لأن الحاسبات حلّت محلهنّ، فيعتذر لها المدير “هاريسون” ويقدّم لها قلادة هدية بمناسبة زواجها من العقيد “جيم جونسون”.

“هل نصل إلى القمر؟”.. نجاح يفتح أبواب السماء

وبعد تحضيرات كثيرة، قررت الوكالة في 22 فبراير/ شباط 1962 أن تُطلق المركبة الفضائية “فريندشب 7” التي تحمل في جوفها “جون غلين”، ليكون أول رجل أمريكي يدور حول الأرض، لكن “غلين” يطلب من “كاثرين” الذكية أن تدقق له الأرقام، وبذلك تعود إلى وظيفتها السابقة بعد نجاح عملية الانطلاق.

مركبة “فريندشب” التي سيعتليها رائد الفضاء “جون غلين”

وحينما تندلع كرة نارية في نهاية المركبة وترتفع حرارة الدرع الواقي، تساعد “كاثرين” في حل هذه المشكلة الكبيرة، ليهبط “غلين” في مياه المحيط الأطلسي وتنتشله البحرية الأمريكية، بعد أن يسجل علامة فارقة في التاريخ الأمريكي.

ولعل سؤال “هاريسون” الأخير لـ”كاثرين” ينطوي على قدر كبير من الأهمية، حينما يتساءل مُستفهما وهو الراوي العليم: هل نصل إلى القمر؟ فيأتيه الجواب بفم واثق: نحن هناك سيدي.

“جون غلين” في ورطة فضائية تنقذه منها “كاثرين جونسون”

فمَن ينطلق بمركبة فضائية ويدور حول الأرض ثلاث مرات ويعود إليها بأمان، يستطيع حتما أن يصل إلى القمر ويعود إلى الأرض باطمئنان، وتضمن ذلك الأمر العقلية السمراء إذا ما تآزرت مع أختها البيضاء، مع التضادّ اللوني الذي قد يضع أحدهما في مواجهة الآخر، لكن هذه المواجهة اللونية لا تمنعهما من التوحد والاندماج والتماهي.

طاقم التمثيل.. تميز مبهر في الأداء وتوزيع البطولة

يستطيع المخرج الناجح أن يوزِّع البطولة على الشخصيات الرئيسة، مُحققا مفهوم “البطولة الجماعية” التي تلغي “البطولة الفردية”، أو تُحجِّمها في أقل تقدير، وهذا ما حدث مع الممثلة “تاراجي هينسون” التي جسّدت شخصية “كاثرين جونسون”، فقد كانت البطلة بامتياز لدورها المحوري في القصة السينمائية.

ولتوزيع النجاح، أخذ المخرج وكاتبة السيناريو منها بعض حضورها الفاعل ووزعاه على الشخصيات الأخرى، ولا سيما النسائية منها، ليخلقا في نهاية المطاف فيلما يعتمد على بطولة جماعية، لا تقتصر على البطلات السمراوات الثلاث، بل يمتدّ إلى “فيفيان” و”ستافورد” و”هاريسون” و”جون غلين”.

مخرج الفيلم، الأمريكي “ثيودور ملفي”

ولا يمكننا أن نُنكر الأداء المُبهر للمثلة “تاراجي هينسون” وتعاطف المُشاهدين معها، مع أن بقية النساء السود تعرّضن للتمييز العنصري، ولعل مردّ هذا التعاطف يعود إلى محاولة مسخ إنسانيتها، حين تمنع من دخول حمّامات البيض، ولا يُسمح لها حتى باستعمال الأكواب الخاصة ببقية الموظفين، وقد تألقت “تاراجي” في تأدية دورها على مدار الفيلم (127 دقيقة)، وكان أداؤها أكثر حماسا ودفئا من زميلتيها.

وخلاصة القول، إن الفيلم يخلو من أي شكلٍ من أشكال الرتابة، ولم يشعر المتلقون بالملل، بل على العكس من ذلك كانت القصة السينمائية مليئة بعناصر الشدّ والترقب والحذر، لا سيما ما يتعلق منها بلقطات ومَشاهد انطلاق المركبات الفضائية وهبوطها المحفوف بالخطر.

إنه فيلم آسر، ليس في أداء الممثلين فقط، بل في تصويره وموسيقاه ومَنتَجته ورؤيته الإخراجية التي نجحت في تجسيد البطولة الجماعية بهذا القدر الكبير من الدقة والتوازن والاحتراف.


إعلان