(تشيجاهارا) و(آبي).. تساؤلات الهوية

آية عبد الحكيم

شهدت خمسينيات القرن الماضي ظهور (الموجة الجديدة) في السينما في أوروبا والتي قدمت مجموعة من أهم مخرجي وصناع السينما، وتميزت بتفردها وخوضها لمغامراتٍ جديدة على صعيد الكتابة والإخراج. بالتزامن معها ظهرت موجة جديدة أخرى في اليابان خارجة عن الدراما اليابانية التقليدية المتحفظة التي استمرت لعقود. كان ظهور الموجات الجديدة في السينما طبيعيًا بعد نهاية الحرب، وعمق تأثيرها على نفوس الأشخاص الذين يصنعون الدراما، وخلقها لساحاتٍ جديدة لقصصٍ لم ترو، كذلك الحاجة إلى التمرد على ستوديوهات الإنتاج التي سيطرت على الصناعة وحالت دون تقديم أعمالٍ تجريبية جديدة.

هكذا سنحت الفرصة لظهور ثنائي من أفضل ثنائيات الموجة الجديدة اليابانية: الكاتب (كوبو آبي) والمخرج (هيروشي تشيجاهارا) واللذان سويًا صنعا صورة غير مألوفة وقدما تساؤلاتٍ وجودية وفلسفية حول الهوية والمغزى في إطارٍ درامي مميز وفريد لم يقدمه أحد قبل ذلك.

الكاتب (كوبو آبي) على اليمين، والمخرج (هيروشي تشيجاهارا)

(تشيجاهارا) نشأ في أسرة فنية، ولد في طوكيو ودرس الرسم وعمل كوالده في أحد الفنون اليابانية الفريدة: فن تصميم الورود، ثم بدأ في تجارب إخراج الأفلام الوثائقية القصيرة قبل أن يتقاطع دربه مع الكاتب (كوبو آبي). ولد (آبي) في طوكيو، لكنه تنقل مع أسرته كثيراً ولم يعد لليابان إلا شابًا. يصف نفسه بأنه “رجلٌ بلا وطن”، وربما لهذا ظلت (الهوية) هاجسه الخاص والأكثر ورودًا بكتاباته.

في أوائل الستينيات لم يكن صيت (آبي) قد ذاع بعد، لكنه كان يكتب منذ الخمسينيات ما لفت انتباه (تشيجاهارا) إليه، وحين التقاه أراد منه أن يكتب عملاً خصيصًا للسينما. وهكذا قدم الاثنان فيلمهما الأول ( Pitfall- الشَرَك) عام 1962. يبدأ الفيلم برصدٍ لهروب شخصين وطفلٍ صغير من مصيدة العمل في أحد مناجم الفحم للبحث عن فرصة عمل أفضل. نتيجة لتشابه أحدهما شكلاً مع أحد قادة اتحاد عمال المناجم يتم استدراجه إلى مدينة خاوية فر منها أهلها بعد حادث انهيارٍ في منجمها، ولم يبق فيها إلا امرأة تبيع الحلوى وتنتظر خطابًا من حبيبها يدعوها للحاق به. يُقتل الرجل فجأة على يد شخصٍ غامض، وتشهد المرأة وحدها على جريمة القتل. المدينة يقطنها أشباح من ماتوا فيها، وبينهم يبدأ القتيل في محاولة استيعاب ما أصابه ويتساءل عن مبرر قتله. الأشباح تبقى على الحال التي كانت عليها قبيل مصرعها؛ لذا حُكم على القتيل أن يظل جائعًا قبل موته وحتى أبديته، عالقًا بين الأشباح الأخرى وبين الأحياء الذين لا يرونه ولا يسمعون استنكاره لمقتله، ويبقى طفله الصغير هائمًا بين البيوت الخاوية غير مدركٍ لما أصاب والده.
يمزج الثنائي (آبي – تشيجاهارا) بين الدراما الاجتماعية وصراعات العمل النقابي، وبين فانتازيا كوميدية تظهر فيها الأشباح. بين جريمة قتل بوليسية، وتساؤلاتٍ حائرة لا تنتهي. يُظهران في فيلمهما طموحات هؤلاء الذين طحنتهم الحرب بعد نهايتها في قالبٍ جديد من السينما الممتعة والإنتاج المستقل البعيد عن التكاليف العالية المعتادة.

بعد نجاح تجربتهما الأولى لم يترددا في تقديم العمل الأكثر أهمية وشهرة بين أفلامهما سويًا: (Woman in the Dunes – امرأة الكثبان) عام 1964. كتب (آبي) سيناريو الفيلم عن الرواية التي قدمها عام 1962 ونال عنها احتفاءً أدبيًا بالغًا.
يحكي الفيلم قصة مدرسٍ قدم من طوكيو للصحراء ليبحث عن حشرة فريدة، إن وجدها وكتب عنها في أي مجلة علمية، فسيخلد اسمه بين علماء الحشرات. في بحثه يتساءل الرجل عمّا يمنح المرء قيمته. “بطاقة الهوية الشخصية؟ رخصة القيادة؟ عقد العمل؟ بطاقة التسجيل النقابي؟ ورود اسمه في مجلة علمية؟”. ينجرف الرجل في أفكاره حتى يفوته آخر باص للمدينة. يجده القرويون القاطنون ببيوتهم الصغيرة وسط الرمال، ويعرضون عليه المبيت في منزل تملكه أرملة وحيدة. المنزل يقع أسفل تبة رملية فيما يشبه الحفرة العميقة التي يتدلى الرجل إليها بحبالٍ يتحكم بها القرويون من أعلى. بعد قضاء ليلته وحين يود الخروج من حفرة الرمال، يكتشف أن الحبل لم يعد هناك. لقد تركه القرويون مع امرأة الكثبان الرملية ليشاركها وحدتها وليقضي الليل معها في جرف الرمال التي تغرق المنزل. محاولات الهرب تبوء بالفشل مع نعومة الرمال وانغراس ساقيه فيها لآخرهما، وصراخه الذي يضيع في صمت الصحراء أو بين ضحكات القرويين.

(امرأة الكثبان) 1964 / لقطة من الفيلم

يمكننا أن نشعر بالاختناق مع تلك الصورة الرمادية الكئيبة لرمالٍ على مدى البصر، والإرهاق مع عملية الجرف اللانهائية، وحقيقة أن لا مفر من ذلك، ثم نقف في حيرة لمشاهدة استسلام المرأة التام لمصيرها الذي ارتبط بدفن زوجها وطفلتها تحت تلك الرمال، وبين تمرد الرجل الدائم على وضعه واستنكاره لاستسلامها وللعقاب السيزيفي الذي كتب عليهما، وكل تلك الحيل -الظالمة للأرملة التعيسة- التي يحاول بها الهرب.
يظل الرجل يحلم بأن زملاءه في العمل سيبحثون عنه، أنه في أية لحظة سيظهر من ينقذه من هذه الحفرة. يفكر أنه ترك كتابه مفتوحًا وأنه لابد أن أحدًا ما سيهتم بالسؤال عنه وسيدركون مكانه وينقذونه. في حين تحلم المرأة بجهاز راديو يمكنها من الاستماع إلى الأغاني والموسيقى ويُؤنس سجنها الرملي الذي تسكنه برضا تام.
إن كانت فكرة (كوبو آبي) فريدة وتقدم تصوراً مختلفة للسجن بين الاستسلام والتمرد، فإن صورة (تشيجاهارا) تضعنا وسط الرمال وتغرقنا في فكرة (آبي) وتحمل من السيريالية والقسوة مثل ما تحمله من الجمال.

لم يتوقف (آبي) عن التساؤل عن الهوية فكان فيلمه الثالث الأكثر تجريبية وغرابة. في فيلم (The Face of Another – وجه الآخر) قصة جديدة عن رجل شوّه وجهه نتيجة حريقٍ كيميائي. يعرض عليه طبيبه خوض تجربة علمية مثيرة يصنع له من خلالها قناعًا طبيعيًا لوجهه. في البدء يرفض الرجل، ثم يبدأ في الشعور برفض العالم له، حتى زوجته ونفورها منه، فيتساءل –كما تساءل المدرس من قبله- عما يجعل المرء نفسه: هل هي ملامح وجهه؟ هل هو صوته الذي غيره اختفاء الوجه تحت الضمادات؟ أم طبيعته الأصلية التي غيرها الحادث بالفعل؟
بتورط الرجل في التجربة أصبح له وجه مغاير تمامًا لوجهه القديم، وهكذا قرر أن تكون له شخصية جديدة بذلك الوجه الجديد. كان هذا هو الهاجس الأكبر لدى الطبيب والذي رغم أنه رأى في الأقنعة الجديدة علاجًا لهؤلاء الذين فقدوا وجوههم ومعها انهارت حيواتهم وبهذه الأقنعة يمكنهم العيش مجدداً، لكن في ذات الوقت تلك الأقنعة والوجوه الجديدة تريد حياة جديدة لنفسها. تمنح تلك الوجوه فرصة لأن يكتشف المرء ما لم يكن يعرفه عن نفسه. هل إن أخفى وجهه يمكنه ارتكاب ما شاء من الأعمال المنافية للأخلاق؟ أو حتى لطبيعته القديمة؟ هل الوجه الجديد ليتقبله العالم من حوله، أم ليتقبل هو نفسه؟ تضع النساء مستحضرات التجميل التي يشبهها الرجل بالقناع، فلم لا يضع هو قناعًا كذلك؟

(The Face of Another – وجه الآخر)

بإخراجه المميز يرصد (تشيجاهارا) التغير الذي يطرأ على حياة الرجل ذي الوجه الجديد في حياته الجديدة، وحيرته بين ما كانه وما صار إليه. يصرخ الرجل في النهاية بالحقيقة التي وقرت في أعماقه: بلا وجه –أو بوجهه الجديد- هو لا أحد. لا أحد على الإطلاق.

التقارب الفكري والتناغم بين الثنائي (آبي – تشيجاهارا) وقدرة الاثنين على تقديم أفكارٍ جديدة ومميزة بجرأة، دون أن يفقدا الإسقاطات الواقعية والدرامية الجادة بين الإطار الخيالي الذي يقدمان من خلاله الشخصيات وصراعاتها، وسواء كانت تلك الصراعات بين الشخص وعدو لا يعرفه كما في الفيلم الأول، أو بينه وبين الطبيعة في الثاني، أو بينه وبين ذاته في الثالث، لكنها في كل الأحوال ستلمس المشاهدين وتضعهم في تجربة سينمائية غير عادية وساحرة.


إعلان