“أنَا إنغريد”.. هذه قصتي
قيس قاسم
فكرة إنجاز فيلم وثائقي عن واحدة من أشهر الممثلات في تاريخ السينما العالمية انبثقت عام 2011، حسب ما يخبرنا به المخرج السويدي “ستيغ بيوركمان”؛ “في مهرجان برلين السينمائي اِلتقيت “إيزابيلا روسيليني” وأثناء الحديث معها طلَبت مني بعفوية صناعة فيلم عن والدتها؛ إنغريد برغمان!. بعد اطلاعي على ما هو متوفر لديها من خامات فيلمية ورسائل شخصية وبعد مقابلة بقية عائلتها قَبلتُ الفكرة وشرعتُ في رسم بورتريه سينمائي عن نجمة زينت سماء هوليوود، رشحت سبع مرات لنيل جوائز الأوسكار وحصلت على ثلاث منها (اثنتان كأحسن ممثلة وثالثة كممثلة مساعدة في فيلم “جريمة قتل في قطار الشرق السريع”) ممثلة تألقت وهي في مقتبل العمر في “كازابلانكا” (الدار البيضاء،1942) التحفة الكلاسيكية التي لا يمكن لكل متابع وباحث في السينما إلا التوقف عندها.

عُرف عن الممثلة “إنغريد برغمان” ولعها بالتصوير وتسجيل كل تفاصيل حياتها بالكاميرا؛ الفوتوغرافية والـ16 ملم وحرصها على الاحتفاظ بمقتنياتها الشخصية أينما حلت، ولا غرابة في أن أغلب موجوداتها الشخصية (صور عائلية، رسائل شخصية، يوميات، رسومات وحتى كراسات مدرسية) معروضة في أرشيف/ متحف جامعة “ويسليان” الأمريكية ومن هنا كانت مهمة إنجاز فيلم عن حياتها كما سجلتها بنفسها مهمة سهلة، لكن الباحث عن سرد مختلف مثل بيوركمان، المخرج والكاتب في تاريخ السينما، يدرك أهمية إضافة عناصر جديدة إليها، تعطي منجزه تميزاً، فاقترح أن يكون أولادها هم من يقومون بهذا الدور، وعلى رسائها الشخصية المتبادلة مع صديقات عمرها يمكنه تشييد قسم من معمار نصه عليها. حرارة الرسائل وصدقها أضفيا المزيد من الشخصانية والحميمية على منجز أريد حتى لعنوانه أن يدلل عليه؛ “أنَا أنغريد”!

تروي برغمان (بصوت الممثلة أليسا ميكاندر) قصة حياتها بعذوبة ورقة تشبه رقة سلوكها الذي سهل عليها الدخول إلى عالم الفن. جمالها الآخاذ وترفها امتزجا بمآس عائلية، وربما يكمن سر جاذبيتها كممثلة في اجتماع العناصر المتناقضة في شخصيتها وفي التقاء التعابير المختلفة على وجهها. فهي بمقدار انفتاحها شديدة الخجل والحياء. في اللمحة البسيطة/المفتتح تكتب عن طفولتها في يومياتها وعن طغيان الشعور بالفقدان والحرمان داخلها. موت أمها المبكر وهي ما زالت طفلة والتحاق والدها بها إثر اصابته بمرض خطير سيترك أثراً عميقاً في تكوينها النفسي. تصف في يومياتها العام الذي رحل والدها فيه وتركها وحيدة؛ “عام الآلام”. الفراغ الذي تركه كان مؤلماً أثر على مستوى دراستها وأشعرها بإحباط شديد، ستحاول تجاوزه عبر بحثها عن وسائل مساعدة تعبر بها عن أحزانها وعزلتها. راحت تكتب وتصور كل ما يحيط بها ووجدت في المسرح ما يملأ فراغ روحها. خساراتها العائلية نفعتها من ناحية إضعاف قوة انجذابها إلى الجذور وبالتالي سهل عليها الانتقال من مكان إلى آخر. أثناء دراستها في مدرسة المسرح الملكي في ستوكهولم، عُرض عليها لعب أدوار سينمائية ثانوية. إجادتها لها كشف عن موهبة تمثيل كامنة فيها. وجدت في تجربة المسرح والسينما بديلاً عن وحدتها وشغفا بعيش الحياة رغم مصائبها.

دخول الوثائقي المباشر إلى حياتها الفنية أبعد عنه طابع المذكرات التقليدية. فدخول إنغريد إلى الفن جاء سريعاً ودون صعوبات. ففي بلد قليل الإنتاج نسبياً مثل السويد توفرت لها فرصة المشاركة في عشرة أفلام خلال خمس سنوات. كما أن سهولة وصولها إلى العالمية يدلل على صعودها الخارق. ثمة سبب آخر لاستعجال دخوله إلى عالمها الفني يتمثل في رغبته منذ البداية في إعطاء فرصة جيدة لأولادها الأربعة (بيا من الطبيب بيتر ليندستروم وروبرتو، إنغريد وإيزابيلا من المخرج الإيطالي روبرتو روسيليني) للحديث عن والدتهم وكيف تعاملوا مع انعطافات حياتها الدراماتيكية بخاصة وهم من أبوين مختلفين. تعرفها على السويدي بيتر ليندستروم وجولتها معه في أوروبا شكلت نقطة انعطاف عاطفي حاد في حياتها. أحبته مع فارق اهتماماتهم، ستقترح عليه لاحقاً الذهاب إلى الولايات المتحدة لا إلى أوروبا بعد أن شهدت بنفسها خلال تجوالها فيها مظاهر صعود قوي للنازية. أرادت الذهاب إلى عالم أكبر من ستوكهولم فاستجابت سريعاً لطلب “ديفيد سِلزنيك” منتج فيلم “ذهب مع الريح” لتلعب نفس دورها القديم في فيلم “أنترميزو” بنسخته الجديدة. وصلت إلى هوليوود وهناك نشأت بينها وبين معلمة اللغة الإنجليزية روث روبرت وإيرين سِلزنيك صداقة لم تنفصم عراها حتى آخر يوم من حياتها، منها ستنطلق إلى عالم النجومية وفيها ستنكشف ميولها لعيش السينما كما لو أنها الحياة نفسها، وستعلن عن طموحها في إشباع روحها التواقة لكل ما له علاقة بها، “أنَا لا أطلب الكثير.. أنَا أريد فقط كل شيء”!.

الشابة السويدية القادمة من شمال أوروبا الباردة ستقابل في مقامها الجديد نجوما كبارا مثل؛ كلارك غيبل، كاري كوبر، كاري غرانت وغيرهم وستطلب بعد نجاحها في “دكتور جيكل ومستر هايد، 1941″ والاكتساح العالمي الكبير لـ”كازابلانكا، 1942” ثم دورها المتميز في “لمن تدق الأجراس، 1943” (مقتبس من رواية للكاتب الأمريكي أرنست همنغواي وعنه رشحت لأول مرة لنيل الأوسكار) الوقوف أمامهم وبعد انتشار سمعتها كممثلة قادرة على أداء أصعب الأدوار وتمتعها بحضور رائع توج بجائزة أوسكار أحسن ممثلة عام 1944 عن دورها في “Gaslight” ستنهال عليها العروض ويطلبها للعمل معه مخرج كبير مثل “ألفريد هتشكوك” فيNotorious و Spellbound. نجاحاتها الكبيرة وامتداح النقاد لها شجعها على الخوض في مغامرة “جان دارك” عام 1948 تحت إدارة المخرج “فيكتور فلمينغ”. كل تلك المنجزات تطلبت وقتاً وجهداً كبيراً وثمناً دفعته عائلتها وعانت منه طفلتها “بيا” التي تحدثت عنها بشيء من الضبابية وكأنها لم تكن موجودة أصلاً. ستتدهور العلاقة بين الطبيب والممثلة الصاعدة بقوة وتنتهي بانفصال، سبقته عاصفة إعلامية حين تسربت معلومات عن إقامتها علاقة عاطفية مع المخرج الإيطالي “روبرتو روسيليني” وهي على ذمة زوجها.

توصف المرحلة الممتدة من بداية الأربعينيات إلى نهايتها بالفترة الهوليوودية الذهبية فيما ستوصف الفترة اللاحقة لها والتي اقترنت بالعمل في إيطاليا بالمرحلة الباردة. فبسبب نظرة روسيليني إلى السينما واختلاف طبيعة منجزه عن الأنماط التجارية السائدة لم يتقبلها الجمهور بسهولة بخاصة رائعتيه “روما، مدينة مفتوحة” و”سترومبولي”، لكنها على المستوى النخبوي الأوروبي ستشكل علامات فارقة في تاريخها. لم تكن مشاركتها في الأفلام الإيطالية موضع رفض الجمهور الأمريكي وصناع سينماها فحسب، بل أيضاً العلاقة بصاحبها. هاجمتها الصحافة ولم يسامحها الجمهور على سلوكها فأنزلوها من العرش الملكي إلى الأرض وعاملوها كـ”ضالة” لا تعير اهتماماً للقيم الأخلاقية. قرروا حرمانها من أحب الأشياء إليها: السينما. من جهتها عاشت إنغريد في روما تجربة عاطفية توجت بزواج أنجبت خلاله ثلاثة أطفال عاشوا في بحبوحة لم ينقصهم خلالها سوى غياب والدهم عنهم مدداً طويلة، سيعلن بعد عودته من واحدة منها ارتباطه بامرأة هندية. سيترك هجرانه لها أثراً عميقاً في نفسها وستضطر للعودة ثانية إلى السويد. تلك المرحلة الهائجة غطت تفاصيلها الكاميرا المحمولة واليوميات المكتوبة وبمزجهما انتقل سرد الفيلم من المستوى التقليدي إلى مستوى السرد الشاعري، المصحوب بموسيقى رائعة كتبها “مايكل نيمان” وأضفى مونتاج (دومينيكا داوبنبوشل) المركب والمتوازي عليها جمالاً وعمقاً كما سمح بعرض وجهات نظر أطفالها في كل مرحلة زمنية مرت بها.

يُثير “أنَا إنغريد” أسئلة تتعلق بعلاقة المشاهير بأطفالهم وصعوبة فهم الطرف الأخير لوظيفة الفنان، الكامن في دواخل ذويهم. أحاديثهم ومواقفهم من والدتهم تعبر عن تعقيد والتباس وفي أحيان كثيرة عن غضب غير محدد الدوافع. كما تُزيد الامتيازات الاقتصادية والحياة المترفة تعقيداً إليها، فكلما كانت مؤمنة لهم قلَّ تذمرهم وعكسها ستظهر الاحتجاجات بقوة. يعترف بعضهم بأنانيته وعدم إتاحة الفرصة لنفسه التفكير بكل خطوة قامت بها والدتهم بخاصة على المستوى العاطفي فيما يجدون مجدها وشهرتها سبباً في تعاستهم. تكويناتهم لا ينقصها التناقض والميل إلى التعامل مع الوقائع بلا مبالاة أحياناً. يمكن اعتبار مشاركة أبناء الممثلة السويدية في فيلم عنها خطوة نحو فهم أفضل لها كممثلة سينمائية إبداعها أملى عليها تقديم تضحيات وتنازلات غير منظورة، لا يشعر بها عامة الناس، بل حتى أقرب المقربين إليها.

من خلالهم يتوقف الوثائقي عند طريقة تفكير “إنغريد برغمان” وقوة شخصيتها وفهمها للحرية الفردية والدفاع عنها. مثلت مواقفها “الأوروبية” تعارضاً مع الأمريكية المحافظة ولهذا كان انتقالها إلى السينما الأوروبية ضمن هذا السياق وتجربتها مع المخرج العبقري “إنغمار برغمان” جسدت جزءاً منها. جسدتها عبر مشاركتها، وهي في سن متقدمة، في نوع خاص من السينما يميل إلى الغور في جوانيات الكائن ويبحث عن الجوانب النفسية المكونة له، عكس الهوليوودية الميالة إلى التسطيح والبهرجة وفيلم “أناستاسيا” (نالت على دورها فيه أوسكار أحسن ممثلة للمرة الثانية) لا يحيد عن هذا الفهم السينمائي والفكري في النهاية. من بين أجمل أحاديث الممثلة في سن ظهرت التجاعيد واضحة على وجهها وذبلت نضارة جسدها، حديثها عن علاقة الممثل بالمخرج المقتدر، المتمكن من إخراج أحسن ما في داخل الممثل وتقديمه إلى جمهور يعامله ككائن مبدع لا يلتفت إلى شكله بمقدار التفاته إلى ما يعبر عنه من أحاسيس ومشاعر ويقدر قدرته على توصيل الأفكار. ستتوج كل تلك المفاهيم خلال عملها مع إنغمار برغمان في السبعينيات وقد انتشر السرطان في جسدها. يمرُ المخرج “بيوركمان” سريعاً على تجربتها المسرحية ـ خلال فترة إجازتها الإجبارية من السينما ـ وعدم اكتراث السويد بها، ما دفعها للتفكير ثانية بالعودة إلى هوليوود، التي لم تحقق فيها ما كانت قد حققته من قبل، لكنها على الأقل استطاعت ثانية التعايش معها ومع جمهورها لتغادر بعدها العالم بسلام، تاركة وراءها أثراً ابداعياً لن يمحى!.
